أ.
د. عماد الدين خليل
تغطي
مرحلة الحروب الصليبية قرنين من الزمن، وتمتد في المكان لكي تشمل الجزيرة الفراتية،
والشام، وفلسطين، ومصر.. وقد أتاح لها هذا الامتداد في الزمن والمكان، أن تنطوي على
خبرات خصبة في السلب والإيجاب، وعلى المستويات كافة: عسكرية وسياسية واجتماعية
وحضارية.
وقد
ترك هذا كله الباب مفتوحاً لعشرات من الموضوعات التي يتناول الواحد منها هذه
الحلقة أو تلك، فيما أتاح للباحثين، وطلبة الدراسات العليا، فرصاً واسعة لاختيار
الموضوعات البكر والمناسبة.
وهكذا
راحت المكتبة التاريخية تشهد دفقاً لا ينضب من البحوث والدراسات والمؤلفات ورسائل
الماجستير وأطروحات الدكتوراه، وكلّها تمتح من هذه البئر السخية، التي لم ينضب أو
يشح ماؤها يوماً.
وتواريخ
(المدن) و(الإمارات المحلية)، عرفها مؤرخونا منذ عهود مبكرة، في مجال الكتابة التاريخية. وقد نشأت أول ما نشأت - كما يؤكد دارسو نشأة علم التاريخ
عند المسلمين - بدافع من النقاش المستمر الذي شهدته مدن العالم الإسلامي، ضمن إطار
الدولة الواحدة، حيث أخذ المؤرخون يعدّدون ويستعرضون، كلّ مناقب ومزايا المدينة
التي عاش فيها، ونهل من معارفها، وراح المثقف المسلم يقرأ عن مناقب بغداد، أو
البصرة، أو الكوفة، أو دمشق.. وهكذا.. ورغم بعض المبالغات التي مارسها أولئك
المؤرخون في كتاباتهم، فقد جاءت تواريخهم تلك معبّرة عن مدى الحيوية والمرونة التي
تميزت بها الحياة الإسلامية، ومدى التنافس الإيجابي الذي كان يشحذ عقول الناس إلى
مزيد من العطاء والإنتاج والتطور. هذا فضلاً عن أن تلك التواريخ قدمت لنا مصادر
على درجة كبيرة من الأهمية للمؤرخ الحديث، لما تضمنته من جزئيات وتفاصيل وجوانب
حضارية لا يمكن بحال أن نعثر على عشر معشارها في التواريخ العامة الشاملة.
وفي
المرحلة التالية، عندما ضعف مركز الدولة، وأخذت المدن والأقاليم تنفصل وتحصل على استقلال كامل أو جزئي، في سياستها وإدارتها، ازدادت تلك التواريخ
المحلية عدداً وخصباً، وازداد التنافس بين مؤرخي كل بلد عمقاً، وأخذت تنثال
المصنفات الخاصة بمدن وأقاليم وإمارات تنتشر على أراضٍ شاسعة، تحدّها من الشرق
بلاد الصين، ومن الغرب بحر الظلمات. وما هذه التصانيف في الحقيقة إلاّ صورة من صور
(الإيجابية)، التي تميّزت بها ظاهرة التنوع التي رافقت نشوء الإمارات والدويلات
الإسلامية.. فلو أن كل مؤرخ حرص على تدوين تاريخ مدينته، أو الإمارة التي يعيش
فيها، لغطّت تصانيفهم معظم مساحات تاريخنا، ولوجد الباحث المعاصر أمام عينيه سيلاً
من المصادر التي تضمّ الكثير الكثير، مما لا يمكن أن يعثر عليه في التواريخ
العامة. فلا ريب أن الذي يكتب عن مساحة مكانية وزمانية محددة، يرتبط بها بأكثر من
رباط، يكون أكثر قدرة على الإلمام بالتفاصيل والجزئيات، من ذلك الذي يكتب عن
تواريخ لا يحدّها مكان أو زمن محدود.
ونحن - إذا نظرنا فقط إلى التواريخ المحلية، في
الفترة التي تقع هذه الرسالة في دائرتها - لطالعتنا أسماء مؤلفات عديدة لابن
الأثير، والفارقي، وابن العديم، والأربيلي، وابن واصل، والبنداري، والعماد
الأصفهاني، وأبي شامة، وابن قاضي شهبة، وابن تغري بردي، والمقريزي، والحنبلي،
والدواداري، والسخاوي، وابن الشحنة، وابن شداد، وابن القلانسي، وابن المستوفي،
والأزدي.. وغيرهم.
وليس
لباحث أن ينكر ما في بعض هذه التواريخ من (إقليمية)، نجد ملامحها السيئة واضحة في
مظاهر المبالغة، والتحيّز، وعدم التزام الموضوعية. لكن الفوائد التي جناها،
ويجنيها، البحث التاريخي، من هذه المؤلفات، تطغى – ولا شك - على مآخذ كهذه، يمكن
للمؤرخ المعاصر أن يتجاوزها، لا سيما وقد توافرت أمامه معلومات متكاملة تتيح له
المقارنة والترجيح، والرفض أو التسليم.
هذا
فضلاً عن أن أبحاثاً (محددة) كهذه، تقدم لنا نماذج خصبة عن التطور الذي طرأ على
أسلوب البحث التاريخي لدى المسلمين، حيث أخذوا يتجهون من كتابة التواريخ العامة،
صوب مصنفات تتناول جوانب محددة من تاريخ الإسلام السياسي والحضاري، وتنصبّ على
مدينة، أو إقليم، أو إمارة محدودة بحدود مكانية أو زمنية، وهو المنحى نفسه الذي
تنحاه الأبحاث الأكاديمية الحديثة، التي تسعى - قدر الإمكان - إلى تحديد موضوعاتها،
والابتعاد عن تلك التي تضيّع الباحث بامتدادها الزمني أو المكاني، وتفقده - بالتالي - القدرة على التركيز والاستقصاء
والإلمام وعمق التحليل.
تتناول
الرسالة التي بين أيدينا، والتي تحمل عنوان: (حماة الأيوبية: دراسة سياسية حضارية 570-742 هـ/ 1174-1341م)، معطيات التاريخ السياسي والحضاري لمدينة (حماة)
في عصرها الأيوبي، الذي يتجاوز القرن ونصف القرن، عاصرت خلاله الغزوتين الصليبية
والمغولية (التترية)، فضلاً عن منظومة من الممالك، ودويلات المدن الأيوبية،
والمملوكية، ولعبت دوراً ملحوظاً في الوقائع السياسية والعسكرية لهذه القوى.
وقد
تناولت الرسالة هذا الدور بتفاصيله كافة، مستقصية، محللة، وأضافت إليه فصلين
موسعين من التاريخ الحضاري لحماة في مرحلة البحث، تناول أوّلهما تخطيط المدينة
وتطورها العمراني، وبحث ثانيهما في الحياة الثقافية.
والفصلان
يعكسان بحق، جهداً ملحوظاً في استقصاء المفردات المبعثرة في المصادر المختلفة،
ولّمها في سياق واحد، تتضح معه تماماً صورة النشاط العمراني والثقافي لهذه
المدينة. وإن كان المرء يتمنى، من أجل إتمام الموضوع، أن لو أضيف إلى هذين الفصلين،
فصول ثلاثة أخرى تستكمل معها الجوانب الحضارية كافة، ألا وهي: النظم الإدارية،
والنشاط الاقتصادي، والحياة الاجتماعية. وقد يبرّر المؤلف غياب هذه الفصول بشحة
المادة التاريخية عن هذه الجوانب، وربما انعدامها، لكن جهداً كالذي بذله في
الجانبين المذكورين، والذي يعكس قدرة متميزة على التقاط المفردات، كان يمكن أن
يعين الباحث على المضي قدماً في بناء الفصول الثلاثة الأخرى.
هوامش
الرسالة، وقائمة مصادرها، ومراجعها، بما فيها المخطوطات، واستقرار المؤلف في حماة
حيناً من الدهر، والنتائج التي خلص إليها، في دراستيه السياسية والحضارية، توحي
بقوة يد الباحث على الأداء، وتنبئ بأنه سيواصل الطريق لتقديم المزيد.
عرفت الأخ الدكتور (علي نجم عيسى) باحثاً جاداً، ومحققاً
رصيناً.. ولدى حصوله على الدكتوراه لم يلق القلم جانباً، كما فعل ويفعل الكثيرون
من خرّيجي الدراسات العليا، وإنما شمّر عن ساعد الجد، معتقداً – بحق- أن الحصول
على الشهادة هو بداية الطريق.. وراح يشتغل في ساحتْي التأليف والتحقيق، الأمر الذي
تمخّض عن عدد من الإنجازات التي تحسب له، والتي يمكن أن تكون درساً لزملائه في
ضرورة (الاستمرار)..
ربي يحفظك د عماد الدين خليل
ردحذف