قاسم جميل نوفيسي
نحن المسلمون نكرر قراءة الفاتحة سبعة عشر مرة خلال أربعة
وعشـرين ساعة، ولكن كم منا من المصلين يفقهون أو يعقلون ويفهمون ما يقرأونه في صلاتهم
من الكلمات والعبارات، وما يقومون به من الحركات؟ وما هي علاقة الصلاة بالحياة اليومية؟
وهل هناك علاقة بين العبارات والكلمات التي يقرأها المصلون، والحركات التي يقومون بها
في صلاتهم، وبين الحياة اليومية لهم؟ وما هو الهدف من إقامة الصلاة؟ وهل الصلاة عمل
خاص بين الله والعبد، ولا علاقة لها بالحياة اليومية للعباد، أم لها علاقة بالمعاملات
اليومية بين العباد؟ هل يحتاج الله تعالى إلى صلاة العبد، أم أن العبد يحتاج ليصلي
لله؟.
ثم يبدأ المصلّي بعبارة: (الحمد لله)،
وهو بقرائته لهذه العبارة أيضاً يقرّ ويعترف أن الذي يستحق الحمد هو الله وحده، فما
دام أنه اعترف أن الله وحده يستحق الحمد، فلماذا يطلب من العباد أن يحمدوه؟ وعلى أيّ
أساس يريد الإنسان أن يحمده العباد؟ أليس لله ما في السموات والأرض، وأن الله مالك
كل شيء، وله ما في السموات والأرض، ولا يملك العبد أي شيء في الأرض، وأن ما يملكه هو
في الحقيقة ليس بملك له، بل هو ملك لله، وهو مجرد مستخلف فيه؟! وكأن سائلاً يسأل: لماذا
الله تعالى يستحق الحمد؟ فيكون الجواب: لأنه ربّ الخلائق أجمعين، وخالقهم، ومدبر شوؤنهم..
ومرة أخرى، وكأن سائلاً يسأل: كيف يربيهم؟ هل يربيهم على الحقد والكراهية، أم كيف؟
فيكون الجواب: إنه الرحمن الرحيم، يعني أن رحمته وسعت كل شيء، وأنه أرحم الراحمين،
فكيف يربّي الخلائق على الكراهية والحقد؟
ويفهم
مما سبق وكأن الله تعالى يقول للعباد أجمعين: أنا خالقكم، وأنا خلقت لكم ما في السموات
وما في الأرض جميعاً، وسخّرت لكم ما فيهما، وأنا غني عن كل شيء، و أنتم محتاجون إليّ،
ولست أنا المحتاج إليكم، وأنا أرحم الراحمين، فكونوا رحماء فيما بينكم، ولا يتكبر بعضكم
على بعض، ولا يظلم بعضكم بعضاً، وقد أنزلت لكم كتاباً يهديكم ويرشدكم إلى كيفية التعامل
الصحيح فيما بينكم، وقد أمرتكم فيه بإقامة العدل: {إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ
وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}﴿النحل: ٩٠﴾ : {إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ
إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ
اللَّـهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} ﴿النساء:
٥٨﴾ ويقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّـهِ
شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا
اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَاتَّقُوا اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ
بِمَا تَعْمَلُونَ} ﴿المائدة: ٨﴾، فها أنا قد أمرتكم بالعدل والإحسان، ونهيتكم عن الفحشاء
والمنكر والبغي، وأمرتكم أن تحكموا فيما بينكم بالعدل، وأن لا يجرمنّكم عداوة أناس
أن لا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى، واعلموا أنني سأحاسبكم بالعدل يوم الدين، يعني
{يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّـهِ}
﴿الإنفطار: ١٩﴾..
والآن هذا السؤال يطرح نفسه: أين
نحن المصلّون من هذه المعاني في حياتنا اليومية؟ فليعلم المصلّون جميعاً أن الصلاة
ليست بمجرد حركات وترانيم لا معنى لها، فعندما يقول المصلي (الله أكبر)، فهذه العبارة
لها معنى لا بد على المصلّي أن يستوعبه، وهو في الحقيقة يعترف - بتلفّظه لهذه الكلمة
- أن الله وحده يستحق التعظيم والتمجيد، فما دام أنه يعترف بهذا، ويعبد الله، فليس
له أدنى حق أن يتكبر على عباد الله، ويطلب منهم أن يعظموه ويمجدوه؟ وعندما يركع المصلي
فهو في الحقيقة يعترف أن الله وحده يستحق أن يركع له العباد، فلماذا إذاً يطلب من الآخرين
أن يخضعوا له؟ وهكذا السجود..
خلاصة
الكلام أن الكلمات التي يقرأها المصلي في صلاته، والحركات التي يقوم بها فيها، كلها
لها معان متعلقة بالحياة اليومية للعباد، ولا يمكن فصلها عن الحياة اليومية، فلا بد
على المصلين أن يطبّقوها في حياتهم اليومية. أما الهدف الأساسي من إقامة الصلاة، فقد
بيّنه الله تعالى، حيث أمر خاتم الأنبياء وقال: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ
اللَّـهِ أَكْبَرُ وَاللَّـهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} ﴿العنكبوت: ٤٥﴾. لقد أمر الله
تعالى نبيه بتلاوة ما أوحي إليه، وأمره بإقامة الصلاة، وأكد أن الصلاة تنهى عن الفحشاء
والمنكر، ثم قال: {وَلَذِكْرُ اللَّـهِ أَكْبَرُ وَاللَّـهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}.
هنا يؤكد الله تعالى أن ذكر (الله أكبر)، هذه العبارة تبيّن لنا أن تأثير ذكر الله
في النهي عن الفحشاء والمنكر أكبر من تأثير الصلاة. يمكن أن يقال في سبب هذا التأثير
إن الصلاة مقيدة بهيئة معينة، ومدة معينة، بينما الذكر ليس بمقيد لا بهيئة معينة، ولا
بزمن معين، وكذلك إن الصلاة جزء من الذكر، لأن الذكر يشمل الصلاة أيضاً.
العبادة (الطاعة الملطقة مع الخضوع
والذل) وطلب العون:
حسب النظام الإلهي لا يوجد أحد يستحق
العبادة - يعني الطاعة المطلقة مع الخضوع والذل- غير الله تعالى رب العالمين، وحتى
الأنبياء والرسل لا يستحقون الطاعة المطلقة مع الخضوع والذل، مع أن المؤمنين مأمورون
بطاعة الأنبياء والرسل بأمر من الله تعالى.
ولقد بيّن الله تعالى وظيفة الأنبياء والرسل التي
أرسلهم لأجلها، ألا وهي الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وتبيين أن الطاعة المطلقة
مع الخضوع والذل لا تجوز لغير الله تعالى، وأن كل من يدعو الآخرين إلى طاعته طاعة مطلقة
فهو يتدخل في أمر الله، ويجعل نفسه إلهاً للآخرين، ولا يجوز لمن يؤمن بالله أن يطيعوه
بأي شكل من الأشكال. وأن كل من يطيع غير الله طاعة مطلقة مع الخضوع الذل، فهو يهين
كرامته البشـرية التي أنعم الله تعالى عليه، وكرّمه بها، ولا يليق لبني آدم أن يذلّ
نفسه لغير الله، لأن الله تعالى خلقه مكرّماً، كما قال: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي
آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ
وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} ﴿الإسراء: ٧٠﴾، فلقد
خلق الله تعالى بني آدم مكرّمين، فكيف يمكن لشخص يؤمن بالله أن يدعو الآخرين إلى طاعته
طاعة مطلقة، أو أن يطيع غير الله طاعة مطلقة.
{إياك نعبد}:
لقد ذكر كثير من المفسرين عند تفسيرهم لهذه العبارة، فقالوا: نعبدك وحدك، ولا نعبد
غيرك. أرى أن هذا التفسير للآية الكريمة (أيْ: نعبدك ولا نعبد غيرك)، يشير ضمنياً أن
هناك من يستحق العبادة غير الله سبحانه، مع أنه لا يوجد أحد يستحق العبادة غير الله
تعالى. ولأجل هذا لا بد علينا أن نفكر جيداً حين نريد أن نستعمل العبارات والألفاظ
عندما يتعلق الأمر بالله تعالى، فالأولى والأفضل أن لا نستعمل عبارة مثل: (نعبدك وحدك،
ولا نعبد غيرك)، بل لا بد علينا أن نستعمل عبارة: (نعبدك، ولا نشرك بك). أرجو من الله
تعالى أن لا يتصور أحد أنني أطعن في أحد، أو أهين أحداً، بتوضيحي لهذه الآية بهذا التفسير.
اللهم إني أبرأ إليك ممن يطعن في عباد الله، أو يهينهم، أو يسبّهم، وخاصة الأموات منهم،
فإنهم لا يستطيعون أن يدافعوا عن أنفسهم، وليعلم المؤمن أن المؤمن ليس بطعان، ولا سبّاب،
ولا فاحش.
{إياك نعبد وإياك
نستعين}: عندما يقرأ المصلون هذه العبارة فكأنهم يقرّون ويقولون إن هذا من حسنك ومن
فضلك علينا أننا نعبدك، يعني نطيعك طاعة مطلقة، وننفّذ أوامرك، ولا نتدخل في أمرك.
وكذلك من حسنك ومن فضلك أننا نطلب العون منك، ولا نتدخل في أمرك. وللعلم إن معنى (إيا
الشمس) يعني حسنها وضوؤها. ولا أتصور أني سأخرج من الموضوع بذكر شيء من عبادة الشعوب
القديمة للشمس، وتقديسها، فمن خلال قرائتنا للتاريخ البشـري يتبيّن لنا أن أغلب الشعوب
القديمة في العالم قد عبدوا الشمس في فترة من الفترات، وكانت الشمس رمزاً للإله الكبير
عند أكثر شعوب العالم، وقد عرفت تلك الشعوب منذ بداية التاريخ أن الشمس منبع من منابع
الحياة، وأن الحياة بدون الشمس صعبة، إن لم تكن مستحيلة، فكيف يمكن للناس أن يزرعوا
ويحصدوا بدون أن تطلع الشمس وتنشر ضوئها على أنحاء الأرض، وكذلك بقية الأعمال من تربية
المواشي والأعمال التي لا يمكن إنجازها بدون وجود الشمس. وهذه الأسباب هي التي دفعت
أكثر الشعوب القديمة أن يعظموا الشمس، ويقدسوها، ويتخذوها إلهاً، لأنها تحسن إليهم.
ولأجل هذا قد بيّن الله تعالى لعباده أنه هو الذي خلق الشمس وسخرها للعباد، حيث قال
الله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ
مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} ﴿النحل:
١٢﴾ وقال: {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ
إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} ﴿الجاثية: ١٣﴾، فلقد سخّر الله
تعالى هذه الأشياء كلها لخدمة العباد؛ فهي تقدم الخدمات للعباد مجاناً بدون أي مقابل..
تصوروا لو كانت الشمس ملكاً لدولة ما، وفرضت تلك الدولة المالكة للشمس الضـرائب على
بقية الدول، مقابل الاستفادة من ضوئها، كم كانت تستفيد تلك الدولة المالكة؟ وكم كان
لا بد أن تدفع كل دولة، مقابل الاستفادة من ضوئها؟ وكم كانت حصة كل فرد أن يدفع، مقابل
الاستفادة من ضوء الشمس؟ ولكن الله تعالى سخرها، وغيرها، لتقدّم الخدمات للعباد مجاناً،
وبدون أيّ مقابل، وكأن الله تعالى يخاطب العباد ويقول لهم: أيها الناس لقد سخرت لكم
ما في السموات وما في الأرض جميعاً؛ تقدّم لكم الخدمات مجاناً وبدون أيّ مقابل، فاعدلوا
فيما بينكم، ولا تظالموا.
وخلاصة الكلام أن الشيء الذي لا بد
على العباد أن يعلموه علم اليقين، أن الله تعالى لم يطلب منهم شيئاً لنفسه، مقابل ما
خلق لهم في السموات والأرض، وما سخّر من الشمس والنجوم والأنهار، بل أمرهم أن يقيموا
العدل فيما بينهم، ولا يظلم بعضهم بعضاً. وكذلك قد بيّن الله تعالى لعباده أن نفع إقامة
العدل أيضاً يعود إلى الإنسان نفسه، كما قال الله تعالى: {من عمل صالحاً فلنفسه) وأن
ضرر الظلم أيضا يرجع إلى الإنسان نفسه كما قال الله تعالى {ومن أساء فعليها}، فلا شك
أن إقامة العدل في المجتمع تولد الأمن والأمان والسعادة في المجتمع، وأن الظلم يولد
البغضاء والعداوة الاضطراب في المجتمع. وقد وعد الله تعالى أنه سيحاسب عباده يوم الدين
بأعمالهم، وهو أرحم الراحمين، وسيحكم بين العباد بالعدالة المطلقة، ولن يظلم أحداً،
وكل إنسان سيجزى حسب أعماله.
{إياك نعبد}: قلنا إن العبادة هي بمعنى الطاعة المطلقة
مع الخضوع والذل.. إذاً، فلا بد أن تكون هناك أوامر ونواه، حتى يكون للطاعة مفهوم،
فالطاعة بدون الأوامر أو النواهي لا معنى لها. وقد أنزل الله تعالى للناس كتاباً بيّن
فيه أوامره ونواهيه، وهي كلها لمصلحة العباد. ذكر الله تعالى {نعبد} بصيغة الجمع، فلا
بد على المصلّي أن يقرأ بصيغة الجمع، سواء كان منفرداً أم مع الجماعة. إن هذه الصيغة
تبيّن لنا أن العبادة ليست بمنحصرة بين العبد والربّ، بل هي تنفيذ لأوامر الله فيما
بين العباد، ولا يمكن لشخص واحد أن ينفذ أمراً من أوامر الله تعالى، أو نهياً من نواهيه،
بدون التعامل فيما بينهم.. لنضرب مثالاً ليتبيّن الأمر لنا أكثر: يقول الله تعالى:
{وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ
وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} ﴿البقرة: ١٩٥﴾، فكيف يمكن أن
ينفق المؤمن، ويحسن، بدون التعامل مع الآخرين؟ فلا بد من التعامل لتنفيذ أمر من أوامر
الله. وكذلك يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّـهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ
وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ
يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ﴿النحل: ٩٠﴾، فهل يمكن للعباد أن يقيموا العدل
إن لم يتعاملوا فيما بينهم؟ وهكذا الإحسان، وبقية الأوامر..
وفي الحقيقة نحن لا نحتاج إلى تأمل عميق لكي نعرف
أن تنفيذ الأوامر يحتاج إلى تعامل العباد فيما بينهم، فهو أمر بديهي يعرفه الجميع،
وأن الناس يحتاج بعضهم لبعضهم للتعامل فيما بينهم.
{وإياك نستعين}، فلا شك أن من فضل
الله وحسنه أنه سمح لعباده أن يطلبوا العون منه..
ثم يذكر المصلّي طلبه من الله تعالى
فيقول: {اهدنا الصراط المستقيم}، ذكر الله تعالى {اهدنا} بصيغة الجمع، فلا بد على المصلي
أن يقرأها بصيغة الجمع، سواء كان منفرداً في صلاته أم مع الجماعة، فهذه الصيغة تبيّن
لنا أن المصلي يطلب الهداية لطرفي المعاملة، لتأثيرهما في المعاملة، وصحتها، فمن الصعب
أن تكون المعاملة عادلة وصحيحة بدون تعاون طرفي المعاملة. ولأجل هذا يطلب المصلي، أو
المصلون، الهداية بصيغة الجمع. وكذلك يمكن أن يقال إن هذا اعتراف صريح للمصلين بعجزهم،
وأنه ليس باستطاعتهم أن يتعاملوا فيما بينهم معاملة عادلة وصحيحة إذا ترك الأمر لهم،
فالمصلي يطلب من الله تعالى في صلاته أن يهديهم – وإن كان منفرداً في صلاته- إلى الصـراط
المستقيم، للتعامل فيما بينهم. ثم يذكر المصلي، أو المصلون، إنعام الله تعالى على العباد،
حيث يقولون: {صراط الذين أنعمت عليهم}، فهذا أيضاً اعتراف صريح من المصلين أنهم ليسوا
أول الطالبين لهذا الطريق المستقيم، فهناك من أنعم الله عليهم قبلهم. ثم يقرأ المصلي،
أو المصلون: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين}، هذه العبارة تدل على أن هناك من وقع
عليهم الغضب، وهم ليسوا على الطريق المستقيم، بل ضلوا الطريق المستقيم، ويتعاملون فيما
بينهم حسب أهوائهم، فيحلّون لأنفسهم ما يحرّمون للآخرين، ويفضّلون أنفسهم على الآخرين،
ولا يراعون حقوق الآخرين.
ولقد سبق أن ذكرنا أن المصلين طلبوا
من الله تعالى الهداية في صلاتهم، فهل هناك جواب لطلبهم؟ إذا أردنا أن نعرف جواب طلبهم،
فلا بد أن نقرأ بداية (سورة البقرة) بتأمل، وهي تأتي بعد (سورة الفاتحة)، حسب تسلسل
السور في القرآن الكريم. يقول الله تعالى في بداية (سورة البقرة): {الم (١) ذَٰلِكَ
الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ(٢)}، نقرأ في هذه الآية أن
الله تعالى بعدما يصف الكتاب بـأنه {لا ريب فيه}، يقول: {هدى للمتقين}، أيْ إنه يرشد
المتقين، يعني المتجنبين لحدود الله ونواهيه، إلى كيفية التعامل الصحيح فيما بينهم.
ثم
يذكر بعض صفات المتقين، فأول صفة يذكرها الله تعالى هي الإيمان بالغيب، يعني الإيمان
بمصدر الوحي، وهو الدستور والمنهج الذي اختاره الله تعالى لعباده، ليتعاملوا فيما بينهم
على أساسه. والصفة الثانية هي إقامة الصلاة. والصفة الثالثة هي الإنفاق مما رزقهم الله
تعالى، وهو نظام التكافل الاجتماعي..
ولقد
بيّن الله تعالى في هذا الكتاب الذي وصفه بأنه {لا ريب فيه هدى للمتقين}، أسس التعامل
فيما بينهم. ولا شك أن من يتبع هذا الكتاب، ويعمل بما جاء فيه، لا يمكن أن يتخلف. ولو
عمل المسلمون بهدايات وإرشادات هذا الكتاب لما تخلفوا، ولكن - مع الأسف الشديد - افترق
المسلمون إلى فرق؛ كل فرقة تأخذ بآراء علمائها ومشايخها، وكأنها وحي لا يأتيه الباطل
من بين يديه ولا من خلفه.. ومع الأسف الشديد - مرة أخرى- أن أكثر علماء هذه الفرق يدافعون
عن المستبدين والديكتاتوريين، وكأن الله تعالى أمرهم أن يقوموا بهذه الوظيفة، غافلين
أو متغافلين عن أوامر الله، وكأنهم لم يقرأوا هذه الآية الكريمة، التي ذكر الله تعالى
فيها الهدف الأساسي من إرسال الرسل وإنزال الكتب، حيث يقول الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا
رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ
النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ
وَلِيَعْلَمَ اللَّـهُ مَن يَنصُـرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّـهَ قَوِيٌّ
عَزِيزٌ} ﴿الحديد: ٢٥﴾ وقول الله تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا
فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّـهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا
تُنصَـرُونَ} ﴿هود: ١١٣﴾. لا أدعو العلماء أن يحملوا السلاح ويقاتلوا الحكام الظالمين،
بل يكفيهم أن لا يدافعوا عن المستبدين والظالمين، ولا يبرروا أعمالهم الإجرامية، وكذلك
أن لا يطلبوا من الناس أن يطيعوهم، ويدافعوا عنهم، ولا يخالفوهم.. لقد قال كثير من
العلماء للناس إن الخلفاء والسلاطين والملوك هم ظل الله في الأرض، لا تجوز مخالفتهم
بأيّ شكل من الأشكال، وكأنهم لم يقرأوا هذه الآية الكريمة، حيث يقول الله تعالى: {إِنَّا
أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ
اللَّـهُ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} ﴿النساء: ١٠٥﴾، هكذا خاطب الله تعالى
خاتم الأنبياء والرسل. فماذا يقول العلماء للسلاطين والخلفاء والملوك، وهم يرون بأعينهم
أنهم لا يقيمون العدل، ويمنعون الناس عن إقامته في المجتمع؟!
ذكر الله:
ما دام أن هناك علاقة بين ذكر الله
والصلاة، فلا بأس أن نذكر مختصـراً من معنى ذكر الله أيضاً. وقبل كل شيء لا بد من تبيين
معنى (الذكر) في اللغة العربية، حتى يكون بإمكاننا أن نبني عليه الهدف الأساسي من ذكر
الله. فقد ورد في معجم (الصحاح في اللغة): "الذِكْرُ والذِكْرى، بالكسر: خلاف
النِسْيانِ. وذَكَرْتُ الشـيءَ بعد النِسْيانِ، وذَكَرْتُهُ بلساني وبقلبي، وتذكَّرْتُهُ".
ورد في معجم مقاييس اللغة: ذَكَرْتُ الشـيء،
خلافُ نسِيتُه. ثم حمل عليه الذِّكْر باللِّسان. ويقولون: اجعلْه منك على ذُكْرٍ، بضم
الذال، أي لا تَنْسَه. خلاصة الكلام أن الذكر هو بمعنى عدم النسيان. وفي حياتنا اليومية
عندما يقول شخص لصديقه، أو لأيّ إنسان آخر: لا تنسنا، فإنه في الحقيقة يطلب منه أن
يقضـي حاجتهم، ويقوم لهم بأمر ما. وعندما يقال للجندي لا تنس أوامر القيادة، يعني التزم
بها، ونفذها. وعندما يطلب من العبد أن يذكر الله، وكأنه يطلب منه أن لا ينىسى تنفيذ
أوامره، لأنه بمجرد أن ينسى العبد ذكر الله، فإنه يترك تنفيذ أوامره أيضاً، وقد لا
يكتفي بعدم تنفيذ أوامره، بل يعصيه أيضاً. فالمطلوب من العبد أن يذكر الله كثيراً،
لينفذ أوامره كثيراً ولا يعصه.
ورد في القرآن الكريم أهمية كبيرة
لذكر الله، ولكن القرآن لم يحدد مكاناً لذكر الله، وكذلك لم يذكر كيفية محددة وهيئة
معينة له، و لم يرد عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أيضاً شيء يحدد الهيئة التي لا بد
أن يكون عليها الذاكرون، أو المكان الذي لا بد أن يكونوا فيه أثناء الذكر. ويمكن أن
يقال إن تحديد المكان، وتعيين الكيفية أو الهيئة، مخالف للهدف الأساسي لذكر الله، لأن
المطلوب من المؤمنين أن يذكروا الله في جميع الأحوال، والأماكن، ليصححوا معاملتهم وتصرفاتهم
فيما بينهم، ومع الآخرين، ولا يقوموا بما يخالف أوامر الله ونواهيه. وهذه هي بعض الآيات
التي تتحدث عن ذكر الله: قال الله تعالى:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ
الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّـهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ
آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} ﴿الأنفال: ٢﴾.
يؤكد الله تعالى في هذه الآية أن المؤمنين، يعني الذين اطمأنت قلوبهم بما أنزله الله
على رسله وأنبيائه، وهم مصدقون لما أنزله الله من الوحي بأعمالهم، هؤلاء هم الذين إذا
ذكر الله وجلت قلوبهم وفزعت، وهم الذين إذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً، يعني:
إطمئناناً وتصديقاً، وهم على ربهم يتوكلون.
وقال
الله تعالى:
{الَّذِينَ آمَنُوا
وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّـهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّـهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}
﴿الرعد: ٢٨﴾.. المصدقون لأوامر الله تعالى بأعمالهم، تطمئن قلوبهم بذكر الله، فالمؤمن
يطمئن قلبه إذا شعر أنه قد نفذ أوامر الله تعالى. وإذا شعر أنه لم يقم بأوامر الله
تعالى وجل قلبه وفزع . نقرأ في الآية الثانية من (سورة الأنفال): {إِذَا ذُكِرَ اللَّـهُ
وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}، هذه العبارة تبيّن أن الوجل يحدث في القلوب حين يذكر الله،
فهذا يدلّ أن قلوب المؤمنين تخاف وتفزع من أنهم لم ينفذوا أوامر الله حق تنفيذه. ثم
يقول الله تعالى: {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا}، هذه
العبارة تبيّن أن تلك القلوب التي تخاف وتفزع حين يذكر الله، هي التي تزداد إيماناً
وتصديقاً حين تتلى عليها آيات الله.
ويقول
الله تعالى في الآية الثامنة والعشرين من (سورة الرعد):
{الَّذِينَ آمَنُوا
وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّـهِ، أَلَا بِذِكْرِ اللَّـهِ تَطْمَئِنُّ
الْقُلُوبُ}.. هذه الآية تبيّن لنا حالة الطمأنينة بسبب ذكر الله، يعني أن المؤمنين
تطمئن قلوبهم بذكر الله، لثقتهم بعدالته ورحمته.
فخلاصة الكلام، أن المؤمنين تخاف
قلوبهم وتفزع حين يذكر الله، إذا شعروا أنهم لم ينفذوا أوامر الله حق تنفيذه، فهم يخافون
ويفزعون من أن يعاقبهم الله بسبب إهمالهم لتنفيذ أوامره، وهؤلاء هم الذين يزداد إيمانهم
بتلاوة آيات الله. ومن ناحية أخرى، تطمئن قلوب المؤمنين بذكر الله، إذا شعروا أنهم
قد نفذوا أوامر الله حق تنفيذه، وهم يطمعون في رحمته ونعمه.
قال الله تعالى: {إِنَّنِي أَنَا
اللَّـهُ لَا إِلَـٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} ﴿طه:
١٤﴾، هذه الآية تبيّن لنا بوضوح العلاقة بين العبادة وإقامة الصلاة وذكر الله، وكأنهما
وحدة واحدة، ولا يمكن الفصل بينهما. وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّـهِ
وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿٩﴾ فَإِذَا
قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِـرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّـهِ
وَاذْكُرُوا اللَّـهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ﴿الجمعة: ١٠﴾، قد يتصور القارئ
عندما يقرأ الآية التاسعة من (سورة الجمعة) أن الذكر شيء منفصل عن المعاملات، لأن الله
تعالى يقول: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ
ذِكْرِ اللَّـهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}،
فظاهر العبارة يدل على أن هناك فصلاً بين الدعوة إلى ذكر الله، وبين ترك البيع، فلو
لم يكن هناك فرق بينهما لما أمر الله بالدعوة إلى ذكر الله وترك البيع. لكن عندما يقرأ
القارئ الآية العاشرة بعدها، يتضح له أن الأمر ليس كما تصور، بل لا بد من ذكر الله
في جميع الأحوال والأعمال. ولأن الآية العاشرة تبيّن لنا كيفية الدعوة إلى الصلاة يوم
الجمعة، وأن الذكر يشمل الصلاة، وأن لها هيئة محددة، فلا بد على المصلي أن يترك كل
شيء ما سواها أثناء إقامتها. وفي الحقيقة بمجرد تأمل بسيط يتضح لنا أن الصلاة نفسها
ترشد المؤمنين إلى كيفية التعامل فيما بينهم.
وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّـهَ
ذِكْرًا كَثِيرًا} ﴿الأحزاب: ٤١﴾. هذه الآية تنبّه المؤمنين أن يذكروا الله ذكراً كثيراً.
ويقول الله تعالى في آية أخرى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ
لِذِكْرِ اللَّـهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ
مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} ﴿الحديد: ١٦﴾. هذه الآية توبّخ المؤمنين من أن يكونوا مثل الذين
أوتوا الكتاب من قبلهم، وما آل إليه وضعهم من قسوة القلب والخروج عن أمر الله تعالى.
ويصف الله تعالى الذين استولى عليهم الشيطان، فيقول: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ
فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّـهِ أُولَـٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ
الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} ﴿المجادلة: ١٩﴾. وفي الآية التاسعة من (سورة المنافقين)
يخاطب الله تعالى المؤمنين قائلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ
أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّـهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ فَأُولَـٰئِكَ
هُمُ الْخَاسِرُونَ} ﴿المنافقون: ٩﴾. هذه الآية تبيّن للمؤمنين الأسباب الأساسية التي
تلهي المؤمنين عن ذكر الله، وتجعلهم يخوضون مع الخائضين في المظالم والجرائم، فليس
بمخفي على أحد أن أهم الدوافع التي تدفع الناس إلى الظلم والتعدي على حقوق الآخرين
هو حب الأموال والأولاد، فإن حبّ الأموال والأولاد يدفع الناس ليظلم بعضهم بعضاً، ويغش
بعضهم بعضاً، وأن حب الأولاد والأموال يعمي أكثر الناس عن الحقيقة، فلا يفكرون في شيء
مثلما يفكرون في مصير أولادهم وجمع الأموال لهم، ولا يهمهم كيفية جمع الأموال ومصدره،
فالمهم عندهم أن يجمعوها ويكنزوها لأولادهم، وإن كان على حساب تعاسة الآخرين من أبناء
أخوتهم في الإنسانية. وقد ورد في القرآن الكريم في ذم أكل أموال الناس بالباطل، وجمعها،
وعدم إنفاقها في سبيل الله، حيث قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ
كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ
وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّـهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ
وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ فَبَشِّـرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ﴿التوبة:
٣٤﴾. هذه الآية تخاطب المؤمنين مؤكدة لهم أن كثيراً من الأحبار والرهبان يأكلون أموال
الناس بالباطل، لم يقل الله تعالى: جميع الأحبار والرهبان، لأن منهم من يتجنب أكل أموال
الناس بالباطل، وكان المعروف والمشهور بين الناس أن وظيفة هؤلاء الأحبار والرهبان هي
تبيين الحلال والحرام للناس، ودعوتهم إلى سبيل الله، ولم يكن الناس ينظرون إليهم بعين
الريبة، بل كانوا ينظرون إليهم على أساس أنهم يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ولكن
القرآن وصفهم بغير ما كانوا يتظاهرون به للناس، فوصفهم بوصف لم يكن معروفاً بين الناس.
فكيف يتوقع ممن تكون وظيفته تبيين الحلال والحرام للعباد، أن يأكل أموال الناس بالباطل؟
ولكن - مع الأسف الشديد- إنهم فعلوا ويفعلون! ومن خلال قرائتنا للتاريخ نرى أن التاريخ
أيضاً يثبت ما بيّنه الله تعالى من وصفهم في كتابه، خلافاً لما روّجه رجال الدين عن
أنفسهم للناس. فالتاريخ يثبت أن أكثرهم لم يقوموا بأي عمل من الأعمال المفيدة للمجتمع
البشري، بل عاشوا على أموال الناس على أساس أنهم يبلغون الدين، ويبينون أحكامه للعباد.
ولكن - مع الأسف الشديد- أن أكثرهم لم يقوموا بوظيفتهم، ولم يبينوا الدين حق التبيين،
بل وقفوا مع السلاطين والحكام، وبرروا أعمالهم الإجرامية، وبيّنوا للناس أن السلاطين
والحكام والخلافاء هم وكلاء الله في الأرض، وأن طاعتهم مفروضة على الناس، ولا يجوز
مخالفتهم والاعتراض عليهم، وإن ضربوهم وأخذوا أموالهم. وخلاصة الكلام إنهم بيّنوا للناس
خلاف ما أمر الله به من إقامة العدل، والتضحية في سبيل الله بالمال والنفس، للدفاع
عن إقامة العدل، وضربوا الهدف الأساسي من إرسال الرسل، وإنزال الكتب، عرض الحائط، وقلّما
ذكروا شيئا من هذا الهدف الأساسي الذي بيّنه الله تعالى في القرآن الكريم.
يقول الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا
رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ
النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ
وَلِيَعْلَمَ اللَّـهُ مَن يَنصُـرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّـهَ قَوِيٌّ
عَزِيزٌ } ﴿الحديد: ٢٥﴾. لقد بيّن الله تعالى في هذه الآية أن الهدف من إرسال وإنزال
الكتب، هو أن يقوم الناس بالقسط. وكذلك الآية تشير إلى جواز استعمال القوة ضد الذين
يمنعون إقامة العدل، لصدّهم عن عملهم الشنيع. ولكن - مع الاسف الشديد- إن المؤسسة الدينية،
المتمثلة في الأحبار والرهبان، وأمثالهم من رجال الدين، قد وقفت مع الحكام والسلاطين
والخلافاء المستبدين، ومنعت الناس من المطالبة بحقوقهم المشـروعة، بحجة أن الحكام والسلاطين
والخلفاء هم وكلاء الله في الأرض، فلا يجوز لأحد مخالفتهم! هذه المؤسسة التي كانت وظيفتها
أن تبيّن الحقيقة للناس، وتدافع عن إقامة العدل، جعلت وظيفتها الأساسية التدخل في أمر
الله، أعني الأمور الغيبية التي لا تسمن ولا تغني من جوع، وهي أمور تخصّ الله ولا دخل
للبشـر فيها، ولا فائدة للبشـرية من وراء البحث فيها. هذه المؤسسة هي التي حرمت الناس
من مطالبتهم لحقوقهم المشروعة منذ آلاف السنين، وهي التي أضفت على السلاطين والخلفاء
والملوك القدسية، ومنحتهم حق الحاكمية، وهي التي حرّفت معنى الشورى عن موضعه، ومنعت
الناس من المطالبة بالشورى فيما بينهم، بحجة أن الحكام والسلاطين والخلفاء لا يخطأون،
وإذا أخطأوا - على سبيل المحال- فلهم أجر مقابل خطأهم، كما لهم أجران مقابل صوابهم،
فلا داعي للشورى. فالمؤسسة الدينية لم تبيّن للناس شيئاً غير ما يوافق هوى السلاطين
والحكام وأعمالهم الشنيعة. فالمؤسسة الدينية هي التي ادعت أن السلطان ظل الله في الأرض،
فلا يحق لأحد أن يهينه، فمن أهانه فقد أهان الله، مع أن الله يخاطب خاتم الأنبياء،
ويقول: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ
بِمَا أَرَاكَ اللَّـهُ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا} ﴿النساء: ١٠٥﴾، هذه
الآية تنصّ، بشكل واضح لا غبار عليه، أن النبي مأمور أن يحكم بما أراه الله، لا بما
يرى هو بنفسه، يعني لا بد عليه أن يتبع الكتاب الذي أنزله الله تعالى للناس. ومن قبله
قد خاطب الله خليله أبا الأنبياء إبراهيم عليه السلام، حيث قال: {وَإِذِ ابْتَلَىٰ
إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ
إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} ﴿ البقرة:
١٢٤﴾، فبعدما أبلغ الله تعالى إبراهيم عليه السلام أنه جعله إماماً للناس، طلب إبراهيم
عليه السلام من الله تعالى أن يجعل من ذريته أيضاً أئمة، فهذا الطلب دليل على أن كون
(إبراهيم) إماماً للناس، لم يخرجه من الإنسانية، وهو مثل إي إنسان يريد لأولاده من
بعده، ولأجل هذا طلب إبراهيم من الله تعالى أن تكون الإمامة في أولاده من بعده، فقال:
{ومن ذريتي}، فكان ردّ الله عليه واضحاً وبيّناً ولا يمكن تأويله، وهو: {لا ينال عهدي
الظالمين}. فالميزان في النظام الإلهي هو العدل، وليس النسب، أو أي شيء آخر. الإنسان
في النظام الإلهي يقاس بعمله، فإن كان عمله جيداً ومفيداً للمجتمع البشري، فهو جيد،
وإن كان عمله سيئاً، فهو مثل عمله سيء.
الفئة الثانية التي بشرها الله تعالى
بعذاب أليم في هذه الآية، من بعد الأحبار والرهبان، هم أولئك الذين يجمعون الأموال
من الذهب والفضة، ولا ينفقونها في سبيل الله. يمكن القول إن أبرز الذين يمثلون هؤلاء
في زمننا هذا، هم ملاك صندوق النقد الدولي، والشركات العالمية الكبيرة العابرة للقارات،
بالإضافة إلى جميع الذين يكنزون الأموال، ولا ينفقونها في سبيل الله على الفقراء والمساكين.
وليس بمخفي على باحث يبحث عن الحقيقة، أن هؤلاء يمنعون الدواء عن المرضى، الذين يبحثون
عن الدواء وهم يصارعون الموت ليبقوا على قيد الحياة، فيجدون الدواء ولكنهم لا يملكون
ثمن الدواء.. أليس دواء الجوع الطعام؟ وفقاً لمنظمة الصحة العالمية، فإن الجوع هو أكبر
خطر يهدد صحة الإنسان في العالم، و يتجاوز عدد ضحايا الجوع كل عام عدد ضحايا الأمراض
الثلاثة مجتمعة، يعني: مرض الآيدز، والملاريا، والسل. و كذلك وفقاً لمنظمة الصحة العالمية،
فإن سوء التغذية هو المساهم الأكبر لزيادة معدل وفيات الأطفال في العالم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق