هذا
الكتاب يجمع في نصه، وطريقة تأليفه، بين: السرد الشخصي لمسيرة حياة أحد علماء الأمة الإسلامية، المبرزين في العصر الحديث، وهو الشيخ (طه
جابر العلواني)، وكذلك لمحات عن تكوينه العلمي والفكري، ومسيرته المهنية ما بين
أقطار العالم الإسلامي، وبلدان العالم الغربي. وهو - أيضا - يشمل الكثير من الرؤى،
والإشارات العلمية، والتربوية، والرؤية المستقبلية للتعليم الديني في العالم
الإســلامي، بجانب طرح رؤية واسعة شاملة لمستقبل التعليم الديني الإسلامي، وسبل
التجديد فيه.
فيمكن القول إنه كلام نظري، يطرح تصوراً معيناً عن قضية
التعليم الشـرعي في جامعاتنا ومعاهدنا، على امتداد أقطار العالم
الإســلامي، بجانب طرح رؤية واسعة شاملة لمستقبل التعليم
الديني الإسلامي، وسبل التجديد فيه.
فيمكن القول إنه كلام نظري، يطرح تصوراً معيناً عن قضية
التعليم الشـرعي في جامعاتنا ومعاهدنا، على امتداد أقطار العالم الإسلامي، بقدر ما
هو عصارة تجربة عملية، قام بها المؤلف نفسه، وأراد عرضها في خلاصة عملية مباشرة
للقارئ المسلم، كي يطلع على مزايا التعليم الديني في طرائقه التقليدية القديمة،
والتي ظلت متوارثة في بقاع العالم الإسلامي على امتداد قرون، وبين السبل الحديثة،
التي نادى – ولا يزال ينادي – بها المتغربون والعلمانيون، ويتهمون العلوم الشـرعية
بأنها سبب كل جمود أصابنا، بل هي سبب لنكبتنا وتراجعنا الحضاري، ومن ثم ينادون
بتنقيحها، وقد يشتطون فيطالبون بإلغائها، إلا القليل منها.
ينبئنا الشيخ، في مقدمة الكتاب، بجملة من الهموم التي
شعر بها، وكانت دافعة له لتـأليفه الكتاب. حيث يؤكد أن أمتنا لا حل لها إلا
بالعودة إلى الإسلام: شريعة وهدى وتربية، فبه – وليس بغيره - سينصلح حالها حديثاً،
مثلما بنت حضارتها وثقافتها عليه قديماً، مؤكداً أن النظام المعرفي الإسلامي به
آليات التغيير والتجديد والمراجعة والتدقيق، مثلما فعل أبو حامد الغزالي، وابن
تيمية، وابن قيم الجوزية، وغيرهم، في مؤلفاتهم، التي واجهوا به شطحات بعض الفلاسفة
والمناطقة، وقدموا ردوداً كثيرة وعديدة على المستجدات في عصورهم. وأن المطالبات
بالتجديد، في هذا العصر (بعد 11 سبتمبر)، تقف وراءها أجندة غربية، معلومةٌ أهدافها
وأغراضها، وتسعى لفرض هيمنة أو تصور على بنية العلوم الشـرعية، وتأويلاتها([1]).
صحيح أن زمن تأليف الكتاب يعود إلى سنوات، وتجربته تمتد
إلى عقود ولت، ولكن يبدو أن الهموم الملحة فيه لا تزال تستعرّ في ساحتنا الثقافية،
في وقتنا الحالي، بل ونفاجأ بأنها كانت جزءاً من الصراع الفكري، منذ مطلع القرن
العشـرين. وهذا معناه أن المعركة قديمة جديدة، طروحاتها واحدة، وشعاراتها متشابهة،
وآلياتها متجددة، لأنها ببساطة تتصل بعقيدة أمتنا، والمكون الأساسي لهويتها، ألا
وهو الإسلام.
مداخل قراءة الكتاب:
سيكون نهجنا في قراءة هذا الكتاب نابعاً من رؤية مختلفة،
نوعاً ما، عن المراجعة المألوفة، التي تتضمن عرض أبرز الأفكار المطروحة، ومناقشة
مدى إضافتها العلمية لنا، وحاجتنا الفعلية لها، ومن ثم سبل تطبيقها، والاستفادة
منها. أما رؤيتنا، فإنها نابعة من طبيعة الكتاب ذاته، وبنيته، فالكتاب مكتوب بسرد
حكائي ذاتي، يشمل الكثير من الرؤى المبثوثة في ثناياه، ومن ثم انتهى بتقديم تصور
لتعليم ديني عصـري، يمكن تطبيقه والاستفادة منه، فهو جامع بين النظر والعمل،
الشخصي والعام، الكلي والجزئي. ناهيك عن استعراضه لحال التعليم في جامعات إسلامية،
ومعاهد شرعية، في أقطار عدة، بدءاً بالكتاتيب، مروراً بالمساجد، وانتهاء
بالجامعات.
لذا، فإننا سنقرأ هذا الكتاب وفق مداخل عديدة، سنتناولها
في محاور:
التكوين العلمي، والمقارنة المباشرة :
يحدثنا المؤلف عن بداية تلقيه العلوم الشرعية في طفولته
بمدينة الفلوجة بالعراق، من خلال حفظه القرآن الكريم، وتعلّم أسس الشريعة،
ومبادئها، في مدرسة بلدته، مقابل خمسين فلساً شهرياً، تعطى للشيخ المعلم، وقد تقدم
الأسرة بعض الهدايا، من المطعومات أو الفاكهة، إلى الشيخ.. فيقدر أن التكلفة
الفعلية لمثل هذا النوع من التعليم، لا تزيد عن (15) دولاراً في العام.. فلما دخل
إلى المدرسة الابتدائية، ألحقوه بالصف الثاني الابتدائي، بعد اختباره، ليستمر في
التعليم، بجانب دراسته على يد الشيخ عبد العزيز السامرائي، في مدرسة أو غرفة ملحقة
بالمسجد، في مدينة الفلوجة، حيث تطوع الشيخ، واختار أكثر الأبناء ذكاء وحرصاً على
التعليم، من أبناء البلدة ، وكان يقول لآبائهم: سنأخذ واحداً من أبنائك للدين،
ونترك الباقين للدنيا. واتبع الشيخ معهم منهجاً تربوياً وتعليمياً، مدته ثلاث
سنوات، يبدأ من صلاة الفجر، وينتهي بصلاة العشاء، كل يوم، يتعلم فيه الطالب العلوم
الإسلامية بشكل مركز. والأهم أن هذا البرنامج كانت تقدمه وزارة الأوقاف، في زمنهم،
لمدة اثني عشر عاماً، ولكن الشيخ السامرائي كان يعلمه في ثلاث فقط، مع التربية
الصالحة: خلقاً وتهذيباً([2]). وقد
تمّ تعيينه إماماً وخطيباً بوزارة الأوقاف، بعد اجتيازه اختبار الوزارة، نتيجة
تفوقه وتمكنه العلمي، وتتلمذ على يدي الشيخ السامرائي.
فلما ذهب إلى بغداد، ليواصل مشواره العلمي، تتلمذ على
أيدي أربعة من كبار علماء عصره، منهم: مفتي العراق الشيخ قاسم القيسـي، والعلامة
أمجد الزهاوي، شيخ العرب والأكراد، المشهود له بالتبحر والفقه لأبعد الحدود،
والشيخ عبد القادر خطيب مسجد أبي حنيفة في بغداد([3]).
ثم التحق بكلية الشـريعة في الأزهر الشـريف بالقاهرة، لمواصلة دراساته العليا.
فلما ذهب إلى القاهرة، للدراسة في الأزهر الشـريف، بعد نجاحه على أكثر من (630)
متقدماً لنيل البعثة، درس في كلية الشـريعة عام 1954م، ليصادف مرحلة التحول في الأزهر
الشريف، عبر محاولات نظام عبد الناصر في جعل الأزهر مؤسسة دينية مصرية (أقلمة
الأزهر)، مبعداً عنها العلماء ذوي الأصول غير المصـرية، مثل عميد كلية الشريعة
وقتها، الفلسطيني الأصل: الشيخ عيسـى منون، وشيخ الأزهر نفسه، ذي الأصل التونسي:
محمد الخضر حسين، الذي خطب باكياً في المتظاهرين ضده، بأنه لم يفرق طيلة حياته بين
مسلم وآخر، فكيف يفرق بين الطلاب المصريين وغيرهم؟ ومن ثم جمع أوراقه، وغادر
المشيخة مستقيلاً([4]).
وقد استمر المؤلف في دراسته، في مرحلة الماجستير، بعدما عاد إلى العراق، وعمل
إماماً وخطيباً لأحد المساجد. وبدأت نظرته تتسع وفقهه يتعمق، ومن ثم دعمها في
مرحلة الدكتوراه، وانتقاله للتدريس في الجامعات السعودية([5]) .
نلاحظ هنا أن الشيخ قد تأسس علمياً وفق المنظومة
التقليدية، الموروثة منذ القدم في التعليم الشـرعي، حيث جمع ما بين التلقي الشفاهي،
والحفظ للقرآن والمتون، في الخلوة / الكتاب، ثم العلوم المكثفة في مدرسة المسجد،
جامعاً بين التربية والعلم، والتتلمذ اليومي على يدي عالم جليل. ومن هنا، ندرك أن
المنظومة القديمة فيها أسس مهمة، علينا الانتباه إليها، وأهمها: التلقي الشفاهي
الصحيح، واستخدام آليات الحفظ، والتربية، وتصحيح اللسان، وتجويد الكلام.
وطيلة صفحات الكتاب، نلمس مقارنة المؤلف بين التعليم
الديني التقليدي، والتعليم الديني التجديدي، فهو في ثنايا الكتاب يؤكد على حسن
مخرجات التعليم التقليدي، رغم بساطة تكلفته، عبر الكتاتيب أو الخلاوي، التي هي
أرخص مدرسة على وجه الأرض؛ تحفّظ القرآن الكريم، وتعلّم مبادئ القراءة والحساب
والفقه والسيرة النبوية وما شابهها، وكل مستلزماتها شيخ يعلم؛ زهيد الأجرة، أو
يكون محتسباً لوجه الله تعالى، ويمكنه أن يعلم الصغار في أي مكان: حلقة في مسجد،
غرفة صغيرة، في الخلاء المفتوح، في الحقول، أو الساحات وسط البيوت، فالعملية
التعليمية كلها تقوم على جهد معلوم واحد([6]).
أما المرحلة الثانية، فتكون في مدارس المساجد، وبها نظام تعليمي يعتمد على الشيخ
أيضاً، في حلقة من حلقات العلم، وضمن تراتبية ومناهج وكتب معلومة، والشيخ يعطي
إجازة للطالب، تمكنه من مواصلة الدرس. وتطورت مدارس المساجد لتكون جامعات ومعاهد،
مثل: الأزهر في مصـر، والزيتونة في تونس، والقرويين في المغرب، والمساجد والحوزات
في العراق([7]).
وكانت المرحلة الثالثة في حياة الشيخ، هي مشاركته
الفاعلة في تأسيس المعهد العالمي للفكر الإسلامي في واشنطن، حيث يحدثنا عن نشأة
وتكوين هذا المعهد، بصحبة ثلة من خيرة علماء الأمة (منهم: إسماعيل الفاروقي، يوسف
القرضاوي، جمال عطية، عبد الحليم أبو شقة، وغيرهم). وقد تأسست فكرة المعهد على
الانتقال إلى التأمل في أسباب تراجع الأمة الإسلامية حضارياً، وأدرك أنه لا بد من
وجود فكر (أزمة الأزمة)، والانتقال بالاجتهاد من دائرة الفقه، إلى دائرة الحالة
الفكرية والنفسية للأمة كلها، ودمج الإبداع فيها، ومناقشة قضية المنهج والمنهجية
من منظور إسلامي، من أجل أن يتضافر الفقيه مع العلماء في إخراج الأمة من نكبتها،
وهذا يحتاج إلى التبحر في العلوم الاجتماعية والنفسية، وأيضاً العلوم الفلسفية
والطبيعية. واتسعت دائرة العلماء المشاركين في المعهد، والممثلين له، في مختلف
البلدان المسلمة، ومن ثم اتسعت الأفكار، وتحديد مجالات الأزمة، ومنها بالطبع أزمة
التعليم الديني ([8])،
التي كانت في قلب الفكر والعمل والأمل.
أيضاً، كانت عين المؤلف تقارن بين سلوك وشخصيات علماء
الشـريعة من الأجيال القديمة، وأيضاً من الأجيال المتأثرة بروح العصر الحديث. وقد
عرض شخصية شيخه الأول، وهو الشيخ عبد العزيز السامرائي، الذي رفض الغلو الصوفي أو
السلفي، ولكنه كان يتشدد في بعض الآراء والفتاوى، مثل: رفض ارتداء البدلة
الإفرنجية، والإلزام بإطلاق اللحية، فهو فرض في رأيه، ووجوب النقاب على النساء.
وكانت له جهود مشكورة مع أهل بلدته، في رفض المبالغة في المهور، وإطلاق الرصاص في
الأعراس، وعدم الإكثار من مجالس العزاء، وما يصاحبها من تكلفة باهظة مادية، وما
زال بأهل البلدة حتى أقلعوا عن مختلف البدع الشائعة وقتئذ([9]).
أما مشايخه في بغداد، فكانوا أكثر انفتاحاً، غير ممانعين
للزي الإفرنجي، ويعللون ذلك أن الملابس قضية شكلية، فالكردي يلبس البنطال مثلاً،
لأنه يناسب الطبيعة الجبلية التي يعيش فيها ([10])
.
الوعي الناقد بالواقع، وانعكاسه على الفتوى، والتعليم
الشرعي:
لقد كان المؤلف واعياً بانعكاس السياسة على تعليم العلوم الشـرعية، في المعاهد
والجامعات التقليدية والحديثة. وبدايتها أنه أشار إلى وجود ظواهر مشتركة بين مختلف
الأديان والمذاهب والفلسفات في العالم، قديماً وحديثاً، فلا يعقل أن يتم إسقاطها
على الإسلام وحده. وقدم مثالاً على ذلك بمن يتمسكون بظاهر النص، والتفسير الحرفي
له، ويقصرون فهمهم على ما تبوح به الألفاظ والعبارات فقط، غير عابئين بتأويل، أو
واقع، أو رموز، وإشارات، ويرون فيه أن هذا هو الفهم السلفي الصحيح. فيخبرنا أن
هؤلاء الظاهريين لهم مدرسة في الإسلام، وأيضاً تمثلهم مدرسة القرائين لدى اليهود،
ومثلهم لدى النصارى: الكاثوليك والبروتستانت ([11]).
وقد تبلور هذا الوعي لديه من خلال تطور حاسته النقدية،
التي بدأت في الظهور خلال دراسته في الأزهر الشريف، وهو يجد تيارات فكرية متصارعة،
بجانب تأثره بعلماء آخرين من جيل الشباب المسلم وقتئذ، مثل الشيخ محمد الغزالي،
والشيخ سيد سابق. فإذا عاد إلى بغداد كان التزم بمجالس شيخه أمجد الزهاوي، الذي
كان له أسلوب جميل في النقد والمراجعات على الآراء والعلماء والفتاوى، أساسه النقد
الهادف، والتأدب واحترام العلماء، حيهم وميتهم. ونمت لديه الرغبة في الحصول على
بدائل، ووضع أسس للنهضة والتجديد في التعليم الديني، فاختار لهذا قسم السياسة الشـرعية،
ليواصل دراسته في مرحلة الماجستير([12]).
ونفس هذه التيارات وجدها خلال إقامته في الرياض، حيث كانت هناك شخصيات كثيرة من
الدول العربية، متنوعة الأفكار والاتجاهات، وكان يلتقيها في الندوات، أو البيوت،
حيث تدور نقاشات واسعة([13])،
ساهمت في تشكيل رؤيته للواقع، وأيضاً للمستقبل. وبدأ يتساءل عن أسباب دراسة علم
الكلام، وفرق بائدة، الآن، مثل: المعتزلة، والبلاد الإسلامية تموج بتيارات علمانية،
مثل: الماركسية، والقومية، والمادية، والديمقراطية الليبرالية، وغيرها، وصعود
تيارات إسلامية أخرى، مثل: الإخوان المسلمين، وحزب التحرير الإسلامي، وحزب الدعوة
الشيعي، وكتابات أبي الأعلى المودودي، والحسن الندوي، وغيرهم. وكان العلماء
التقليديون يتعاملون بالتكفير والتفسيق مع كل فكر وافد، ويرفضون الحوار، أو بالأدق
لا يتخذون الحوار نهجاً في الأساس ([14]).
ولكنه على المستوى الشخصي دخل في حوارات ومساجلات كثيرة مع هذه التيارات، وتعرف
على دعواتها، ومن ثم تطورت الحاسة النقدية في أعماقه، من أجل تطوير نظام التعليم
الديني، وتطعيمه بالعلوم الحديثة، وتطوير طرق تقديمه([15]).
لذا، فهو يشدد على أهمية تكوين شخصية العالم، وحصوله على
المزيد من الخبرات، والعلوم، وإثراء تجاربه، من أجل تطوير العملية التعليمية ([16]).
أبعاد أزمة التعليم الديني:
جاءت نظرة المؤلف للتعليم الديني وفق فهم واع، نابع من
التراث، ومن الواقع، بما فيه من سلبيات وآثار. ومن ثم قام ببناء رؤية استشرافية
للمستقبل، منطلقة من أهمية وجود أبعاد أخرى لدى العالم والفقيه، ليحكم بينها ،
وتكون روافد لرؤيته الشـرعية، وفتاويه، ومنها: البعد السياسي، والبعد الاجتماعي،
فيما يسميه الإمام أبو حنيفة: الفقه الأكبر، ونسميه نحن اليوم: علم اجتماع المعرفة.
كما تعمق فهمه أكثر بفقه المقاصد، الذي أسسه العلامة الشاطبي، في كتابه الموافقات
في أصول الفقه، وقد لخّصه الشيخ، ومن ثم درّسه لأطباء ومهندسين، جنباً إلى جنب مع
طلابه في الجامعة والدراسات العليا، الذين وعوا أبعاداً عظيمة في هذا الفقه ([17]).
وخلال فترة عمله بمعهد الفكر الإسلامي، انتقل من النظرات
الجزئية في العلوم الشرعية، إلى الرؤية الشاملة، فبدأ البحث في الفكر المنهجي
القرآني السليم، من أجل الوصول إلى منهجية قرآنية معرفية، مصداقاً لقوله تعالى:
{لكلٍ جَعَلْنا مِنْكُم شرعةً ومنْهاجًا}(المائدة، 48)، لتكون قيم (التوحيد،
والتزكية، والعمران) هي المقاصد العليا للقرآن والإنسان، ومن ثم النجاح في تحديد
معالم المنهج ([18])،
التي هي ستفيد الأمة المسلمة، وستفيد البشرية جمعاء، في تحولاتها؛ من حتمية الحل
العلمي، والحل التاريخي، إلى النسبية والاحتمالية، فهي في حاجة لاكتشاف الإسلام،
ومنهجيته([19]).
والتعليم الديني بحاجة إلى صياغة على أسس، أهمها: بناء
شخصية إسلامية متوازنة نفسياً وعلمياً، ليتحلى بالفاعلية والإيجابية، مدركا أنه
صاحب غاية ورسالة، ولم يخلق عبثاً في الحياة. وتخليص العقل المسلم من الثنائيات
الفكرية الحادة، وأن الأديان المنزلة واحدة، هدفها صلاح البشـر جميعاً، ليتجه
الإنسان المستخلف، بكليته وطاقاته، وكذلك الشعوب، نحو تحقيق غاية الحق في الخلق.
وأهمية انفتاح النسق المعرفي للمسلم على علوم طبيعية وإنسانية ونفسية واجتماعية،
مع وعيه بنقطة الثبات المرجعية، التي تعني الهدف والغاية والاتجاه، وممارسة النقد
البناء، والوعي بالمنهجية القرآنية ، ومن ثم بناء برامج تعليمية موحدة([20]).
وكذلك مراعاة : إعادة الارتباط بين العلم والقيم العليا
(التوحيد، التزكية، العمران)، ضد الاستبداد والفساد والمصالح الخاصة، وإخراج العلوم
الإسلامية الشـرعية، من الفكر السكوني التقليدي، لترتبط بالحياة المتجددة
المتغيرة، وإخراجها من دوائر القومية والجغرافية، إلى العالمية والكونية، التي
صارت مطلباً مهماً من أجل تكوين الأنساق الثقافية والحضارية وتكاملها ، وتأسيس
القواعد الحوارية بين الأديان على قيم سامية، أساسها: الحق والعدل وقبول الآخر،
وعدم التقوقع في الثقافات المحلية، وبناء عقلية نقدية متفاعلة مع العلوم المعرفية،
لا تقبل معرفة إلا بدليل، وترفض الأهواء، وادعاء أحد امتلاكه للحقيقة الكاملة،
ليصبح للجميع شرعية الحوار والوجود والتعلم، ليتضاءل التحيز العرقي والقومي
واللاهوتي والطائفي ([21]).
برنامج مقترح لتجديد التعليم الديني :
عرض المؤلف برنامجاً تطبيقياً لمقررات إسلامية، لمدة
اثني عشـر عاماً، في المرحلة العليا الجامعية ([22])،
يتخرج بعدها الطالب وقد استكمل المنظومة المعرفية الإسلامية، وقد تم تطبيقها في
جامعة العلوم الإسلامية، وجامعة قرطبة في فيرجينيا، وعددها اثنان وعشرون مقرراً،
منها ستة مشتركة بين التخصصات المختلفة، وتشمل: علوم القرآن، والفقه، وأصوله. أما
باقي المقررات، فهي شاملة للغة والأدب والبلاغة والعلوم الإنسانية، من أجل تكوين
عقلية منهجية مسلمة، تحقق الفلسفة المرتجاة من النظام التعليمي الإسلامي الجديد.
ومن المهم عرض المقررات المشتركة الأساسية اللازمة لكل طالب في مرحلة الجامعة، أما
المقررات الفرعية أو المتخصصة، فهي مبنية في تكوينها وتلقيها وفهمها على الأطر
والقواعد والمفاهيم التي تترسخ في الأساسية.
جاء المقرر الأول، متناولاً نظرية المعرفة الإسلامية،
ومدى اتساقها مع تطور المسلمات في الإسلام، وصولاً إلى أن التوحيد يقدم نسقاً
منفتحاً أمام الأنساق المغلقة، ومن المهم تهيئة العقل لنقد الأنساق الحالية،
وتفكيكها ومن ثم إعادة تكوينها وفق المنهجية الإسلامية. وتشمل الدراسة فيه محاور،
أبرزها: الله، الإنسان، الوحي، الكون، مصفوفة القيم. كما تناقش أبعاداً قرآنية
أربعة: الحرية، الآخر، الموت، الاغتراب([23]).
أما المقرر الثاني، فيتناول مناهج البحث العلمي
المتعددة، وأبرز المفاهيم المرتبطة بها، مثل: الاستقراء، والاستنباط، والجديد فيها،
مثل: البنيوية، والسيميولوجيا، والتناص، والتفكيك، ودراسة أساليب الخطاب والاتصال.
في حين يتناول المقرر الثالث: الحوار والتفاعل المعرفي،
من منظور حضاري إسلامي، ويدرس السياقات المختلفة: التاريخي، الثقافي، الإيديولوجي،
والهوية الحضارية، والتركيز على أن الحضارة مهمة في التكامل السياقي مع الحضارات
المختلفة، ولا بد من النظر إلى الحضارات بوصفها خطاباً متعدد الأصوات عن رؤيا
العالم، وكلها تسعى إلى رفاهية البشـر، والنهوض بهم([24]).
وجاء المقرر الرابع عن التاريخ، ومساره بين حركات
الإصلاح، وفقه الاجتهاد والتجديد، مؤكداً على الخطوط الفاصلة بين الثوابت
والمتغيرات في الرؤية الإسلامية، مركزاً على أولية الاجتهاد بوصفه فريضة إسلامية،
وأهمية وجود دافعية الإصلاح وفقه التجديد، والعودة إلى الأصول، وأنه مسؤولية الأمة
كافة في مختلف المستويات، وأن حركات الإصلاح الإسلامية المختلفة كانت وفق رؤى
اجتهادية، ومن المهم قراءة التاريخ الإسلامي من هذا البعد.
أما المقرر الخامس، فقد تناول العالم الإسلامي في النظام
الدولي، وسبل الاستفادة من إمكانياته، وموارده الهائلة، وبناء علاقات متوازنة مع
سائر الأمم والشعوب، وحل مشكلات المسلمين السياسية، مثل: فلسطين، وكشمير، وغيرها،
وكل العلوم والمعارف التي تغذي معرفتنا بعالمنا الإسلامي([25]).
أما المقرر السادس، فيتناول علاقة الدين بالحضارة، على
اعتبار أن الدين منظومة قيم تؤسس لحضارات كثيرة، مثل: الفرعونية، والمسيحية،
واليهودية، وغيرها، وعلينا أن ننظر بهذا البعد إلى الحضارات، لندرك أن الحضارة
الإسلامية أساسها قيم عليا عقدية وأخلاقية شاملة للحياة والوجود كله([26])
.
الجزء الثاني من المقررات، شمل علوم القرآن: تعريفاً،
وتفسيراً، ومدارس التفسير القديمة والحديثة، ونظرية التأويل، وعلاقة القرآن
بالإيمان، وعلم الاجتماع الديني، ومشكلات العالم المعاصر، وقضايا السياسة،
ومبادئها، كما تتجلى في القرآن([27]).
كذلك دراسة علوم الفقه، وأصوله، فالأصول تقدم طرائق منهجية، والفقه تطبيق لهذه
الطرائق، وتاريخ أصول الفقه، وعلاقتها بمؤسسي المذاهب الفقهية الكبرى، وكيف نما
العلم، وكيفية الاستفادة منه عصرياً، وكذلك دراسة الفقه المقارن، وأهميته في نزع التعصب
المذهبي، وأبرز المذاهب السائدة الآن، وكيف يمكن إشاعة الثقافة التوافقية، من خلال
قبول تعدد الفتاوى. كما تطرق إلى القوانين الوضعية، وعلاقتها بالأحكام الشـرعية:
موازنة ومقارنة معها. وكذلك مقاصد الشريعة، وكذلك أنواع أخرى من الفقه، مثل فقه
الواقع، والأولويات، والموازنات، وغيرها([28]).
ويأتي آخر هذه المقررات، وهو: المراجعات، ومناهج التفكير،
وفقه الحجاج، ليشمل مهارات التفكير النقدي، وكيف يتقن المسلم فن الحجة والبرهان،
والمراجعة العلمية البناءة.
ثم تأتي خاتمة الكتاب مؤكدة على النهج القرآني: انطلاقاً،
ومنهجاً، وتفسيراً، ورؤية([29]).
ملاحظات ختامية :
يمكن الجزم بأن المؤلف قدّم رؤية نظرية مصحوبة بنموذج
عملي تطبيقي، في أحد معاهد الدراسات العليا في الولايات المتحدة، وأن الرؤية بلا
شك رائعة ومكتملة بشكل كبير، ولكن ثمة أمور لا بد أن نضعها في الحسبان في ضوء ما تقدم:
-
إنها رؤية تركز على مرحلة الدراسة الجامعية، وما بعدها،
أي إلى الطالب في تكوينه بصفته باحثاً شرعياً، ولم تتطرق إلى المراحل السابقة في
تعليمه.
-
لم تنظر رؤية المؤلف إلى تكوين طالب العلم نفسه، فهل
يمكن أن يقوم طالب تكوّن في مدارس وجامعات مدنية / علمانية، أن يلج هذه المنظومة
الإسلامية، وهو مفتقد لأسس العلوم الإسلامية: التجويد، السنة المطهرة، تفاصيل
التاريخ، ونماذج من التفاسير، ومدارس فقهية؟
وربما
يعود هذا المنظور إلى وجود المعهد في الولايات المتحدة الأمريكية، وعدم توافر
مدارس إسلامية في مراحلها المختلفة.
-
ارتباطاً بالنقطة السابقة، فإن الرؤية المطروحة تحتاج
طالباً تكوّن شرعياً في الأساس، ومن ثم عليه أن يدرس المناهج المقدمة إليه، لأنها
منهجية، ومرحلتها تمثل مستوى فكرياً متقدماً لطالب العلم.
-
لم تتطرق الرؤية المقدمة إلى الباحثين في تخصصات أخرى،
مثل: الطبيعيات، والإنسانيات، والفلسفات، والأفكار، وغيرها، بالرغم من أنها تمتاح
من هذه العلوم كثيراً من المفاهيم. فهي تتوجه إلى الباحث الشرعي، وهذا مطلوب قطعاً،
ولكن ماذا عن إسلامية المعرفة مع المهندس، والطبيب، والفيزيائي، والكيميائي،
والجغرافي ... إلخ .
-
عرض المؤلف، في الجزء الأول من كتابه، الكثير عن تكوينه
العلمي، وعن سبل التعليم الديني التقليدي، ، ولكنه لم يشر - من قريب أو بعيد – إلى
كيفية الاستفادة من طرائق التعليم القديمة، مثل: آليات الحفظ الشفاهي، والضبط
اللغوي، وكيف يمكن تطوير نظام الكتاتيب لنشـر القرآن، ومكافحة الأمية. وأيضاً
الاستفادة منه في مرحلة ما قبل المدرسة، لمكافحة هجر القرآن، وندرة الحفاظ، وفساد
اللسان، وفشو اللحن اللغوي.
-
كيف يمكن لمثل تلك الرؤية أن تطور مؤسسات التعليم الديني
التقليدية في العالم الإسلامي؟ وقد تعلّم وعلّم المؤلف فيها، ثم تركها ليؤسس جديداً.
أي إننا نحتاج لرؤية تطويرية للمؤسسات الحالية، ومناهجها، ومراحلها المختلفة. صحيح
أننا يمكن الاستفادة مما تقدم، ولكن نحتاج لبرنامج تفصيلي، يطور الموجود، ويكافح
الجمود، وهذا في المراحل الجامعية.
-
أخيراً، ماذا عن مراحل التعليم الديني، قبل الجامعة، في
معاهدنا ومدارسنا؟
لا
شك أن هذا الكتاب فيه الكثير مما يمكن الاستفادة منه في بحث قضايا التعليم الديني،
وأهمها العودة إلى القرآن الكريم، كتابنا المقدس، وجعله مصدراً للدين، والمعرفة،
والمنهجية، والرؤية، والطموح، والحضارة، بعيداً عن تفسيرات، تراكمت عبر عصور
وقرون، ربما حجبت عنا جوهر القرآني، وجعلتنا نقرؤه من خلالها، ولا نغوص في إعجازه
وهديه بعقولنا وأفئدتنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق