01‏/05‏/2015

الدور الإقليمي التركي الحديث في الشرق الأوسط

أ. أيمن هشام عزريل
أ. أيمن هشام عزريل
ماجستير محاسبة/ جامعة أليجار الإسلامية - الهند
و
الحقوقي: يوسف عبدالرحيم عزريل
ماجستير حقوق/ جامعة القدس - فلسطين
المقدمــة:
عملت إسرائيل، ومنذ قيام الدولة المزعومة عام 1948، على إقامة علاقات مع دول الطوق العربي مثل: سوريا، ومصر، ولبنان، وتركيا المجاورة للطوق؛ لتوظف من خلالها القدرات لأجل الديمومة، والمحافظة على التفوق على مستوى الشرق الأوسط، وتنفيذ المشروع الخاص بالتوسع والامتداد، ولأن تركيا ترتبط بعلاقات تحالفيه مع الولايات المتحدة، وتنشد التوجه نحو أوروبا، تحاول أداء دور فاعل في منطقة
الشرق الأوسط؛ وبما أَن إسرائيل تعد حليفاً استراتيجياً للولايات المتحدة الأمريكية، فإن ذلك ساهم بنجاح إسرائيل في الوصول إلى تركيا، وأن تؤصر العلاقات التركية الإسرائيلية بوشائج أمنية واقتصادية وسياسية عديدة، توج آخرها بتحالف استراتيجي عام 1996؛ ولعل هذه الوشائج التي توجت العلاقة بين تركيا واسرائيل كانت سبباً في خيبة أمل العرب بتركيا، تلك الدولة المسلمة، التي تجاور وترتبط مع الوطن العربي بماضٍ عميق في التاريخ يمتد لأربعة قرون من الاحتلال العثماني؛ بيد أن الصورة جاءت معاكسة، لأن تركيا في اتفاقاتها مع إسرائيل تسعى إلى الامتداد في بلاد العرب، والتنعم بميزاتها، سيما أن المتغيرات الدولية المعاصرة كالتحولات السياسية في أوروبا الشرقية، وانهيار الاتحاد السوفيتي، وحربي الخليج 1991 و2003، ساهمت في بعثرة النظام الإقليمي العربي وتسارع عملية التطبيع مع إسرائيل؛ وشجعت تركيا على اتخاذ خطوات التحالف مع إسرائيل؛ لأن مصالحها مع الأخيرة - وحسب تصوراتها - قد تثمر أكثر من علاقاتها مع العرب؛ وجاء المسعى الأمريكي بمشروع الشرق أوسطية، الذي يؤكد على ضرورة الإصلاح السياسي والاقتصادي في منطقة الشرق الأوسط، لتحقيق أهداف السياسة الخارجية الأمريكية في المنطقة؛ من هنا تأتي أهمية هذا البحث لكشف مجموعة من المواقف، والأحداث، والتطورات، التي تخص العلاقة التركية الإسرائيلية، والتي نمت، وترعرعت إثر المتغيرات آنفة الذكر، لهذا وجدت السياسة التركية نفسها مضطرة لتكييف سياستها الخارجية بشكل يتلاءم مع الواقع الدولي والإقليمي، وذلك بهدف تفعيل دورها الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، وبالتالي إعادة تشكيل سياستها حيال عدد من المشاكل الإقليمية.
1. الدور التركي الإقليمي في الاستراتيجية الأمريكية
كان الفكر الصهيوني، بشقيه (الإسرائيلي) والعالمي، يعد لمشروع النظام الشرق الأوسطي منذ إقامة دولة (إسرائيل) في أربعينيات القرن العشرين، ويعد شيمون بيريز - أحد زعماء حزب العمل الإسرائيلي - أبرز منظريه والمشرفين على تنفيذه في الوقت الراهن. وقد توافرت لهذا المشروع عوامل التخلّق والتكوّن، وظروف البيئة التي تحتضنه وتقيم أسسه وهياكله.
إن مشروع النظام الشرق الأوسطي، في إطار العوامل والظروف الراهنة، هو المشروع الذي سيبذل الدعاة إليه كل جهودهم من أجل إقامته، والتغلب على معارضيه، والبدء بإقامته ببعديه الاقتصادي والأمني(1). كانت الدعوة إلى الشرق الأوسطية قبل صيف عام 1990، الذي شهد احتلال العراق للكويت، وما تلاه من حرب، دعوة خافتة محصورة في الفكر (الإسرائيلي)، وبعض التطلعات المتفرقة في الفكر السياسي العربي، وبعدما نشبت حرب الخليج الثانية (1990-1991)، برزت متغيرات جذرية، دولية وإقليمية وعربية، كلها أسهمت في تكوين حالة جديدة في المنطقة العربية، اتسمت بالسيولة في الأفكار، والرؤى، والآفاق، وشرعت الأبواب أمام مختلف الاحتمالات والتطورات، وكان أبرز إفرازاتها وأخطرها أن خلّفت فراغاً استراتيجياً في منطقة الشرق الأوسط، بعد أن كان الأمن الدولي منشداً إلى التنافس ببن القوتين العظميين وكتلتيهما، وبعد أن كانت الأمور الوطنية، والقومية، والإقليمية، موضعاً للتنافس ببن القوتين، وموضعاً للحرب الباردة وآثارها وتداعياتها، فإن ذلك أدى إلى تدهور مكانة الدول العربية في النسق الدولي، وتراجع أهمية قضاياها، كما تراجعت تلك المكانة والقضايا في الوقت نفسه في إطار المصالح الأميركية. وإذا ما أردنا أن نصنف تلك المصالح في الوطن العربي في عناوين رئيسة، فيمكننا إدراجها تحت عناوين ثلاثة(2):
أ. حصار الشيوعية: وقد انتهت تلك المصلحة الأميركية الكبرى بتراجع الشيوعية وانهيار معاقلها.
ب. النفط وحمايته، وضمان تدفقه بنظام معين، وحجم محدد، وسعر مناسب، وتلك مصلحة تم تأمينها، وترسيخ أمنها وحمايتها لأجل طويل.
ج. أمن (إسرائيل)، وإدماجها في منطقة الشرق الأوسط عضواً أصيلاً مسيطراً، بوصفها قوة إقليمية كبرى، وتلك مصلحة تعمل الولايات المتحدة على تحقيقها.
وذكرت صحيفة (وقت) التركية أن مجموعة من قادة اليسار التركي (من بينهم كمال علمدار أوغلو رئيس جامعة استانبول، والدكتور نور الدين سوزان عضو البرلمان عن الحزب الجمهوري المعارض) بحثت يوم 14/2/2004، مع (شيمون بيريز) رئيس الوزراء (الإسرائيلي) الأسبق وزعيم حزب العمل، مشروع الشرق الأوسط الكبير، ولم يسمح للصحافة بالمشاركة في تغطية الاجتماع.
وقد صرح بيريز لقناة (إس تي في) التركية الخاصة التابعة لجماعة النور الدينية بأن تركيا دولة نموذجية بالعالم الإسلامي، وعليها دور في مشروعات المنطقة، وقال بيريز: إنه "إذا كان الاتحاد الأوروبي يرغب في القضاء على الصراع الكبير الجاري بين العالمين الإسلامي والمسيحي، فعليه منح تركيا عضوية الاتحاد الأوروبي؛ لأن ذلك هو الحل المناسب لمنع صراع الحضارات"(3).
ورأى بيريز أنه باستطاعة تركيا أن ترسم طريقها الاستراتيجي من الناحية الأطلسية، وطريقها الاقتصادي من الناحية الأوروبية، وطريقها السياسي من ناحية البحر الأبيض المتوسط، وقال: "إن العلاقة الجيدة التي تمتلكها تركيا مع إسرائيل والعالم العربي تؤهلها لتأدية دور الوسيط بين إسرائيل وسوريا لحل الخلافات القائمة بينهما"(4).
من جهتها، تعرضت الكاتبة الصحفية "سيبل آرصلان" في مقال لها بصحيفة (وقت) للمشروع بقولها: "إن أمريكا أعطت الضوء الأخضر لأردوغان حول مشروع الشرق الأوسط الكبير في زيارته الأخيرة، على أساس أن تقوم تركيا بدور محوري في هذا المشروع، وهو ما يتفق ورؤية وزير الخارجية الأمريكية الأسبق هنري كيسنجر التي طرحها في عام ١٩٩٥، والتي تقول بأن تركيا يجب أن تكون دولة محورية بالشرق الأوسط"(5).
وقالت سيبل: "إن التقاط صور لزوجتي أردوغان وجول المحجبتين مع قرينة الرئيس الأمريكي، أو بعض زوجات رؤساء وزراء الدول الأوروبية ليس عشوائياً، وإنما يدخل في إطار التقارب الأمريكي مع تركيا، لإقناعها بالقيام بدور في المشروع، ومحاولة لإظهار نوع من التسامح مع الإسلام ممثلاً في الحجاب بينما تتربص به أوروبا"(6).
ويقول مراسل (إسلام أون لاين. نت): إن المؤرخ اليهودي البريطاني الأصل برنارد لويس الذي يحمل الجنسية الأمريكية هو صاحب فكرة المشروع، ويهدف من خلاله إلى إذابة الهوية القومية لدى دول الشرق الأوسط، والتوحد تحت هوية الشرق الأوسط الكبير. والمعروف عن لويس أنه منحاز في آرائه وتحليلاته ضد العديد من وجهات النظر الإسلامية والعربية، إلا أن اختصاصه الأساسي وشغفه الرئيس هو تركيا، ويعدها الأنموذج لبلدان الشرق الأوسط، والمرشحة الأقوى لتؤدي الدور الأول مع (إسرائيل) في الشرق الأوسط في العقود الخمسة المقبلة. وهنا نشطت تركيا في تقديم مشروعاتها ذات الطابع الاقتصادي، في حين حملت (إسرائيل) لواء الدعوة إلى مشروع النظام الجديد، وأخذت أدبياتها تشير إلى أهمية تبني دول المنطقة سياسة مشتركة، تقوم على الازدهار الزراعي، وتوزيع الثروات على نحو أفضل، وإدخال الإلكترونيات والتقنيات الحديثة في مجالات الصناعة والخدمات، وتكوين أجهزة، لتنسيق التعاون العربي- الإسرائيلي في مختلف المجالات، وتأسيس صندوق مالي لتطوير المنطقة، وحاسب تعليمي لبرامجها التعليمية، وركزت تلك الأدبيات على أغراض ثلاثة(7):
أ . ترسيخ كيان (إسرائيل) دولةً أصيلة في منطقة الشرق الأوسط، ولها مركزها وامتداداتها الإقليمية، ومندمجة في جميع خطط التعاون والتنمية الخاصة بالمنطقة على الصعيدين الإقليمي والدولي، إضافة إلى علاقاتها الثنائية .
ب . تهيئة عوامل السلم والأمن في الشرق الأوسط كمنطقة ذات ترتيبات أمنية خاصة بها، وذات امتدادات أمنية إلى ما جاورها من مناطق، وتعزيز دور (إسرائيل) في أي ترتيبات أمنية، بحيث تكون دولة رائدة فيها.
ج . تعزيز دور إسرائيل في السيطرة على منطقة الشرق الأوسط من خلال الدعم الغربي لها في مشروعاتها لتفتيت المجتمعات العربية والإسلامية، وإثارة نزعات التطرف، والاضطرابات بمختلف أشكالها، وإبقائها في حال ضعف وتفكك، ومناهضة أي مشروع تكتلي أو وحدوي.
والموقع الجغرافي لتركيا له بصماته على السياسة الخارجية التركية في المجالين الإقليمي والدولي، ودورها في المشروع الشرق الأوسطي وكيفية تحقيق مصالحها القومية، التي تتلخص بالعلاقة مع الشرق الأوسط وطموحات النفوذ ولعب دور إقليمي مؤثر فيه - إن لم يكن التوسع الإقليمي في بعض أجزائه - والعلاقة مع الغرب لحماية أمنها وللرغبة في الاندماج فيه(8).
تعد تركيا بمثابة قاعدة لوجستية متقدمة ذات موقع استراتيجي هام وقريب من مسرح العمليات في الشرق الأوسط، وأنها فعلاً قادرة على أداء دور إقليمي(9).
وهذا الموقع الجغرافي يتمتع بأهمية استراتيجية من الناحيتين السياسية والعسكرية لأوروبا وللولايات المتحدة الأمريكية معاً، إذ أدت نهاية الحرب الباردة إلى إزالة التمييز الاستراتيجي المتمثل بين محيط أوروبا ومركزها، رد الصراع على امتداد الخط الحدودي الداخلي، الذي فصل بين الألمان، لتقوم التحديات الجديدة على امتداد (قوسي الأزمات) والمتمثلة بالقوس الشرقي، ورد منطقة عدم الاستقرار الدائرة بين تركيا والقفقاس من آسيا الصغرى، التي خلق تفكك الاتحاد السوفيتي فيها قوات وقدرات عسكرية تقليدية، ونووية مهمة، وغير متوازنة في دول لم تستقر أوضاعها السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية بعد، والقوس الجنوبي، الممتد عبر شمال أفريقيا وحوض البحر المتوسط إلى الشرق الأوسط، وجنوب غرب آسيا، حيث عدم الاستقرار أيضاً، وفي كلا القوسين تظهر الحاجة إلى الموقع التركي المتوسط لمناطق تعد الولايات المتحدة الأمريكية بقاء الوضع الذي يخدم مصالحها فيها، مهماً وضرورياً، وهو ما يجعل من تركيا دولة مهمة، ويجعلها تحتفظ بوضعها حليفاً مهماً للولايات المتحدة الأمريكية، سواء على صعيد العلاقات الثنائية أو في إطار حلف شمال الأطلسي(10).
هيأت حرب الخليج الثانية عام ١٩٩١ الفرصة لتركيا لكي تثبت نفسها، كون وجودها استراتيجي ومهم في الدفاع عن مصالح الغرب في الشرق الأوسط. والواقع إن تركيا كانت قد هيأت نفسها للقيام بدور فاعل في أية ترتيبات لبنى سياسية - أمنية للمنطقة بالتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية، من خلال أطروحة (النظام الشرق أوسطي) على نحو يضمن لتركيا دوراً إقليمياً بارزاً ومؤثراً في المنطقة بما يخدم مصالحها، وأهدافها إقليميا ودولياً(11)، ومشروع نظام(12)، الشرق أوسطي ليس إلا نظاماً تسعى الولايات المتحدة الأمريكية إلى تطبيقه بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وذلك في نطاق توجهها لإقامة (النظام العالمي الجديد) بإعادة تشكيله والهيمنة على ثروة العالم العربي النفطية، باعتبارها عنصراً مهماً وأساسياً في التأثير في القوى الأخرى المنافسة لها في ذلك النظام، ولا سيما (وأن منطقة الشرق الأوسط تحتوي على أكثر من ٧٠ % من نفط العالم)(13).
ومن ذلك المنطلق سعت إدارة بوش (الأب) السابقة، وتبعتها في ذلك إدارة الرئيس كلينتون لبناء أنظمة إقليمية فرعية اقتصادية وسياسية وأمنية، تشكل ما يشبه الأبنية الداخلية للنظام العالمي، تتولى نيابة عن الولايات المتحدة، وتحت إشرافها، ترسيخ النظام العالمي وإحكام قبضة الولايات المتحدة على الأقاليم الحيوية في العالم، إذ في ذلك النظام سوف تحل الأنظمة الأمنية الإقليمية، محل الوجود العسكري المباشر للولايات المتحدة في الأقاليم المعنية، وتتحمل الدول المشاركة في النظام الإقليمي، التكاليف المالية(14)، ولا توضع الولايات المتحدة في موقع يستفز مشاعر الشعوب، والقوى المناهضة للهيمنة الأجنبية(15)، وبذلك فإن الترتيبات الإقليمية الأمنية في هذه الحالة ستكون (أكثر قبولاً من التواجد الأجنبي المباشر، وإنها ستبدو انعكاساً مشروعاً للسياسات المحلية للأطراف والمنتمية للإقليم المعني)(16).
ومن نظرة سريعة إلى هذا النظام، سنجد أنه يهدف بالدرجة الأساس إلى وضع ترتيبات مستقرة، يعتمد عليها في المحافظة على استقرار المنطقة، وعلى مصالح الولايات المتحدة، وضمان أمن إسرائيل، ومن هنا، فإن جوهر النظام الأمني الأمريكي الإسرائيلي لمنطقة (الشرق الأوسط) هو السيطرة على الأسلحة، ومنع امتلاك أي دولة عربية أو إسلامية، أسلحة استراتيجية، وتدمير الموجود منها، وبذلك النظام فقط، سوف تمتلك (إسرائيل) عمقاً استراتيجياً، فيما ستحافظ على تفوقها على العرب والمسلمين لاحتفاظها ومدها بأسلحة التدمير الشامل(17).
2. القدرة التأثيرية لتركيا في العلاقات الإقليمية والدولية
ترتبط تركيا وإسرائيل - حسب ما ذكرنا - بعلاقات ومنافع متبادلة وتعاون استراتيجي، في حين توشحت علاقاتها مع العرب بطبائع متغايرة، إذ إن العلاقة العربية الإسرائيلية اتسمت بطابع المواجهة والعداء، في حين تتسم العلاقة التركية العربية بطابع الحذر نتيجة للعلاقة التركية الإسرائيلية، والتي توجت بتوقيع اتفاق تحالف استراتيجي عام 1996، ولانطلاق حرب الخليج عام 1991، في كثير من عملياتها من تركيا وأقطار عربية عديدة كان لها دور في تحطيم القدرات العراقية، وتدمير بنيته التحتية، وتوفير متغيرات لتعطيل النظام الإقليمي العربي ومؤسساته النظامية الحامية للأمن القومي، وكان ذلك سبباً في زرع الوهن في النظام، كما ساعدت الولايات المتحدة على إنجاح عملية تطبيع العلاقات الإسرائيلية مع العرب، والتي بدأ مشوارها مع رحلة الرئيس المصري أنور السادات إلى إسرائيل عام 1977، وتوقيع اتفاقات كامب ديفيد، ومؤتمر مدريد 1993، واتفاق الأردن عام 1994، وإجراء اتصالات سرية مع العديد من الأقطار العربية لأجل تفتيت المقاطعة العربية لإسرائيل، أو جر الأطراف العربية مثل (مصر والأردن) إلى التحالف التركي الإسرائيلي من ناحية أخرى، وأخيراً محاولة اختراق البيئة الداخلية الاجتماعية العربية كدعم الأقليات العرقية، أو الطوائف الدينية؛ لتمزيق الوحدة والأمن الوطني لعدد من الدول العربية(18).
وبرؤية تحليلية للتصور الأمريكي إلى التحالف التركي الإسرائيلي، والأدوار، التي يمكن أن يؤديها، ترى أن الاعتبارات الأمريكية توجهت نحو تركيا؛ بوصفها طرفاً مشاركاً في لعبة ضبط حركة القوى الفاعلة في المنطقة (إيران، العراق، سوريا) من خلال تفعيل وإثارة أزمات وتوترات لخلافات سابقة كانت كامنة، احتوتها أطراف العلاقة فيما يخص القضايا المعروفة "الأقليات الحدود والمياه"، بينما تمثلت التصورات الأمريكية للدور الإسرائيلي على أهمية الاستمرار بتنفيذ استراتيجية بن غوريون، أما ما يسمى باستراتيجية الأطراف ومفادها إيجاد موطئ قدم في إيران، وتركيا، واثيوبيا، بقصد التخلص من الحصار، الذي تفرضه دول الطوق العربية في اتجاه الدائرة الخارجية(19).
وفيما يخص العلاقة التأثيرية التبادلية بين تركيا واسرائيل، نجد أن المسعى التركي جاء واضحاً في أهمية الإقرار بوجود شرعي لإسرائيل الحليف، والشريك الأمثل للولايات المتحدة، ولعل ذلك يعود لمسعى تركيا لأجل أداء دورٍ إقليمي على مستوى مؤتمري الشرق الأوسط، والدول الثماني أواسط أسيا الإسلامية، فضلاً عن كسب الدعم للانتماء إلى الاتحاد الأوروبي، وبذا ساهمت هذه الخطوات والمساعي في تعزيز المحاولات التركية الإسرائيلية في تحقيق الاندماج الإقليمي؛ لأجل الدخول إلى الأسواق العربية، وتنشيط العلاقات التجارية مع العرب، ومحاولة الاشتراك بالبيئة العربية بكل ما تعيشه وتعانيه من تفاعلات وهواجس، بشكل يحظى بقبول عربي واسع، ولا سيما أن مسميات قوية نعتت بها إسرائيل - بخاصة - ذلك النعت الواصف لإسرائيل بالنموذج الأوروبي المزروع في الوطن العربي والشرق الأوسط. إن هذه الخطوات، وهذا الاتجاه، تعزز وأخذ مجراه، عند استغلال عدم توحد المواقف العربية للعديد من الأقطار العربية، يخترق السياج الأمني العربي، مما أبرز حالة من عدم القدرة على خلق سياسات متناسقة ومحققة للحد الأدنى من المصالح القومية(20)، لا سيما وأن مشروع الشرق الأوسط بمستوياته الاقتصادية، والسياسية، وارتباطه ارتباطاً وثيقاً بنجاح عملية السلام، وهذا من شأنه خلق نتائج خطيرة على مستوى تثبيت شرعية الوجود الإسرائيلي، وشرعية القوى القائدة في المنطقة (تركيا واسرائيل) أو تأمين الأمن الإسرائيلي، وبذلك يتحقق الحلم الأمريكي في إيجاد بيئات جغرافية متناثرة بديلاً للوطن العربي.
وإذا كانت الولايات المتحدة قد قدمت دعماً لإسرائيل على مستويات عديدة، وبالذات في مفاوضاتها مع الفلسطينيين باستغلال ورقة الإرهاب، فإن تركيا قد وفرت ضغوطاً على سوريا باستثمارها ورقة المياه، لأجل تقديم تنازلات في مسار التفاوض الإسرائيلي العربي، إذ إن أي استقرار إقليمي محتمل في الشرق الأوسط وفق الإدراك الأمريكي أو التركي، ينصب على بلورة رؤية مائية مشتركة، تصب في مصلحة إسرائيل وتشكل عنصراً ضاغطاً على المواقف السورية والعراقية ما دامت عملية التسوية مبعثرة(21)، ولهذا فإن الخطوات التركية في علاقتها، وتحالفها مع إسرائيل تأخذ منحى التحول إلى قوة إقليمية مؤثرة وفق رؤى فيها احتمالات الربح أكثر من احتمالات الخسارة في ظل ظروف الهيمنة الأمريكية، والموقع الإسرائيلي في السياسة الأمريكية وتجزؤ وتردي البيئة العربية، والوجود الأمريكي في العراق، وتداعيات التسوية، التي أدت إلى أن تطبع العديد من الأقطار العربية علاقاتها مع إسرائيل، ومن ثم ترجيح الكفة الإسرائيلية في عملية التسوية. ويلاحظ أن الرؤى التركية والإسرائيلية التفت حول تحديد مسميات وأشكال الإرهاب، إذ عدتا النضال الكردي من أجل الحصول على حقوقه وحرياته وقيامه ضمن الجسد التركي، ونضال عرب فلسطين في الحصول على حقوقه بدولة، هما أعمالاً إرهابية تشكل خطراً على مصالحهما مهما كانت درجة المشروعية لتلك الأعمال(22)، وكما أن الادعاء التركي والإسرائيلي ببروز أنظمة دكتاتورية في الشرق الأوسط، وانتشار أسلحة الدمار الشامل، وانبثاق إيران دولة مصدرة للتعصب والإرهاب الإسلامي، قد ولدّ رؤى مشتركة أمريكية إسرائيلية تركية في تحديد مصادر تهديد متنوعة (قوى الإرهاب المنظمة)، سيما وأن جزءاً من متغيرات توفير الأمن الأمريكي سيتحدد بمدى نجاح استجابة الولايات المتجددة للقوى المؤثرة العاملة داخل، وما وراء حدودها؛ لتأسيس أحلاف سياسية ذات أهمية في المستقبل.
 ولعل الاتفاق السري بين تركيا واسرائيل في 3/11/1994، خير دليل على الادعاءات آنفة الذكر، إذ أكد الاتفاق على أهمية تبادل المعلومات والخبرات، واتخاذ التدابير الأمنية، وتشكيل لجان ضد أية ممارسة إرهابية(23). ولعل المتغير الذي ساعد الولايات المتحدة وإسرائيل في النجاح باستغلال مسميات الإرهاب ووقوف تركيا في القلب، نظراً لتأثرها وتأثيرها بملفات الشرق الأوسط هو عدم توحد السياسات العربية ولو عند حدود دنيا في المواقف والقضايا الدولية؛ مما ساهم في إضعاف النظام العربي الإقليمي، وتعثر عملية التسوية، وتوقف محادثات التسوية مع سوريا وجمودها نتيجة للتمسك الإسرائيلي بالسياسات التوسعية، وكان ذلك عاملاً في تفعيل العمليات العسكرية الإسرائيلية بحجة مكافحة الإرهاب العربي "مثل عمليات عناقيد الغضب" عام 1996، غيرها من عمليات التدخل في الجليل وجنين والقدس للأعوام 2002/2003، وأيضاً حرب الخليج الثالثة عام 2003، ضد العراق. وعند استقرائنا لتاريخ إسرائيل، نجد أن تكوينها وبناءها وتأسيس كيانها جاء عبر سياسيات الاحتلال والضم والشراء، وأيضاً من خلال تبني مبدأ مكيافيللي (الغاية تبرر الوسيلة)، وكان من ثمارها فرض سياسة الأمر الواقع في رسم الجسد الإسرائيلي جغرافياً في فلسطين، ولهذا، يلاحظ أن الدهاء الدبلوماسي والسياسي لأجل الاستمرار بالحياة جعل من إسرائيل تتمسك بالأرض الفلسطينية لتوفير الأمن، وتحقيق عملية التوسع بالامتداد إلى دول عربية مثل: الأردن، ولبنان، وسوريا، ولهذا صممت إسرائيل على أهمية التفوق العسكري التقني النوعي على الأطراف العربية، وتوفير نظم تسليحية دقيقة ذات تقنيات عالية، وبذلك جاءت الموازنة بين إسرائيل والدول العربية في الإنفاق العسكري بمفارقات عالية، إذ إن الموازنة الإسرائيلية عام 1997، بلغت 29 مليار دولار، خصص نصفها لشؤون الدفاع بينما، بلغت الموازنة العسكرية لدول الطوق العربي (سوريا، لبنان، الأردن، مصر) 73 مليار دولار، وقدر الإنفاق الدفاعي منها 6 مليار دولار(24).
ولأن إسرائيل عدت جميع الدول العربية جبهة واحدة عسكرياً، وأن القدرات العسكرية في منطقة الشرق الأوسط هي جزء من هذه الجبهة، فإنها اتجهت - في محاولاتها لإخلال الأمن والاستقرار السياسي في منطقة الشرق الأوسط- نحو تحقيق تعاون استخباراتي مع دول إسلامية غير عربية، وبالذات تركيا، ذاك التعاون الذي ركز على تبادل المعلومات بالاتفاق مع المخابرات الأمريكية؛ للكشف عن أية معلومات تلتقطها بشكل منفرد، أو عبر الأقمار الصناعية، وبالذات على المناطق الحدودية لتركيا (العراق وسوريا)، وبما يخص مسميات أسلحة الدمار الشامل، أو مواجهة الإرهاب باتجاه ضاغط، يهدف إلى تغيير مواقف هاتين الدولتين من قضية الصراع الصهيوني العربي، وأهمية السير في طريق المفاوضات، سواء على مستوى دول الطوق (سوريا، لبنان، الأردن)، أوعلى مستوى الدول العربية عامة(25)، ومحفز كبير لتمتين العلاقات التركية الإسرائيلية، جُعل من موضوعي الإرهاب ونزع أسلحة الدمار الشامل موضوعين فيهما الكثير من التهديد لمصالحهما. ولهذا، يلاحظ أن (شيمعون بيرس)، حذر في كتابه (الشرق الأوسط الجديد)، من تصاعد الأصولية الإسلامية بوصفها عوامل بارزة مهددة لأمن واستقرار المنطقة، وبأن الخلط بين الأصولية الدينية والصواريخ الإسلامية غير التقليدية، التي تمتلكها دول إسلامية، تشكل خطورة لا على الجيران فحسب، بل تمتد لتشمل العالم بأسره(26). ومن هنا جاءت السياسات والمبادئ الأمريكية: (الاحتواء المزدوج، ودول محور الشر)، لنزع الأسلحة الصاروخية وأسلحة الدمار الشامل الخاصة بالعراق، وأضواء الإرهاب المصدر من إيران، وأيضاً للوصول إلى صيغة للضبط الأمني، تقوم على منع أية قوة إقليمية من الوصول إلى قدرات عسكرية وتقنية تهدد إسرائيل، وتعيد ترتيب كفة التوازن العسكري، ولعل ذلك سيحول دون أخذ إسرائيل على حين غرة، مثل هجوم عربي مباغت، ويعزز نجاح خطابها الردعي، ويوفر ردعاً ذا مصداقية.
من ناحية أخرى، نجد أن التحالف التركي الإسرائيلي ولّد اختراقاً للأمن القومي العربي، عندما سمح لإسرائيل بالتواجد في المجال الجوي التركي، لإحكام القبضة على العراق وسوريا، من خلال نصب أجهزة تنصت عبر الأراضي التركية للتحري عن أي تحرك من هذين البلدين، وبذلك أتيح لإسرائيل استغلال تركيا معبراً؛ لتنفيذ عمليات استخباراتية ضدهما(27).
وفي هذا الصدد أشار باحث عربي إلى هذه المسألة بقوله: "إن إعادة إحياء الأحلاف العسكرية الإقليمية على نمط التحالف الإسرائيلي التركي الحالي المركزي يعني فرض الحصار على سوريا، والعراق، وتضييق الخناق على مصر، وإحكام السيطرة على المنطقة العربية تحت ستار السلام، وتسوياته المتسارعة، وتفريغ المنطقة من كل قوة حقيقية قائمة أو محتملة، عن طريق إلهاء البعض بإعلان التسوية السياسية، وتوريط البعض الآخر في صراعات سياسية وعسكرية، وقص أجنحة فريق ثالث بقطع خطوطه، ومنع امتداداته، وكسر تحالفاته القومية، التي كانت تشكل في الماضي ركيزة للأمن القومي العربي"(28).
وأخيراً، لابد من القول إن تغيب العراق عن الساحة العربية، وتجاهل الأقطار العربية لميثاق الجامعة العربية، في أهمية تبلور وصياغة معاهدة الدفاع المشترك، والعمل وفق الرؤيا القطرية، ولدّ تحديداً متبايناً للمخاطر، والتحديات، والتهديدات، وجعل مطلب الحفاظ على جيوش جاهزة حديثة جيدة التسلح أمراً ثقيلاً لا يمكن للقطر الواحد مهما بلغ من الغنى أن يتحمله، كل هذه المتغيرات جعلت من ميزان القوى العسكرية مائلاً لصالح إسرائيل.

3. السياسة الخارجية التركية الحديثة تجاه الشرق الأوسط
نالت منطقة الشرق الأوسط الاهتمام الكبير من لدن مخططي السياسة الخارجية التركية، خاصة تجاه التغيرات الإقليمية، التي حدثت في هذه المنطقة بالغة الحيوية في الشأن الدولي، وبرزت تلك السياسة المتبعة من قبل الحكومة التركية، التي استلمت مقاليد الحكم بعد فوز حزب العدالة والتنمية برئاسة رجب طيب أردوغان بالانتخابات البرلمانية عام (2002)، فبدأت العلاقات التركية العربية تسجل تقدماً كبيراً وغير مسبوق في شتى المجالات السياسية، الاقتصادية، والثقافية، والعسكرية.
أولاً- المجال السياسي(29):
- ازدادت الزيارات الرسمية على مستوى الرؤساء والملوك، ورؤساء الوزراء، والوزراء، والوفود وغيرها.
- أصبحت تركيا عضواً مراقباً في جامعة الدول العربية.
- انتخب لأول مرة أكاديمي تركي كأمين عام لمنظمة المؤتمر الإسلامي.
- ازدادت وتيرة الدبلوماسية المباشرة الهاتفية بين تركيا والدول العربية على مستوى الرؤساء، والملوك، ورؤساء الوزراء، والوزراء.
- تشارك تركيا في جميع الفعاليات الدولية، التي تقام على مستوى العالم سواء كانت في الدول العربية أو البلدان الأخرى، وتجري أثناء هذه الفعاليات لقاءات ثنائية عديدة بين المسؤولين الأتراك والعرب.
- أصبحت مدينة إسطنبول مركزاً للمؤتمرات الدولية، الأمر الذي أدى إلى انعقاد اجتماعات ومؤتمرات دولية عديدة فيها، وبهذه المناسبة زادت اللقاءات الثنائية بين المسؤولين الأتراك والعرب.
- بذلت تركيا جهوداً في حل الخلافات العربية في كل من لبنان، فلسطين، والعراق.
- توسطت تركيا بين سوريا وإسرائيل، وأشرفت على المفاوضات غير المباشرة لمدة ستة أشهر.
- تطورت العلاقات مع دول قادة إفريقيا، حيث أعلنت الحكومة التركية عام 2005 (عام إفريقيا)، واستضافت في عام 2008 (قمة التعاون التركي – الإفريقي) بحضور 49 دولة إفريقية بما فيها الدول العربية الواقعة فيها.
- تم التوقيع بين تركيا والبلاد العربية على العديد من الاتفاقيات والبروتوكولات ومذكرات التفاهم.
- تم تشكيل المجلس الأعلى للتعاون الاستراتيجي بين تركيا والعراق، وبين تركيا وسوريا، وألغيت التأشيرة بين تركيا وكل من العراق، وسوريا، وليبيا، والأردن، ولبنان، وأصبحت المنطقة الواقعة بين تركيا، وسوريا، والأردن، ولبنان منطقة حرة لتجول الأفراد، ونقل البضائع.
- تعلق تركيا أهمية كبيرة على تطوير علاقاتها مع دول الخليج ومع مجلس التعاون الخليجي، وتبذل قصارى جهدها في سبيل ذلك، وعليه جاءت آلية الحوار الاستراتيجي، التي تشكلت عام 2008، بين تركيا ودول الخليج تتويجاً لتلك الجهود المباركة، وتهدف هذه الآلية لتطوير العلاقات على أساس مؤسسي، ولا شك أن هذه الآلية أول علاقة مؤسسية أسسها مجلس التعاون الخليجي مع دولة أخرى كآلية دورية ومنتظمة(30).      
ثانياً- المجال الاقتصادي:
- تم التوقيع على اتفاقية التجارة الحرة بين تركيا وكل من: مصر، والأردن، والمغرب، وفلسطين، وسوريا، وتونس.
- تم التوقيع على اتفاقية منع الازدواج الضريبي بين تركيا وكل من: الأردن، والسعودية، وتونس، والإمارات العربية المتحدة، والجزائر، والكويت، والسودان، وسوريا، والمغرب، ولبنان، والبحرين، وقطر.
- تم التوقيع على اتفاقية تشجيع الاستثمارات المتبادلة بين كل من: تركيا، ومصر، والأردن، والكويت، ولبنان، والمغرب، وقطر، وسوريا، وتونس، والجزائر، والبحرين، وعمان، والسعودية، والسودان، واليمن، والإمارات العربية المتحدة.
- ازداد حجم التبادل التجاري بين تركيا وبين البلاد العربية بشكل كبير، فمن أصل أكثر من 300 مليار دولار حجم التجارة الخارجية عام 2008م، فإن حصة الوطن العربي تقارب 17 مليار دولار، وقد نمت الصادرات التركية إلى البلدان العربية في الفترة ما بين 2000م-2007م، بمتوسط معدل سنوي مقداره 29.01%، ومنه أصبحت الصادرات التركية إلى الدول العربية تتركز بنسبة 70%، في خمس دول عربية أساسية وهي: الإمارات العربية المتحدة، والسعودية، ومصر، والجزائر، والعراق(31)، وتشير بعض التقارير إلى أن حصة التجارة الخارجية بين تركيا ودول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا قاربت 623.6 مليار دولار عام 2010.
- كما شهدت العلاقات الاقتصادية التركية - العربية، قفزة نوعية منذ انعقاد المؤتمر الأول عام 2005، حيث ظهرت استثمارات عربية جديدة في تركيا قاربت 20 مليار دولار، مع نمو كبير في حركة التبادل التجاري، وتعاظم دور شركات المقاولات التركية في تنفيذ مشاريع مختلفة في بعض الدول العربية، وتأمل تركيا في جذب استثمارات عربية أخرى في السنوات القادمة تقارب 53 مليار دولار(32).
- نجح حزب العدالة والتنمية في جذب الودائع العربية والإسلامية خاصة التي خرجت من بنوك الولايات المتحدة الأمريكية بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، لتحقيق التوازن بينها وبين الأموال الغربية، واليهودية في تركيا، وقد بلغت الأموال العربية عام 2006، ما يقارب من 20 مليار دولار من أصل 50 مليار دولار، هي قيمة الودائع في البنوك التركية(33).   
ثالثاً- المجال الثقافي:
ينتمي العرب والأتراك إلى بنية ثقافية شبه واحدة، تستمد عناصرها من الدين المشترك والتاريخ الواحد والمصير الواحد، وقد ازدادت في السنوات الأخيرة العلاقات الثقافية بشكل كبير بين تركيا والبلاد العربية، وذلك بتنظيم اجتماعات وعروض فنية، وإقامة المعارض الفنية وغيرها، كما انطلقت مؤخراً قناة تركية تبث برامجها باللغة العربية، إضافة إلى توافد عدد كبير من السائحين العرب إلى تركيا بسبب عرض المسلسلات التركية وغيرها، ويمثل العرب ثاني أهم مورد سياحي لتركيا بعد السياحة الأوروبية(34).   
وترى بعض الدراسات، أن سبب اندفاع تركيا نحو دول الشرق الأوسط هو إرساء قواعد نظام إقليمي في الشرق الأوسط تحت زعامتها وقيادتها، بحكم خبرتها، وتجاربها الطويلة، ونفوذها السياسي، وموقعها الجغرافي، وثقلها الدولي، باعتبار أنها عضو في حلف الأطلسي(35).
وقد اتبعت تركيا استراتيجية عملية للتحرك نحو دول الشرق الأوسط؛ لتمتين العلاقات معها، وتتمثل في (36):
-تقديم تركيا المساعدات الاقتصادية المحدودة.
-زيادة حجم الاستثمار المالي التركي في دول الشرق الأوسط.
-إرسال آلاف الخبراء والفنيين للعمل في شتى حقول النشاطات الاقتصادية، والفنية، والبضائع، ومحطات الطاقة والإدارة.
-عقد اتفاقات عديدة مع دول الشرق الأوسط لتنفيذ مشاريع تنموية من قبل الشركات التركية، وهي تهدف إلى تشغيل آلاف الأيدي العاملة، وتقليل نسبة البطالة المتفشية فيها. 
الخاتمة:
شهدت منطقة الشرق الأوسط في السنوات العشرة الأخيرة، مجموعة من التغييرات والتحولات المتتالية سواء على الصعيد السياسي، أو الاجتماعي، أو الاقتصادي، وأدركت تركيا حينها أن قيمتها ومكانتها الإقليمية والدولية، لن تأتي إلا من خلال بناء تحالفات متعددة في السياق الإقليمي والدولي، وإن بدت هذه التحالفات متناقضة ومتعارضة في رؤية البعض، أو لا يمكن الجمع بينها، خصوصاً في منطقة وعرة سياسياً كمنطقة الشرق الأوسط.
فانضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، وتحالفها مع أمريكا، لن يؤثر برأيها على دورها في الشرق الأوسط، وعلاقتها مع العرب، فأنقرة؛ كما وصفها مهندس السياسة الخارجية التركي أحمد داود أوغلو يجب أن تُعرف في المرحلة الجديدة على أنها بلد مركز، وتكون بذلك مساهمة، لا عبئاً، في التفاعل الدولي.
وقد أسفرت الأزمات المتعاقبة والأحداث التي تفجرت في المنطقة، إلى ضعف الدور المحلي وتصعيد الدور الإقليمي، وحالة عدم الاستقرار، وقد أدت حدة الانقسامات العربية، وظهور الفراغ السياسي في المنطقة، خاصة بعد الاحتلال الأمريكي للعراق إلى التحرك السياسي التركي للعب دور الوسيط، أو ما اصطلح عليه الطرف الثالث، فالتفتت في العالم العربي أدى إلى إضعاف قدرة الدول العربية على معالجة مشاكل المنطقة، مثل القضية الفلسطينية ومسألة العراق، بل سمح لقوى أخرى بالتدخل سعياً لخدمة مصالحها الذاتية.
ومن سمات السياسة الخارجية التركية المميزة، قدرتها على الاقتراب من جميع القضايا العربية والإسلامية، واحتضانها للقضية الفلسطينية، والتفاعل معها إيجابياً، والدفاع عنها في المحافل الدولية، وهذا يمثل أحد محاور الاهتمام التركي بإقامة تحالفات مع الدول العربية، فقد قطعت تركيا مع سوريا شوطاً طويلاً لنقلها بالعلاقات الثنائية إلى مرحلة استراتيجية متقدمة.
 أخيراً؛ نستطيع القول: إن تركيا بأسلوبها الجديد المتميز تغيرت في طريقتها ونهجها، لتصبح القوة الإقليمية القادرة على لعب أدوار ذات أهمية عظيمة في منطقة الشرق الأوسط، وعليه فمن مصلحة العرب جميعهم إقامة علاقات وتحالفات مع هذه القوة الجديدة الصاعدة.
-----------
 الهوامش:
1. نبيل شبيب، مركز الشرق الأوسط للدراسات الحضارية والاستراتيجية، لندن، أيار 2010، ص43.
2. تقرير حول استراتيجية الولايات المتحدة الأمنية في الشرق الأوسط، إعداد مكتب شؤون الأمن القومي في وزارة الدفاع الأمريكية، أيار/مايو-1995، في توجهات أمريكية تجاه الشرق الأوسط، إعداد جواد الحمد، مركز دراسات الشرق الأوسط، سلسلة تقارير رقم (15)، عمان، الأردن، 1995م، ص31.
3. لقمان عمر النعيمي، تركيا والاتحاد الأوروبي، دراسات استراتيجية، أبوظبي، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2007، ص8.
4. ثامر كامل محمد ونبيل محمد سليم، العلاقات التركية - الأمريكية والشرق الأوسط في العالم ما بعد الحرب الباردة، دراسات استراتيجية (95)، أبوظبي، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2004م، ص38-39.
5. مصطفي عبدالحميد ثابت، العلاقات العربية التركية بعد حرب الخليج الطموحات الإقليمية والخيار الاستراتيجي الأطلسي، مجلة الفكر السياسي العربي، بيروت، معهد الإنماء العربي، عدد (41)، تموز 1992م، ص107.
6. ثامر كامل محمد ونبيل محمد سليم، المصدر السابق، ص43.
7. محمد نور الدين، تركيا في زمن المتحول قلق الهوية وصراع الخيارات، لندن، رياض الريس للكتب والنشر، 1997م، ص31.
8. Mario's. Evriviades (( Turkeys Role in the United States Strategy During and After the Cold War )) Mediterranean Quarterly, (1998) p.45.
9. عبدالقادر رزيق المخادمي، مشروع الشرق الأوسط الكبير الحقائق والأهداف والتداعيات، بيروت، دار الزهراء، 2005، ص47.
10. من الجدير بالذكر، إن الولايات المتحدة ليس لها معاهد دفاع رسمية سواء ثنائية أو متعددة مع أي بلد في الشرق الأوسط، باستثناء علاقاتها العسكرية الأمنية مع إسرائيل وتركيا، ينظر: تقرير حول استراتيجية الولايات المتحدة..، ص68.
11. د. قيس محمد نوري، المشروع الأمني الأمريكي - الصهيوني للمشرق العربي، سلسلة المائدة الحرة رقم (41)، بيت الحكمة، بغداد، حزيران 1999م، ص10-12.
12. من المعلوم إن كلمة (النظام) اصطلاح جديد يستخدم في أكثر من علم، وهو يعني مجموعة من القواعد والاتجاهات العامة التي يشترك في إتباعها أفراد أو دول، ويتخذونها أساسياً لتنظيم حياتهم الجماعية وتنسيق العلاقات التي تربط بعضهم ببعض وتربطهم بغيرهم وكذلك ما يجري بينهم من تفاعلات، وما يحكم عملهم المشترك من آلية، وإطلاق مصطلح النظام (الشرق أوسطي) للدلالة على المشروع كله بجوانبه جميعها، وتستخدم مصطلح السوق للدلالة على الجانب الاقتصادي من المشروع. ينظر، اْحمد صدقي الدجاني، الجذور التاريخية للشرق الأوسط في كتاب الشرق أوسطية مخطط أمريكي صهيوني، لمجموعة باحثين، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1998، ص26.
13. أحمد صدقي الدجاني، ندوة التحديات الشرق أوسطية الجديدة والوطن العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1994م، ص65.
14. د. قيس محمد نوري، المصدر السابق، ص20.
15. عماد جاد، أزمة الخليج، دول الجوار الجغرافي، حسابات الكسب والخسارة، مجلة السياسية الاستراتيجية، القاهرة، كانون الثاني 1991م، ص77.
16. Turkish Daily News, (July 25/1991); P.3.
17. ثامر كامل محمد ونبيل محمد سليم، المصدر السابق، ص54.
18. هيثم الكيلاني، الأمن القومي العربي، مجلس التعاون العربي وعملية السلام في الشرق الأوسط، مجلة السياسة الدولية عدد 22، ت1، 1995م، ص163-167.
19. د. وصال العزاوي، تطورات التحالف التركي إسرائيل والأمن القومي، مجلة دراسات شرق أوسطية، عدد 12، 2000، ص34-36.
20. جميل هلال، استراتيجية إسرائيل الاقتصادية للشرق الأوسط، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 1995، ص45.
21. محمد داود، اتفاق الخليل انجاز أمريكي آخر – الأمن الصهيوني هو الأساس، مجلة قضايا دولية، باكستان، عدد 369، 1997م، ص12-13.
22. بنيامين نتنياهو، مكان تحت الشمس، ترجمة عودة الدويري، مراجعة كلثوم السعدي، سلسلة شخصيات صهيونية (4)، ط3، دار الجبل للنشر والدراسات والأبحاث الفلسطينية، عمان، 1997م، ص330-333.
23. محمد نور الدين، تركيا في الزمن المتحول، قلق الهوية وصراع الخيارات، ط1، دار الرياض، بيروت، 1997، ص250.
24. هدى شاكر معروف، الأمن الإسرائيلي في التسعينات، ثوابت ومستجدات، مجلة دراسات سياسية، بيت الحكمة، بغداد، عدد 4، 2000، ص15.
25. د. وصال العزاوي، أبعاد التعاون العسكري التركي الإسرائيلي، دراسة في الواقع والأهداف، بغداد، عدد 5، 1998م، ص362-367.
26. شيمعون بيريز، الشرق الأوسط الجديد، ترجمة محمد معلمي عبد الحافظ، مركز الأبحاث، عمان، 1994م، ص91.
27. طلعت مسلم، الأمن القومي العربي – والأبعاد العسكرية، المؤتمر القومي العربي مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1997، ص249-250.
28. جلال عبدالله معوض، صناعة القرار في تركيا والعلاقات العربية التركية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1998م، ص241.
29. أمر الله ايشلر، مغزى التحولات في تركيا ومستقبل العلاقات التركية العربية، مركز دراسات الشرق الأوسط، متوفر على الرابط:
www.mesc.com.jo/newarchive2011.html.consulte 12/12/2012
30. محمد نور الدين، (2007)، تركيا والعالم العربي علاقات محسوبة، مجلة السياسة الدولية، العدد 169، القاهرة.
31. منير الحمش، (2010)، وجهة نظر عربية في واقع وآفاق العلاقات الاقتصادية العربية التركية، مجلة المستقبل العربي، عدد 382.
32.                                  www.aljazeera.net, Consulté le 20/11/2013  
33. رنا عبدالعزيز خماش، (2010)، العلاقات التركية - الإسرائيلية وتأثيرها على المنطقة العربية، مركز دراسات الشرق الأوسط، عمان، الأردن.
34. محمد نور الدين، (2010)، وجهة نظر عربية في التعاون والتنسيق العربي التركي، مجلة المستقبل العربي، عدد 382.
35. عبد الرزاق، جعفر، (1993)، الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى والاستقطاب الدولي، الفكر الجديد.

36. عبدالرزاق، جعفر، المصدر نفسه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق