أركان الطغيان من الاستبداد السياسي والاقتصادي والاجتماعي
والإعلامي والديني تتجلى في الظاهرة الفرعونية، وكل طاغية أو مستبد له نصيب من هذه
الظاهرة العالمية، بأي اسم كان.
الحضارة الغربية التي تنادي بالعدل والمساواة والحرية والديمقراطية،
لها نصيب وافر وعريض من الفرعونية العالمية، لممارستها النفاق في تعاملها. فهي تغض
الطرف عن المجازر والمذابح والانتهاكات في العالمين العربي والإسلامي – وقد تكون هي
صانعة ومدبرة ومؤججة نيران المعارك والحروب لمصالحها - حيث يقتَّل ويشـرد مئات الآلاف،
والملايين، على أيدي الأنظمة الدكتاتورية، وتتماطل في التعامل مع الأحداث، بينما تملأ
العالم ضجيجاً إذا انتهكت حقوق كلب أو قط في بلدانها.
الإيدز السياسي:
يقول الدكتور (فؤاد البنا): "عندما تظهر عاهة في الجسد،
دون أن تجد اليد الحانية التي تمتد إليها، فإنها تتطور مع الزمن حتى تصبح مرضاً مزمناً،
ويمكن أن يستفحل هذا المرض، ويستبد بالجسم، ويصيبه بالعجز، عندما يتحول مع طول المدى
إلى (سرطان). ومهما كانت بداية هذا المرض، في الرأس أم في الجسد، فإنه ينتقل إلى سائر
الأعضاء. والاستبداد السياسي هو الاسم القديم للسـرطان، غير أنه لا يصيب جسم الفرد
فقط، كالسرطان، وإنما يصيب جسد المجتمع بكامله، بعقله وقلبه وروحه وجسده، برأسه وأعضائه
وحواسه، بخلاياه وعروقه. وعندما يصل الجسد إلى هذه الحالة، فإنه يفقد المناعة الذاتية،
ويسلب كل إمكانات المقاومة، وهذا هو الإيدز السياسي الذي أضفى على كل ممارسات الطغاة
والمستبدين مسحة من الإنسانية الظاهرة، والديمقراطية المصطنعة".
خصائص الفرعونية العالمية
من خلال ملاحظة خصائص الفرعونية العالمية، وسماتها، في القرآن
الكريم، نرى أنه يتولد في محاضنها كل فكرة خبيثة؛ وكل خُلُق مذموم وهدّام؛ وكل أسلوب
من خلاله يطيل عمر الاستبداد والطغيان والاحتكار، والتي بها يزداد إذلال واضطهاد الشعوب،
واستنزاف قدراتها وثرواتها.. وكل ذلك قد يأتي باسم الإصلاح، ونشـر الحرية والسلام،
وتحسين مستوى المعيشة والتعليم، ورفع دخل الفرد، ومحاربة الفقر والأمراض، لتقنن لها
القوانين، وتوضع الدساتير، وتعقد المؤتمرات، وتجتمع البرلمانات، لإعطاء هذا الاضطهاد
والاستبداد صفة الشرعية والقانونية، أمام أنظار العالم، والجماهير الساذجة.. أما على
أرض الواقع، فتكون النتائج على خلاف ذلك تماماً.
ومن هذه العلامات:
1-
التفكير
التعويضي أحادي الرؤية:
قوله تعالى: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى
وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ [غافر:29].
فرعون بكلامه هذا يحجر على عقول أتباعه، ويمنع عنهم التفكير
الصحيح، وحتى الاستماع للدين الجديد، طالما - باعتقاده - أنه يمتلك سبل الوصول إلى
سبيل الرشاد. يقول (سيد قطب) في تفسير الآية: "هنا يأخذ فرعون ما يأخذ كل طاغية
توجه إليه النصيحة. تأخذه العزة بالإثم. ويرى في النصح الخالص افتياتاً على سلطانه،
ونقصاً من نفوذه، ومشاركة له في النفوذ والسلطان... إنني لا أقول لكم إلا ما أراه صواباً،
وأعتقده نافعاً. وإنه لهو الصواب والرشد، بلا شك ولا جدال! وهل يرى الطغاة إلا الرشد
والخير والصواب؟! وهل يسمحون بأن يظن أحد أنهم قد يخطئون؟! وهل يجوز لأحد أن يرى إلى
جوار رأيهم رأياً؟! وإلا فلم كانوا طغاة؟!"..
ويمتاز هذا النوع من التفكير، الذي يسميه الدكتور (خالص جلبي)
بـ (العقل النقلي)، بثلاث صفات:
- تمرير
الأفكار دون مناقشة، حيث يتحول العقل إلى وعاء يضم كمّاً فوضوياً من الأفكار، دون نسق
معرفي.
- تكرار
الأفكار دون تمحيص، حيث تتشكل الدوغمائية (العقيدة المتصلبة). وتعني: حمل أفكار متضاربة
تصل إلى درجة التناقض، دون شعور حاملها بذلك.
-
تبرير الأفكار والدفاع عنها حتى الموت، حيث تتشكل العقلية
أحادية الرؤية، التي ترى الكون من خلال منظار بلون خاص، مبني على التطرف؛ فالوجود أبيض
أو أسود، والبشر هم إما في خانة طاهر مقدس، أو دنس حقير، معنا أو ضدنا، والنشاط الإنساني
يقوم ليس على تحرير العقل، بل اصطياد الأتباع.
فمع العقل النقلي تنمو الحافظة، ويزداد التقليد، يشتد التعصب،
ويتعمق اتجاه العنف، يتحنط العقل، ويتوقف النمو، يتعطل التطور، وتصبح الحياة مستحيلة؛
بسبب تشكل طريق ذو اتجاه واحد، لا مجال فيه للمراجعة".
هكذا غابت الحرية، وحوربت، "وحين تغيب الحرية – ربما
– لا يتحول الناس إلى مجانين، ولكنهم يفقدون النظرة الصائبة للأمور، فنرى الفرد في
تمام وعيه وإدراكه، بينما الجموع تبدو غائبة عن الوعي؛ لأنها تفقد وسيلة التفاهم بين
الأفراد في مجتمع أخرس، له صفات القطيع، لا تجمعه سوى إرادة الراعي، الذي يحاكم بعصاه
من يتجرأ فيفكر، أو يسمح لعقله أن يتحرك، لأن الراعي يرى أن حركة العقل أخطر من تحرك
وحدة الدبابات.. ولذلك فهو لا يقبل أن يستخدم القطيع عقله، لمجرد التفكير في تأييده،
إلا بإذنه، حتى لا يتعوّد أفراد القطيع على التفكير؛ فيفقد الراعي سلطانه ".
2-
التآمر
والتهديد:
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى
وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي
الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾ [غافر:26].
إنه التآمر العالمي الخفي، وغير المباشر أحياناً، على الشعوب
النائمة، والمستضعفة، والمنادية للعيش بحرية وكرامة، باسم العدالة والمساواة والعمل
على محاربة الإرهاب ومكافحة الفساد، وباسم الإخلال بالأمن القومي أو الوطني.. وحتى
التآمر على الشعوب المتيقظة، أو المتحضـرة، باسم الحفاظ على الأمن العالمي، والحروب القادمة
والمتوقعة، وأحقية التجسس الفضائي، والكوارث الكونية القادمة، التي فيها نهاية العالم،
التي يثيرونها بين الفينة والأخرى، لتعيش هذه الشعوب على هاجس الخوف والدمار باستمرار،
لذا يشغلونها بالانحلال الأخلاقي والمرح والترف والمسابقات..
يقول (سيد قطب): "ويبدو من قوله: ﴿ذَرُونِي أَقْتُلْ
مُوسى﴾.. أن رأيه هذا كان يجد ممانعة ومعارضة- من ناحية الرأي- كأن يقال مثلاً: إن
قتل موسى لا ينهي الإشكال. فقد يوحي هذا للجماهير بتقديسه، واعتباره شهيداً، والحماسة
الشعورية له، وللدين الذي جاء به، وبخاصة بعد إيمان السحرة في مشهد شعبي جامع، وإعلانهم
سبب إيمانهم، وهم الذين جيء بهم ليبطلوا عمله ويناوئوه.. وقد يكون بعض مستشاري الملك
أحسّ في نفسه رهبة أن ينتقم إله موسى له، ويبطش بهم. وليس هذا ببعيد، فقد كان الوثنيون
يعتقدون بتعدد الآلهة، ويتصورون بسهولة أن يكون لموسى إله ينتقم له ممن يعتدون عليه!
ويكون قول فرعون: ﴿وَلْيَدْعُ رَبَّهُ﴾.. رداً على هذا التلويح! وإن كان لا يبعد أن
هذه الكلمة الفاجرة من فرعون، كانت تبجّحاً واستهتاراً، فهل هناك أطرف من أن يقول فرعون
الضال الوثني، عن موسى رسول الله- عليه السلام- ﴿إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ
أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ﴾ ؟!! أليست هي بعينها كلمة كل طاغية مفسد،
عن كل داعية مصلح؟ أليست هي بعينها كلمة الباطل الكالح، في وجه الحقّ الجميل؟ أليست
هي بعينها كلمة الخداع الخبيث، لإثارة الخواطر في وجه الإيمان الهادئ؟
إنه منطق واحد، يتكرر، كلما التقى الحق والباطل، والإيمان
والكفر، والصلاح والطغيان، على توالي الزمان، واختلاف المكان. والقصة قديمة، مكررة،
تعرض بين الحين والحين"..
3-
الاستحياء
العالمي للنساء:
قوله تعالى: ﴿يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ
نِسَاءَكُمْ﴾ [البقرة:49].
وقوله: ﴿قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ
وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾ [الأعراف:127].
وقوله: ﴿وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾
[القصص:4]
وقوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا
اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ
الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ﴾ [غافر:25].
قوله تعالى: ﴿يَسْتَحْيُونَ﴾: يستفعلون، من الحياة، أي: يستبقونهن.
والاستحياء: الإبقاء حيّاً. واستفعل فيه، بمعنى: أفعل، استحيا وأحيا. وقيل: طلب الحيا،
وهو: الفرج. وكان بنو إسرائيل قد عانوا من قبل- في إبان مولد موسى- مثل هذا التنكيل
الوحشـي من فرعون، وملئه، كما يقول الله تعالى في سورة القصص: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا
فِي الْأَرْضِ، وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً، يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ، يُذَبِّحُ
أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾..
إنه الطغيان في كل مكان، وفي كل زمان. لا فرق بين وسائله اليوم،
ووسائله قبل عشرات القرون والأعوام..
لأن الأبناء هم العدة، والنساء عادة شأنهن مبنيّ على الحجاب،
وعلى الستر. وفي إبقاء المرأة، وقتل الرجل، إذلال للرجال؛ لأن التعب سيكون من نصيب
النساء.
والإفساد أن تأتي على الصالح بذاته، فتفسده. فمن الفساد إذن
قتْل الذُّكْران، واستحياء النساء؛ لأن حياة الناس لا تقوم إلا باستبقاء النوع، فقتل
الذّكْران يمنع استبقاء النوع. واختار قَتْل الذكْران، لأنهم مصدر الشـر بالنسبة له،
أمّا النساء فلا شوكة لهُنَّ، ولا خوفَ منهن؛ لذلك استبقاهُنَّ للخدمة، وللاستذلال.
4-
تشكيل
جماعات القتل والتعذيب:
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ
سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ
بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ﴾ [البقرة:49].
يَسُومُونَكُمْ: يولونكم. ويقال: يريدونه منكم، ويطلبونه.
ومنه يقال: سامه خطّة خسف: أولاه إياها.
وهو من مساومة البيع. وقيل: سامه: كلّفه العمل الشاقّ. وقيل:
معناه يعلمونكم، من السّيماء، وهي العلامة. وقيل: يرسلون عليكم، من: إرسال الإبل المرعى.
قال تعالى: ﴿لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ
خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الأعراف:124].
هذا يدل على أن الصلب، وقطع اليد والرجل من خلاف، كانت عقوبة
متأصلة عند الخلق، تلقفوها من شرع متقدم، فحرّفوها، حتى أوضحها الله في ملة الإسلام،
وجعلها أعظم العقوبات لأعظم الإجرام.
إن فرعون قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، وصلبهم. ومعنى القطع
من خلاف، أنه قطع من كل شق عضواً خلاف ما قطعة من الآخر، كاليد اليمنى والرجل اليسـرى،
أو اليد اليسـرى والرجل اليمنى، وهو أول من قطع من خلاف، وصلب.
والفرعونية العالمية تعرض اليوم "صور محاولة اغتيال فلان
وفلان، بينما قناصتهم يصوّب سلاحه نحوي ونحوك، فهم لا يريدوننا أحياء أو أموات، بل
يريدوننا أحياء بأفكار ميتة!! وصواريخهم تدك ما أنشأنا من مبان، لكن عيونهم على ما
نشأنا عليه من قيم.. ليس قصدهم البنية التحتية، إنما يريدون بنيتنا نحن.. قد يخيل إلينا
أن هدفهم النهائي هو النفط.. وليس لهم من هدف إلا السائل الخام الذي يجري في عروقنا،
والذي يمكن أن يحمل رسالة الإسلام..
إن المؤامرة هنا ليست نظرية، وليست افتراضاً، وليست وجهة نظر..
إنها الواقع المحبوك الذي نعيشه، والذي يحاصرنا من كل الجهات، إنها اليقين الذي نقطع
به، في عالم مليء بالافتراضات والاحتمالات والمتغيرات".
وتصل تداعيات الاستبداد السياسي إلى العلاقات السياسية مع
الداخل والخارج، حيث يعمد الفساد إلى تبديل المواقع، وتقوم علاقة المستبد مع شعبه على
الشدة، بينما تلين قناته مع الآخرين، يستخدم القوة مع الشعب، والضعف مع الأعداء، يعتبر
الأولياء غرماء، والغرباء أولياء، يستخدم مع أبناء جنسه السلاح لأتفه الأمور، ومع الآخرين
فلسفة السلام في أعقد القضايا، يتعامل مع أبناء شعبه كرعية يمتلكهم، ومع قيادات الآخر
كرعاة يمتلكونه.
لقد أنزل الله تعالى الحديد فيه بأس شديد، ومنافع للناس. وفي
ظل هذه الأنظمة المستبدة تكون المنافع للحكام، ومن يقفون خلفهم وأمامهم، ومن يسوقونهم
ويقودونهم، بينما يصبح البأس من نصيب المحكومين، وعلى وجه الخصوص الشرفاء منهم. وهي
قسمة ضيزى، يزيد من وقعها الدامي على حسّ الشـرفاء، رؤية الشعب يموت بآلات الحديد السلطوية،
بينما أزلام الاتّجار السياسي يصوغون بألسنة حداد بيانات النعي والشجب والاستنكار نهاراً،
ثم يذهبون في الليل ليخطبوا ود الحكومة، ويعرضوا على قادتها الزواج، ولو بخاتم من حديد!!
5-
تشكيل
الجماعات والحكومات الموالية والضعيفة:
قال تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ
عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ
أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [القصص:4].
ومعنى العلو هنا الكِبر، وهو
المذموم من العلو المعنوي. ومعناه: أن يستشعر نفسه عالياً على موضع غيره، ليس يساويه
أحد. فالعلو مستعار لمعنى التفوق على غيره، غير محقوق لحقّ من دين، أو شريعة، أو رعي
حقوق المخلوقات معه، فإذا استشعر ذلك لم يعبأ في تصرفاته برعي صلاح، وتجنب فساد وضر،
وإنما يتبع ما تحدوه إليه شهوته، وإرضاء هواه. وحسبك أن فرعون كان يجعل نفسه إلهاً،
وأنه ابن الشمس.
والشيع: جمع شيعة. والشيعة:
الجماعة التي تشايع غيرها على ما يريد، أي تتابعه وتطيعه وتنصره.
ومن البلاغة اختياره هنا، ليدل
على أنه جعل أهل بلاد القبط فرقاً ذات نزعات، تتشيع كل فرقة إليه، وتعادي الفرقة الأخرى،
ليتم له ضرب بعضهم ببعض، وقد أغرى بينهم العداوة، ليأمن تألبهم عليه. وهي سياسة لا
تليق إلا بالمكر بالضد والعدو، ولا تليق بسياسة ولي أمر الأمة الواحدة.
أما فرعون، فقد جعل الناس طوائف،
ثم يسلِّط بعضها على بعض، ويُسخِّر بعضها لبعض. ولا شكَّ أن جَعْل الأمة الواحدة عدة
طوائف، له مَلْحظ عند الفاعل، فمن مصلحته أن يزرع الخلاف بين هذه الطوائف، ويشغل بعضها
ببعض، فلا تستقر بينهم الأمور، ولا يتفرغون للتفكير فيما يقلقه، ويهزّ عرشه من تحته،
فيظل هو مطلوباً من الجميع.
واليوم تستخدم الفرعونية العالمية
التيارات الفكرية بمنطق الاستفادة والمنفعة السياسية البحتة.. وتمنع "الفكر من
فهم الواقع، وفهم الممارسة الاجتماعية، فهماً موضوعياً وسليماً، يساعده على التحكم
بهما، والسيطرة عليهما، ومن ثم يفرض عليه العيش في نزاع دائم لا مخرج منه، ويحبس عليه
في دائرة الجدل المجهض والمسدود، وتصبح وظيفة الحوار هي إعادة إنتاج هذا الشقاق الشامل
في الوعي والمجتمع، وترجمته في الفكر، أو عكسه عكساً أميناً، بحيث يعطي لكل فريق من
المتخاصمين الصورة العدوانية والهمجية التي يرغب في امتلاكها عن الآخر، كي يستطيع
- شعورياً وعقلياً - الاستمرار في الحرب الباردة والساخنة
".
6-
تشويه
الدعوات الإصلاحية لإثبات حكمه:
تشويه الدعوات الإصلاحية، ورميها
بـ(المكر)، أسلوب فرعوني قديم، الغرض منه صرف أنظار وتوجهات الناس عن ما في الحكم،
وسياساته، من أخطاء وهشاشة في الحكم والتدبير. لذا كان أسلوب المكر والخداع والمماطلة
والكذب، أساليب يعتمدها الحكام الفاسدون للتضليل على الرأي العام.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ
مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾
[الأعراف:123].
المكر: صرف الإنسان عن مقصده
بحيلة. وهو نوعان: محمود، ويراد به الخير. ومذموم، يقصد به الشر.
والمكر فعل يقصد به ضر أحدهم،
في هيئة تخفى عليه. أو تلبيس فعل الإضرار بصورة النفع.
لقد كان فرعون في مأزق وحرج،
ويريد أن يخرج منه؛ لأن الناس جميعاً قد شاهدوا انتصار الحق، وكذب ادعائه، وهو لا يريدهم
أن يتشككوا في ألوهيته، فينهدم الصرح الذي أقامه على الأكاذيب؛ لذلك اتهم السحرة، فقال:
﴿ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ...
﴾.
7-
محاولة
التشكيك بالربوبية – نشر الإلحاد:
قوله تعالى: ﴿قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا
يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾
[طه:49-50].
إنه لا يريد أن يعترف بأن ربّ
موسى وهارون هو ربّه، كما قالا له: ﴿إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ﴾، فهو يسأل، موجهاً الكلام
إلى موسى، لما بدا له أنه هو صاحب الدعوى: ﴿فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى﴾، من ربّكما
الذي تتكلمان باسمه، وتطلبان إطلاق بني إسرائيل؟ فأما موسى- عليه السلام- فيردّ بالصفة
المبدعة المنشئة المدبرة من صفات الله تعالى: ﴿قالَ: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ
شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى﴾.. ربّنا الذي وهب الوجود لكل موجود، في الصورة التي أوجده
بها، وفطره عليها، ثم هدى كل شيء إلى وظيفته التي خلقه لها، وأمده بما يناسب هذه الوظيفة،
ويعينه عليها. وثم هنا ليست للتراخي الزمني. فكل شيء مخلوق ومعه الاهتداء الطبيعي الفطري
للوظيفة التي خلق لها، وليس هناك افتراق زمني بين خلق المخلوق وخلق وظيفته. إنما هو
التراخي في الرتبة بين خلق الشيء واهتدائه إلى وظيفته، فهداية كل شيء إلى وظيفته، مرتبة
أعلى من خلقه غفلاً..
8-
إثارة
دفائن الماضي:
قوله تعالى: ﴿قَالَ فَمَا بَالُ
الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ
رَبِّي وَلَا يَنْسَى﴾ [طه:51-52].
ما شأن القرون التي مضت من الناس؟
أين ذهبت؟ ومن كان ربّها؟ وما يكون شأنها، وقد هلكت لا تعرف إلهها هذا؟ ﴿قالَ عِلْمُها
عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى﴾.. بهذا أحال موسى ذلك الغيب
البعيد في الزمان، الخافي عن العيان، إلى ربّه الذي لا يفوت علمه شيئاً، ولا ينسـى
شيئاً. فهو الذي يعلم شأن تلك القرون كلها، في ماضيها، وفي مستقبلها. والغيب لله، والتصرف
في شأن البشر لله.
ويجوز أن يكون المعنى: أن فرعون
أراد التشغيب على موسى، حين نهضت حجته، بأن ينقله إلى الحديث عن حال القرون الأولى:
هل هم في عذاب، بمناسبة قول موسى: ﴿أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾
[طه: 48]، فإذا قال: إنهم في عذاب، ثارت ثائرة أبنائهم، فصاروا أعداء لموسى، وإذا قال:
هم في سلام، نهضت حجة فرعون، لأنه متابع لدينهم. ولأن موسى لما أعلمه بربّه، وكان ذلك
مشعراً بالخلق الأول، خطر ببال فرعون أن يسأله عن الاعتقاد في مصير الناس بعد الفناء،
فسأل: ما بال القرون الأولى؟ ما شأنهم، وما الخبر عنهم؟ وهو سؤال تعجيز، وتشغيب.
وقول موسى في جوابه: ﴿عِلْمُهَا
عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ﴾ [طه:52]، صالح للاحتمالين؛ فعلى الاحتمال الأول: يكون موسى
صرفه عن الخوض فيما لا يجدي في مقامه ذلك، الذي هو دعوة الأحياء، لا البحث عن أحوال
الأموات، الذين أفضوا إلى عالم الجزاء، وأن موسى تجنب التصدي للمجادلة والمناقضة في
غير ما جاء لأجله، لأنه لم يبعث بذلك.
9-
المغالاة
بالاحتفالات:
قوله تعالى: ﴿قَالَ مَوْعِدُكُمْ
يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى﴾ [طه:59].
فقوله: يوم الزينة، تعيين للوقت.
وقوله: وأن يحشـر الناس، تعيين للمكان، وقوله: ضحى، تقييد لمطلق الوقت.
والضحى: وقت ابتداء حرارة الشمس،
بعد طلوعها.
ويوم الزينة كان يوم عيد عظيم
عند القبط، وهو يوم كسر الخليج، أو الخلجان، وهي المنافذ على النيل، لإرسال الزائد
من مياهه إلى الأراضي البعيدة عن مجراه للسقي، فتنطلق المياه في جميع النواحي التي
يمكن وصولها إليها، ويزرعون عليها.
وزيادة المياه في النيل هو توقيت
السنة القبطية، وذلك هو أول يوم من شهر (توت) القبطي، وهو (أيلول) بحسب التاريخ الإسكندري،
وذلك قبل حلول الشمس في برج الميزان بثمانية عشر يوماً، أي قبل فصل الخريف بثمانية
عشـر يوماً، فهو يوافق اليوم الخامس عشر من شهر تشرين (سبتمبر). وذلك مبني على حساب
انتهاء زيادة النيل، لا على حساب بروج الشمس. واختار موسى هذا الوقت، وهذا المكان،
لأنه يعلم أن النصر سيكون له، فأحب أن يكون ذلك في وقت أكثر مشاهدة، وأوضح رؤية.
10-
إعداد
الحيل، وإخفاء المكايد:
قوله تعالى: ﴿فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ
فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى﴾ [طه:60].
والتولي: الانصراف، وهو هنا
مستعمل في حقيقته، أي: انصـرف عن ذلك المجلس إلى حيث يرسل الرسل إلى المدائن، لجمع
من عرفوا بعلم السحر.
ومعنى جمع الكيد: تدبير أسلوب
مناظرة موسى، وإعداد الحيل لإظهار غلبة السحرة عليه، وإقناع الحاضرين بأن موسى ليس
على شيء.
وهذا أسلوب قديم في المناظرات:
أن يسعى المناظر جهده للتشهير ببطلان حجة خصمه، بكل وسائل التلبيس والتشنيع والتشهير،
ومبادأته بما يفت في عضده، ويشوش رأيه، حتى يذهب منه تدبيره.
فالجمع هنا مستعمل في معنى إعداد
الرأي، واستقصاء ترتيب الأمر. أي: جمع رأيه وتدبيره الذي يكيد به موسى. ويجوز أن يكون
المعنى: فجمع أهل كيده، أي: جمع السحرة. والكيد: إخفاء ما به الضر، إلى وقت فعله.
11- جمع الموالين لتدبير الانقلاب على الشرعية:
قوله تعالى: ﴿فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ
ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى﴾ [طه:64].
أطلق الجمع على التعاضد والتعاون،
تشبيها للشيء المختلف بالمتفرق. وسموا عملهم كيداً، لأنهم تواطئوا على أن يظهروا للعامة
أن ما جاء به موسى ليس بعجيب، فهم يأتون بمثله، أو أشد منه، ليصرفوا الناس عن سماع
دعوته، فيكيدوا له بإبطال خصيصية ما أتى به. ودبروا لإرهاب الناس، وإرهاب موسى وهارون،
بالاتفاق على أن يأتوا - حين يتقدمون لإلقاء سحرهم – مصطفين، لأن ذلك أهيب لهم.
ولم يزل الذين يرومون إقناع
العموم بأنفسهم، يتخيرون لذلك بهاء الهيبة، وحسن السمت، وجلال المظهر. ما قصدوه من
تآمرهم بأن الفلاح يكون لمن غلب وظهر في ذلك الجمع. فـ (استعلى) مبالغة في علا، أي
علا صاحبه وقهره.
وقوله: ﴿مَنِ اسْتَعْلَى﴾ أي:
طلب العُلو على خَصْمه.
12- إنشاء قنوات للدعاية للطاغية، ومنهجه:
قوله تعالى: ﴿قَالُوا إِنْ هَذَانِ
لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا﴾ [طه:63].
يبدو أن استعداء فرعون لقومه على موسى وهارون، جاء بنتيجة،
ونالت حيلته من نفوسهم؛ لذلك يُردِّدون نفس كلام المعلم الكبير فرعون، فيتهمون موسى
وهارون بالسحر.
لا يستطيع الطاغية البقاء لفترات
طويلة، إلا إذا قام بعمليات تزييف لوعي المستعبَدين، وإعادة تشكيل هذا الوعي ليقبل
منظومة الاستبداد، دون أن يحتاج إلى الإفراط في استخدام القمع الأمني، الدي ربما يكلفه
ثمناً سياسياً أو اجتماعياً كبيراً. ومن ثم تُشكل أجهزة الإعلام الجناح الآخر لبقاء
الطاغية، وبخاصة في المجتمعات التي لا تملك عقلية نقدية تزن بها الأمور، فيقوم الإعلام
الموجه بدور كبير في تسهيل عمليات الإيحاء والاستلاب والاستهواء لأفراد تلك المجتمعات.
كأن الإعلام هنا يقوم بالدور
الذي قام به من قبل سحرة فرعون، فهم يسحرون أعين الناس، ويزيفون وعيهم، ويحتلون إدراكهم،
ويوجهونه لخدمة مصالح الطاغية، الذي يستغل أدواته المؤثرة في صياغة الرأي العام، وصناعته،
والتأثير في خياراته وتوجهاته، من خلال الإلحاح والتزييف، وتسليط الأضواء على أشياء
بعينها، وإطفاء الأضواء في مناطق ومساحات أخرى، بهدف خلق الصورة المطلوبة لتزييف الوعي
وتوجيه الإرادة. ولا ينجو من هذا التأثير إلا قلة من الذين يحتفظون بقدرتهم على الرؤية
من خارج إطار القطيع، ولديهم القدرة على الاحتفاظ بإدراكهم دون تلوث أو تشويه أو تزييف.
لقد أصبح الإعلام المسموع، والإعلام
المرئي، والإعلام الإلكتروني، من أهم القنوات قوة في التأثير على الرأي العام، والتفنن
في التوجه لمختلف عناصر المجتمع، وفئاته. الأول، لأنه يصل إلى جميع الفئات. والثاني،
لأنه أكثر قوة وفاعلية في إحداث التغيير، وجذب المشاهد. والثالث، لأن المشاهد أو القارئ
ينجذب إليه باختياره. واستطاعت هذه القنوات أن تقتل الوعي النقدي في المشاهد؛ ليصبح
في حالة تلقٍ سلبي لكل ما يراه أو يقرأه، فتتكون لديه عادة الاكتفاء بالمشاهدة أو القراءة
السطحية، وفي أقصى تقدير: التحسـر على ما يحدث، والدعاء على من يفعلون، والغضب ممن
يسكتون.
فعندما يكون الحدث إسلامياً
– مثلاً -، يقوم الإعلام المضاد بما يلي:
- التهوين
من شأن الحدث.
- قطع
الصلة بين أفراد الحدث والواقع الاجتماعي.
- إعلان
أنهم ليسوا على شيء.
- المزايدة
على أصحاب الدعوة.
- خلط
أوراق جميع التيارات والحركات الإسلامية في سلة واحدة.
- التهجم
على رموز ورجالات الدعوة، وأحياناً التهجم على ثوابت الإسلام.
- الاستهزاء
والسخرية من الفكر الإسلامي، واتهامه بالرجعية والتخلف.
- التعمد
على عدم التفرقة بين الحركات الرافضة للعنف، والحركات الداعمة له.
- اتخاذها
فرصة لإثارة الأحقاد، وإشعال نار الفتن، بين الجماعات الإسلامية.
- تسويق
أفكار مسمومة، وهدامة، مدعومة بآيات قرآنية، وأحاديث نبوية، عن طريق علماء محسوبين
على السلطة الحاكمة، بها يبررون اضطهاد الطاغية، ويدعمون حكمه.
13- إحداث صراعات وفتن بين علماء السلطة ودعاة الإصلاح:
قوله تعالى: ﴿وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ
الْمُثْلَى﴾ [طه:63].
والطريقة: السُنة والعادة، شبهت
بالطريق الذي يسير فيه السائر، بجامع الملازمة... وأرادوا من هذا إثارة حميّة بعضهم
غيرة على عوائدهم، فإن لكل أمة غيرة على عوائدها وشرائعها وأخلاقها. ولذا، فرعوا على
ذلك أمرهم، بأن يجمعوا حيلهم، وكل ما في وسعهم أن يغلبوا به موسى.
14- محاولة السيطرة على الانتماءات العقائدية:
قال تعالى: ﴿قَالَ آمَنْتُمْ
لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ﴾ [طه: 71].
فمع الخيبة التي مُنِي بها،
ما يزال يتمسك بفرعونيته، وألوهيته، ويهرب من الاستخزاء الذي حاق به، يريد أن يعطي
للقوم صورة المتماسك الذي لم تُؤثّر فيه هذه الأحداث، فقال: ﴿قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ
أَنْءَاذَنَ لَكُمْ﴾، فأنا كبيركم الذي علّمكم السحر، وكان عليكم أنْ تحترموا أستاذيته،
وقد كنت سآذنُ لكم.
15- الاستكبار:
قوله تعالى: ﴿وَاسْتَكْبَرَ
هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقّ﴾ [القصص:39].
أي: تكبروا دون حق، وبغير مبررات
للكِبْر، فليس لديهم هذه المبررات؛ لأن الإنسان يتكبَّر حين تكون عظمَته ذاتية فيه،
أمّا العظمة المخلوقة لك من الغير، فلا تتكبر بها، مَنْ يتكبر يتكبَّر بشيء ذاتي فيه.
والمتكبّر في الحقيقة ناقصُ الإيمان؛ لأنه لا يتكبَّر إلا حين يرى الناس جميعاً دونه،
ولو أنه استحضر كبرياء خالقه لاستحيا أنْ يتكبَّر أمامه، وهكذا كان استكبار فرعون وجنوده
في الأرض بغير حق.
16- العلو في الأرض:
قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ
عَلَا فِي الْأَرْضِ﴾ [القصص:4].
في ملكه وسلطانه وجنوده وجبروته،
فصار من أهل العلو فيها. وصورت عظمة فرعون في الدنيا بقوله: علا في الأرض، لتكون العبرة
بهلاكه بعد ذلك العلو أكبر العبر.
ومعنى العلو هنا: الكبر، وهو
المذموم من العلو المعنوي. ومعناه: أن يستشعر نفسه عالياً على موضع غيره، ليس يساويه
أحد. فالعلو مستعار لمعنى التفوق على غيره، غير محقوق لحقّ من دين، أو شريعة، أو رعي
حقوق المخلوقات معه. فإذا استشعر ذلك لم يعبأ في تصرفاته برعي صلاح، وتجنب فساد وضر،
وإنما يتبع ما تحدوه إليه شهوته، وإرضاء هواه. وحسبك أن فرعون كان يجعل نفسه إلهاً،
وأنه ابن الشمس.
17- إضعاف المعارضة:
قوله تعالى: ﴿يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً
مِنْهُمْ﴾ [القصص:4].
فلما كان ذلك الفرعون الطاغية
﴿عَلا فِي الْأَرْضِ﴾، وتكبر وتجبر، وجعل أهل مصر شيعاً، كل طائفة في شأن من شئونه.
ووقع أشد الاضطهاد والبغي على بني إسرائيل، لأن لهم عقيدة غير عقيدته هو وقومه، فهم
يدينون بدين جدهم إبراهيم، وأبيهم يعقوب، ومهما يكن قد وقع في عقيدتهم من فساد وانحراف،
فقد بقي لها أصل الاعتقاد بإله واحد، وإنكار ألوهية فرعون، والوثنية الفرعونية، جميعاً.
وكذلك أحس الطاغية أن هناك خطراً
على عرشه، وملكه، من وجود هذه الطائفة في مصر، ولم يكن يستطيع أن يطردهم منها، وهم
جماعة كبيرة أصبحت تعد مئات الألوف، فقد يصبحون إلباً عليه مع جيرانه الذين كانت تقوم
بينهم وبين الفراعنة الحروب، فابتكر عندئذ طريقة جهنمية خبيثة للقضاء على الخطر الذي
يتوقعه من هذه الطائفة، التي لا تعبده، ولا تعتقد بألوهيته، تلك هي تسخيرهم في الشاق
الخطر من الأعمال، واستذلالهم، وتعذيبهم بشتى أنواع العذاب. وبعد ذلك كله تذبيح الذكور
من أطفالهم، عند ولادتهم، واستبقاء الإناث، كي لا يتكاثر عدد الرجال فيهم. وبذلك تضعف
قوتهم، بنقص عدد الذكور، وزيادة عدد الإناث، فوق ما يصبه عليهم من نكال وعذاب.
18- الإبادة الجماعية:
قوله تعالى: ﴿قَالَ سَنُقَتِّلُ
أَبْنَاءَهُمْ﴾ [الأعراف: 127].
وقوله: ﴿يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ﴾
[القصص:4].
وروي أنه وكّل بالحوامل من نسائهم،
قوابل مولّدات يخبرنه بمواليد بني إسرائيل، ليبادر بذبح الذكور، فور ولادتهم، حسب خطته
الجهنمية الخبيثة، التي لا تستشعر رحمة بأطفال أبرياء، لا ذنب لهم ولا خطيئة. (في ظلال
القرآن: (5/2677).
إنه الطغيان في كل مكان وفي
كل زمان. لا فرق بين وسائله اليوم، ووسائله قبل عشـرات القرون والأعوام..!
والقوي حين يملك القدرة على
الضعيف، لا يشد الخناق عليه شدًّا ليفتك به؛ لأنه يعرف ضعفه، ويستطيع أن يناله في أي
وقت. لكن لو كان الخصم أمامك قويًّا، فأنت ترهبه بالقوة، حتى يخضع لك. وهنا يقول فرعون:
﴿وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ﴾ [الأعراف: 127].
إن فرعون يؤكد لقومه أنهم مسيطرون،
وغالبون، ولن يستطيع قوم موسى أن يفلتوا منهم. ويؤكد فرعون: سنقتل أبناءهم، ونستحيي
نساءهم؛ لأن الأبناء هم العدة، والنساء عادة شأنهن مبني على الحجاب، وعلى الستر، وفي
إبقاء المرأة، وقتل الرجل، إذلال للرجال؛ لأن التعب سيكون من نصيب النساء.
19- الفساد
في الأرض باسم الحرية:
قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ كَانَ
مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ [القصص:4].
الفساد سوس الحضارات، وداؤها،
وأنها الهالكة، والقاصمة. وأنها لم تكن في أمة إلا وسار بها إلى الهاوية، لأن من ثمارها
الاستبداد والاستعباد، وفي هجيرهما "تتحول الحرية من نعمة لكل الناس إلى حِكر
على فرد، تحيط به عصابة.. وتتحول الكرامة من أعز ما يعتز به الإنسان، إلى منحة من الطاغية
للمستعبَدين.. ويضيع الأمن؛ ليقض الخوف مضجع كل فرد وأسرة، ويمارس زبانية الطاغية قتل
الإنسان: بالتجويع تارة، ويمنعه من ممارسة حريته الفكرية تارة أخرى"..
فعله هذا اشتمل على مفاسد عظيمة:
المفسدة الأولى: التكبر والتجبر،
فإنه مفسدة نفسية عظيمة، تتولد منها مفاسد جمة؛ من احتقار الناس، والاستخفاف بحقوقهم،
وسوء معاشرتهم، وبث عداوته فيهم، وسوء ظنه بهم، وأن لا يرقب فيهم موجبات فضل، سوى ما
يرضي شهوته وغضبه. فإذا انضم إلى ذلك أنه ولي أمرهم، وراعيهم، كانت صفة الكبر مقتضية
سوء رعايته لهم، والاجتراء على دحض حقوقهم، وأن يرمقهم بعين الاحتقار، فلا يعبأ بجلب
الصالح لهم، ودفع الضـر عنهم، وأن يبتز منافعهم لنفسه، ويسخّر من استطاع منهم لخدمة
أغراضه، وأن لا يلين لهم في سياسة، فيعاملهم بالغلظة، وفي ذلك بث الرعب في نفوسهم من
بطشه وجبروته. فهذه الصفة هي أم المفاسد، وجماعها، ولذلك قدمت على ما يذكر بعدها، ثم
أعقبت بأنه كان من المفسدين.
المفسدة الثانية: أنه جعل أهل
المملكة شيعاً، وفرّقهم أقساماً، وجعل منهم شيعاً مقربين منه، ويفهم منه أنه جعل بعضهم
بضد ذلك، وذلك فساد في الأمة، لأنه يثير بينها التحاسد والتباغض، ويجعل بعضها يتربص
الدوائر ببعض، فتكون الفرق المحظوظة عنده، متطاولة على الفرق الأخرى، وتكدح الفرق الأخرى
لتزحزح المحظوظين عن حظوتهم، بإلقاء النميمة والوشايات الكاذبة، فيحلوا محل الآخرين.
وهكذا يذهب الزمان في مكائد بعضهم لبعض، فيكون بعضهم لبعض فتنة.
المفسدة الثالثة: أنه يستضعف
طائفة من أهل مملكته، فيجعلها محقرة، مهضومة الجانب، لا مساواة بينها وبين فرق أخرى،
ولا عدل في معاملتها بما يعامل به الفرق الأخرى، في حين إن لها من الحق في الأرض ما
لغيرها، لأن الأرض لأهلها وسكانها الذين استوطنوها ونشأوا فيها.
المفسدة الرابعة: أنه يذبح أبناءهم،
أي: يأمر بذبحهم.
المفسدة الخامسة: أنه يستحيي
النساء، أي: يستبقي حياة الإناث من الأطفال، فأطلق عليهم اسم النساء باعتبار المآل،
إيماء إلى أنه يستحييهن ليصرن نساء، فتصلحن لما تصلح له النساء، وهو أن يصرن بغايا،
إذ ليس لهن أزواج.
19- التسرع بتنفيذ إعدامات بمحاكمات هزلية:
الطاغية عندما يحاصر بالحق والحقيقة،
يقوم بارتكاب المجازر باسم حماية أمن الدولة، وتصدر محاكمه أحكام القتل والإعدام، جزافاً،
بجلسة أو جلستين، أو حتى من دون محاكمة، بتهم مصطنعة، من دون السماح حتى بحقّ الدفاع
عن أنفسهم، ويعطون لأنفسهم الحق في التعدي على شريعة الله، باسم مكافحة الإرهاب، لحشد
التأييد الدولي.
﴿قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ
أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى﴾ [طه:45].
والفرط، هو: التسرّع بالأذى
للوهلة الأولى. والطغيان أشمل من التسـرع، وأشمل من الأذى. وفرعون الجبار يومئذ لا
يتحرج من أحدهما، أو كليهما.
ويفرط معناه: يعجل ويسبق. يقال:
فرط، يفرط، من باب: نصر. والفارط: الذي يسبق الواردة إلى الحوض للشـرب. والمعنى: نخاف
أن يعجل بعقابنا بالقتل، أو غيره من العقوبات، قبل أن نبلغه ونحجه.
والطغيان: التظاهر بالتكبر.
أي نخاف أن يخامره كبره، فيعد ذكرنا إلهاً دونه، تنقيصاً له، وطعناً في دعواه الإلهية،
فيطغى، أي: يصدر منه ما هو أثر الكبر، من التحقير والإهانة. فذكر الطغيان بعد الفرط،
إشارة إلى أنهما لا يطيقان ذلك.
فالمعنى إذن: ﴿يَفْرُطَ عَلَيْنَآ﴾
[طه:45] يتجاوز الحدّ، وربما عاجلنا بالقتل، قبل أن نقول شيئاً، فيسبق قتلُه لنا، كلامنا
له.
وقوله تعالى: ﴿أَوْ أَن يطغى﴾
[طه:45] فلا يكتفي بقتلنا، بل ويخوض في حَقِّ ربنا، أو يقول كلاماً لا يليق، كما سبق
له أن ادَّعى الألوهية.
20- الاستهزاء والسخرية من المنادين بالإصلاح:
قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا
مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ
(46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ﴾ [الزخرف:46-47].
﴿إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ﴾..
شأن الجهال المتعالين! والضحك: كناية عن الاستخفاف بالآيات والتكذيب..
21- السيطرة على الثروات، ومقدرات الأمة:
قال تعالى: ﴿وَنَادَى فِرْعَوْنُ
فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْـرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ
تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [الزخرف:51].
نداء فرعون يحتمل أن يكون بلسانه
في ناديه، ويحتمل أن يكون بأن أمر من ينادي في الناس. ومعنى هذه الحجة، التي نادى بها،
أنه أراد أن يبين فضله على موسى، إذ هو ملك مصر، وصاحب الأنهار والنعم، وموسى خامل،
متقلل، لا دنيا له، قال: فلو أن إله موسى يكون حقاً كما يزعم، لما ترك الأمر هكذا.
﴿وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ
قَالَ﴾ مستعلياً بباطله، قد غرّه ملكه، وأطغاه ماله وجنوده: ﴿يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي
مُلْكُ مِصْـرَ﴾ أي: ألَستُ المالك لذلك، المتصـرف فيه؟ ﴿وَهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِي﴾ أي: الأنهار المنسحبة من النيل، في وسط القصور والبساتين. ﴿أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾
هذا الملك الطويل العريض. وهذا من جهله البليغ، حيث افتخر بأمر خارج عن ذاته، ولم يفخر
بأوصاف حميدة، ولا أفعال سديدة.
إن ملك مصـر، وهذه الأنهار التي
تجري من تحت فرعون، أمر قريب مشهود للجماهير، يبهرها وتستخفها الإشارة إليه.. والجماهير
المستعبدة المستغفلة يغريها البريق الخادع القريب من عيونها، ولا تسمو قلوبها، ولا
عقولها، إلى تدبر ذلك الملك الكوني العريض البعيد.
22- التنادي بالخيرية، وإهانة الآخرين:
إهانة المعارضين، والتقليل من
شأنهم، واحتقارهم، والاستهزاء بهم، شأن يمارسه الطغاة للستر على عيوبهم، والتغني بهذه
العيوب، وإظهارها للملأ على أنها إنجازات، وهي في مصلحة الوطن والمواطن!!
وثم ينادون بالخيرية صباح مساء،
كأنهم ملائكة معصومون من الخطأ، لذا لا بد أن يبجلون ويقدسون: بالتهديد والقتل؛ أو
بالترغيب والترهيب؛ أو بالتزوير والغش؛ أو بالخداع والسـرقة؛ أو بالنصب والاحتيال؛
أو.. لأنهم أصحاب الشرف العالي..
قوله تعالى: ﴿أَمْ أَنَا خَيْرٌ
مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ﴾ [الزخرف:52].
﴿وَلا يَكادُ يُبِينُ﴾ إشارة
إلى ما بقي في لسان موسى من أثر الجمرة، وذلك أنها كانت أحدثت في لسانه عقدة، فلما
دعا في أن تحل ليفقه قوله، أجيبت دعوته، لكنه بقي أثر كان البيان يقع منه، لكن فرعون
عيّره به. وقوله: ﴿وَلا يَكادُ يُبِينُ﴾ يقتضي أنه كان يبين.
وهو يعني بالمهانة أن موسى ليس
ملكاً، ولا أميراً، ولا صاحب سطوة ومال مشهود. أم لعله يشير بهذا إلى أنه من ذلك الشعب
المستعبد المهين؛ شعب إسرائيل. أما قوله: ﴿وَلا يَكادُ يُبِينُ﴾ فهو استغلال لما كان
معروفاً عن موسى، قبل خروجه من مصـر، من حبسة اللسان.. وعند الجماهير الساذجة الغافلة
لا بد أن يكون فرعون، الذي له ملك مصـر، وهذه الأنهار تجري من تحته، خيراً من موسى-
عليه السّلام- ومعه كلمة الحق، ومقام النبوة، ودعوة النجاة من العذاب الأليم.
ومقصوده: تصغير شأن موسى في
نفوسهم، بأشياء هي عوارض ليست مؤثرة، فانتقل من تعظيم شأن نفسه، إلى إظهار البون بينه
وبين موسى، الذي جاء يحقر دينه، وعبادة قومه إياه، فقال: أنا خير من هذا. والإشارة
هنا للتحقير.. أراد أنه غريب ليس من أهل بيوت الشـرف في مصر، وليس له أهل يعتز بهم.
23- التمجّد بالبريق الخادع:
قوله تعالى: ﴿فَلَوْلَا أُلْقِيَ
عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ﴾
[الزخرف:53].
والإلقاء: الرمي، وهو مستعمل
هنا في الإنزال، أي: هلا ألقي عليه من السماء أساورة من ذهب، أي: سوّره الرب بها ليجعله
ملكاً على الأمة.
والسوار: حلقة عريضة من ذهب،
أو فضة، تحيط بالرسغ.. وقد كان من شعار الفراعنة لبس سوارين، أو أسورة، من ذهب، وربما
جعلوا سوارين على الرسغين، وآخرين على العضدين. فلما تخيل فرعون أن رتبة الرسالة مثل
الملك، حسب افتقادها أمارة على انتفاء الرسالة.. فإن لم تلق عليه أساورة من ذهب، فلتجيء
معه طوائف من الملائكة شاهدين له بالرسالة.
والمعنى: هلا ضم إليه الملائكة،
التي يزعم أنها عند ربه، حتى يتكثر بهم، ويصرفهم على أمره ونهيه، فيكون ذلك أهيب في
القلوب. فأوهم قومه أن رسل الله ينبغي أن يكونوا كرسل الملوك في الشاهد.
الهوامش:
- فقه النصر والتمكين، الصلابي: (ص477)،
بتصرف، دار ابن كثير.
- في ظلال القرآن: (5/2719-2720).
- التحرير والتنوير: (17/34).
- لسان العرب: (10/147)؛ تاج الصحاح:
(4/1493).
- أحكام القرآن: (11/277).
- لسان العرب: (8/425).
- في ظلال القرآن: (5/2914-2915).
- في ظلال القرآن: (4/2247-2248).
- الخواطر: (14/8708-8709).
- التحرير والتنوير: (15/188).
- في ظلال القرآن: (4/2372).
- الخواطر: (15/9502- 9504).
- الخواطر: (15/9502- 9504).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق