علي سليم
قال تعالى في محكم التنزيل: ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ
إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).
يسود اعتقاد لدى العديد من الأوساط، من
وحي ما استنبطوه من هذه الآية الكريمة، أن الهدف الرئيسي لخلق الجن والإنس هو العبادة،
وأن مهمة الإنسان - ولندع الجان في حالهم - تكاد تنحصر في هذا الإطار، فوجب عليه -
تبعاً لذلك - أن يكرس حياته للعبادة، وربما عليه أن يقضيها في الزهد والتنسك. أدّى
ذلك إلى نوع من التحفظ، إن لم يكن من التشدد، في التعامل مع الكثير من مفردات الحياة،
لجهة أنها زينة ومباهج تغرّر بالعبد، وتلهيه عن واجبات دينه، أو أنها تصرفه عنها كلياً،
وتجعله يهوي في المحذور والغفلة، حتى تقولبت الحياة في حالة من السوداوية والكراهة.
في الواقع، لم يأت ذلك التوجه من فراغ،
وإنما ساعدت كيفية تناول هذه الآية الكريمة، تفسيراً وتأويلاً، على إيجاده وتنميته..
والإشكال أو الإلتباس الذي ظهر جرّاء استخدام أداة الحصـر والاستثناء (إلاّ)، من جهة، وورود (لام
التعليل)، من جهة أخرى، في الفعل (لِيَعْبُدُونِ)، وتحديد مرادهما، كان السبب في هذا
الالتباس في المعنى.
يشير الحصر والاستثناء، وكذلك التعليل، في الظاهر، أن
ليس للإنسان، إلا أن يعبد الله، ويوحّده ، ولأن الجميع لم يفعلوا - كما هو الحال -
وكفر عديدهم، ولأن الله تعالى قال في موضع آخر: ( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا
مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ)، والظاهر هنا يدل على أنهم لم يُخلقوا للعبادة، تعقبوا
الأمر وأوّلوه، قائلين تارةً: السعداء خُلِقوا للطاعة، والأشقياء للمعصية. وتارةً قالوا:
بل الجميع خُلِقوا للإذعان والإقرار بالعبودية، طوعاً وكرهاً، والتذلل للقدر والقضاء،
جبراً ولزوماً، فهو جارٍ عليهم، شاءوا أم أبوا.
آخرون قالوا: بل إن هذا خاص فيمن سبق في
علم الله تعالى أنهم يعبدونه، ويوحدونه. ولجأ آخرون إلى قراءة أخرى تقول: وما خلقت
الجن والإنس من المؤمنين إلا ليعبدون، وبذلك أراحوا رؤوسهم من أوجاع الاستثناء والتعليل.
وهناك المزيد من التأويلات والتعقيبات في هذا المقام، يمكن الرجوع إليها في مختلف التفاسير.
ثم إن هناك من انطلق فعلاً، من فهم هذه
الآية إلى حياة الزهد والتنسك، بل وإلى نوع من الرهبانية التي تنبذ الحياة، وتحقرّها،
وسخّروا حياتهم للتعبد بمعزل عن مباهج الحياة، بحجة أن الإنسان إنما خلق للعبادة، وذلك
خلافاً لصريح الكتاب والسنة. حيث جاء فيهما، على سبيل المثال لا الحصر: قال تعالى:
(قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ
مِنَ الرِّزْقِ)، وفي الحديث: (أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ
لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ
فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي)..
يمكن في الواقع، بعد الاتكال على الله
تعالى، تناول الآية الكريمة من زاوية أخرى، تنجينا من مخاطر الإشكال المذكور، والله
تعالى أعلم.
فالخلق عموماً، في السماوات، والأرض، وما
بينهما، وما في كل ذلك من موجودات، ليس إلا تجلّيات أسمائه الحسنى، وصفاته العلا، سبحانه
وتعالى، وما تشتمل عليه من قدرات مطلقة، ومعانٍ لا حد لها. انظرْ مثلاً إلى قوله تعالى
- ولو أن الأمر يأتي خارج السياق، إلا أن لطافته تفرض نفسها-: (قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ
مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي
وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا). أو قوله سبحانه: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ
مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا
نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)، ثم تخيل كيف أن مدى قدرته
على الكلام مطلق، ولا نهائي، وقِسْ على ذلك.
في العادة، تأتي الأسماء والصفات لتعبِّر
عن واقع الحال. فكل اسم له مبنى يجسِّده: إما مادي، مثل الكرة، وإمّا معنوي، مثل الكرم.
يكون الاسم الذي يفتقر إلى المبنى المادي سراباً، والاسم الخالي من مبناه المعنوي وهماً.
كذلك الحال بالنسبة إلى الصفة، إذا لم تكن صادقة، تنطبق على موصوفها، حالاً وإحلالاً،
كانت كذباً وزيفاً. وهكذا يفقد الاسم حقيقته، وتفقد الصفة جوهرها، إذا لم يتعديان إلى
واقع فعلي. فلكي يكون الإنسان كريماً، يجب أن يُبان كرمه على المستفيدين، وإلا لتعطلت
صفة الكرم، وسقطت عنه. ولكي تكون الكرة موجودة، يجب أن تستشعرها الحواس الخمسة، أو
البعض منها، أو إحداها على الأقل.
لهذا قال بعض المتصوفة، مثل (ابن عربي)
إن الكون المخلوق مرآة الخالق، بما معنى أن كل جزئيّة منه إنما تمثّل تجلياً وتجسيداً
واقعياً وفعلياً لأحد أسماء الله الحسنى، أو إحدى صفاته العلى. ولولا ذلك لتعطلت معانِ
تلك الأسماء والصفات، وهو محال. فكيف يكون خالقاً، على سبيل المثال، إذا لم يخلق؟ وكيف
يكون رحيماً، إذا لم يرحم؟ وكيف يكون غفوراً، إذا لم يغفر؟.. ولعل الحديث الشريف:
(لو لم تذنبوا، لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم)، خير بيان لهذه
المعادلة، وأوضح برهانٍ عليها.
وإذا أردنا الاستطراد في هذه الحيثية،
لوجدنا - فعلاً - أن كل مظهر من مظاهر الطبيعة، وكل وجه من أوجه الحياة، إنما يمثّل
تجلياً لأسماء الله تعالى، وصفاته. ولكي لا يفهم من هذا الكلام، وكأننا نضفي نوعاً
من الجبر واللزوم على الخالق - جل وعلا-، وأن أسماؤه وصفاته لا تتحقق، وتأخذ بعدها
الفعلي، وتتنزه عن التعطيل، إلا وفق هذه المعادلة، ننوّه أن قدرته -جلّ وعلا- مطلقة،
وأنه سبحانه وتعالى لا يعدم الوسيلة التي تحقق معاني أسمائه الحسنى، ومدلولات صفاته
العلى. فمعبوديته هنا، مثلاً، تتحقق بالجنّ، وليست بحاجة إلى الإنس، لتتجسد واقعاً.
علماً أن الجن والإنس يبدوان متماثلَيْن في استجابتيهما للتنزيل، وعلاقتيهما بعبودية
الله تعالى. ويكفي خلق أحدهما لذلك، بل تكاد حتى ألفاظ الطرفين أن تكون هي نفسها. راجع
- إذا شئت – (سورة الجن(.
غير أن النموذج الذي أَوْجَدنا فيه الخالق
سبحانه وتعالى يوحي بذلك، ولعل قائلاً يتحجج بأن سائر المخلوقات تحقّق تجلّي صفة المعبود:
(إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا)،
(وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم
بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ)، (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَن
فِيهِنَّ ، وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ
تَسْبِيحَهُمْ ، إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا). فيكون التعقيب: إن الإرادة الحرة،
التي تتحرّى صفة المعبود، وتجسّد الاستحقاق الذاتي، هي المطلوبة لهذه المهمة. قوله
تعالى: (مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا)، يشير إلى ذلك: ما لكم لا تستشعرون
عظمته، وتتطلعون لجبروته، وتدركون سلطانه من أنفسكم، وهو أهل لذلك تماماً. إن الأمر،
إذن، من قبل ومن بعد، منه وإليه، ولا لزوم عليه إلا منه سبحانه وتعالى، وقد أفاد في
كتابه المجيد أنه كتب على نفسه الرحمة، أي ألزمها بها، فهو يفعل ما يريد، وما يشاء،
من ذاته، ولذاته، دون احتياج إلى وليّ أو شريك، ودون سؤال من حسيب أو رقيب: (لَا يُسْأَلُ
عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)، (مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ
أَن يُطْعِمُونِ)، (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ
يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ، وَكَبِّرْهُ
تَكْبِيرًا).
إذا صح منا القول هنا بأن خلق الجن والإنس
إنما جاء تجلياً لصفة المعبود، وتحقيقاً لبعدها، وتجسيداً لمعناها، يكون الحصر والاستثناء
والتعليل متعلقاً بها، وليس بنا، نحن العابدين من الجن والأنس، وسوف يبدو جليّاً أن الإشكال سيسقط، والمقصود سيحضـر فوراً، ولو لم يدخل
في العبادة إلا فرد واحد.
وكأن الآية الكريمة تقول: لقد كان خلقكم
تماشياً مع صفة المعبود لدى خالقكم ليس إلّا، لا سعيا لرزق، ولا طمعاً في مأكل. من
شاء فليعبد، ومن شاء فليحجم، ولو لم تفعلوا على الإطلاق لذهب بكم، وأتى بآخرين يعبدونه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق