01‏/05‏/2015

جمهورية العنف والرعب الشامل!!

زيرفان البرواري
إن تاريخ بلاد الرافدين عبارة عن صفحات من الدم، أبدع الحكام والأباطرة في تزيينها بالجماجم البشرية على مر العصور، ففي فترة الإمبراطوريات الكبيرة كان التوسع والقتل السبل الرئيسة، إن لم تكن الوحيدة، للوصول إلى القوة والنفوذ، ويمكن الاستدلال بمسلسل العنف من خلال دراسة حالة القوى التي حكمت بلاد الرافدين. ففي عواصم الأكديين والسومريين والآشوريين، كان الملك أو الزعيم يُعبد، وعلى دربه يسيل الدم، ولإرضائهم تحتل أراض، وتباد شعوب. والغريب أن التطور البشري والعمراني لم يؤثر على أولويات الدم في موطن العنف هذا، بل ارتبط التطور بالتقدم في الأساليب الوحشية للقضاء على الاختلاف والتنوع، اللذين اتصفت بهما أرض الرافدين. حتى في ظل الحضارة الإسلامية، لم يلتزم بعض الخلفاء والأمراء بما دعا إليه الإسلام، بما يتعلق بحفظ الدم والمقاصد الشرعية التي تصون كرامة
الإنسان. واستمر العنف في التاريخ الحديث، بعد تشكيل الدولة القومية في العالم العربي، سواء في فترة المماليك، أو الثورة، التي قلبت الموازين، وكرست أيدولوجية الرفض والقتل والتنكيل. ففي فترة الجمهوريات المتتالية، تم إبادة الاختلاف والتنوع، باستخدام التنكولوجيا المتطورة، مثلما حدث في (حلبجة)، باستخدام السلاح الكيماوي، لكي يعبر الطاغية عن منطق القوة الذي وصل إليه، بمباركة العالم المدني والديمقراطي.
 لست بصدد السرد التاريخي لما حدث ويحدث في العراق، وإنما أريد أن أربط بين المتغيرات التي تغذي العنف في الوقت الراهن، والهدف من جديد ليس الوصف، بل تحليل حالة التأزم الفكري والسياسي التي تعيشها النخبة قبل العامة. ففي العراق تتم شرعنة القتل بأقلام المثقفين، ومباركة المتدينيين، وفتاوى المراهقين. فالبعض بدأ يتحكم بمنطق ممثل الإله على الأرض، والبعض يحاول جاهدا لظهور المهدي المنتظر، وآخرون ما زالوا يحلمون بأمجاد طاغية العراق، ومحور المقاومة، التي لم تجن سوى الذل. ولكن الأغلبية لا تعي ما يحدث الآن في الشرق الأوسط، فالمدنيون العزل تحولوا إلى وقود الحرب الساخنة، وصراع توازن القوة في الشرق الأوسط. فالربيع العربي قد رفع الغطاء عن الحرب الباردة بين الدول الإقليمية، التي تحاول صناعة التأثير لنفسها، بعد انهيار الثنائية القطبية. ولكن النقطة المشتركة بين الحرب الساخنة، في وقتنا الحاضر، والحرب الباردة: أن الحربان تداران عن طريق وكلاء، وأطراف ثالثة، تستخدم من قبل الدول المعنية، للوصول إلى أهدافهم بأقل الخسائر المتوقعة. ففي التسابق باتجاه ضمان الموقع الإقليمي، يستخدم (المذهب) من قبل إيران، وغيرها من الدول، كون الحساسية المذهبية تعد الورقة الرابحة في الصراع الآني: ففي (اليمن) لا تحتاج (إيران) إلى الاصطدام مع (السعودية)، ولا (السعودية) مع (إيران)، فهناك من يقوم بذلك الدور بدلا عنهم. وفي (العراق)، تحولت الحكومة بمؤسساتها العسكرية إلى جناح عسكري آخر لنفوذ (إيران)، بعد فشل النخبة العراقية في عملية بناء الدولة في عراق ما بعد صدام، والنتيجة ظهور (داعش)، وشرعنة دخول (إيران) في إدارة ما عجزت عنه النخبة الفاسدة. ولكن طبعا إدارة العمليات العسكرية والسياسية في العراق، من قبل (طهران)، لن يكون من أجل تحقيق المصالح الشعبية في العراق، حتى المذهب الشيعي يعد المتضرر إذا ما درسنا المعادلة العراقية بصورة موضوعية وبعيدة المدى.
السؤال الذي يطرح نفسه: هل المقاومة الشعبية في العراق ضد خطر الفكر الداعشي، مقاومة صحية وعملية ؟ أم أن الانتهاكات ضد الإنسانية كفيلة بتغذية العنف المذهبـي في مرحلة ما بعد (داعش)؟
إن مقاومة (داعش)، والفكر الإرهابي، ضرورة ليست عراقية فحسب، وإنما هي ضرورة إنسانية بحتة، من مختلف الزوايا: فالأمن والسلم الاجتماعي، بوجود (داعش)، يكون ضمن التهديد المستمر. وخطر الأجندة الدولية، هو الآخر، كفيل بانهيار اقتصادات الشعوب، ضمن مشاريع محاربة الاٍرهاب، باستخدام القدرات الاقتصادية للدول التي تعاني من ضعف مؤسساتها الأمنية والخدمية. إضافة إلى شرعنة الفساد، وإساءة استخدام القوة والأموال، في هذه المناطق، بحجة خطر الاٍرهاب. وعندها يكون خطر (داعش) مزدوجا، من حيث تهديد الأمن، وترسخ الحكم غير الصالح. إلا أن محاربة (داعش) في (العراق) قضية معقدة، وتتطلب خططا استراتيجية، لحفظ المصلحة العامة، وذلك بسبب التغير النظمي في المعادلة الإقليمية، وتقسيم الأطراف العراقية على جبهات وأجندة غير وطنية. وكذلك، فإن التنوع الإثني والعرقي في (العراق)، هو الآخر، عامل تهديد، للفترة التي تلي انتهاء (داعش) في العراق. ومن أجل ضمان الاستقرار، في مرحلة ما بعد (داعش)، لا بد من أخذ النقاط التالية في الاعتبار، في مسألة محاربة (داعش):
أولا: إن (داعش) لا تعبر عن أي مكون عراقي، وإن أي ربط بين الفكر الإرهابي الداعشي، والأطياف العراقية، سوف يولد المناخ الملائم لاستمرار عقلية داعش في العراق. ويجب أن لا تنسى الأطراف العراقية، أن أخطاء، ومذهبية حكومة (المالكي)، هي التي أفرزت المناخ الملائم لـ(داعش)، حيث وفرت خيارين، أحلاهما مر، للسنّة في العراق: إما داعش، أو مالكش.
ثانيا: إن العنف لا يعالج بالعنف، فالانتهاكات التي حدثت في المناطق السنية، وثّقتها الأمم المتحدة، ومراكز البحث في العالم الغربي، من خلال شهود عيان على الأرض، تتهم (الحشد الشعبـي)، والميليشيات الإيرانية، بالقيام بجرائم ضد الإنسانية، فهذه الانتهاكات سوف تغذي روح الانتقام، وتوفر الأرضيّة الملائمة للحرب الأهلية في البلاد.
ثالثا: إن إدارة العملية السياسية في العراق يجب أن تتغير، أي أن لا تكون إحدى المكونات هي الحكَمُ والحاكم، والبقية مهمشين، ومحرومين من أبسط الحقوق. فالتفرد السلطوي لا ينتج إلا الاٍرهاب. فالممارسات السابقة ضد الكورد والسنة لن يتسامح معها في المرحلة القادمة، في ظل التهديد الإرهابي من قبل (داعش): فإما أن تكون البلاد للجميع، وإما أن يحق للمكونات الاستقلال، وحماية مصالحها، وفق المشاريع الجديدة في الشرق الأوسط، وهذه المشاريع لا تخدم الأقليات في المرحلة الراهنة، لكون المنطقة تعيش حالة الصراع على توازن القوى.
 رابعا: قامت (داعش) بانتهاكات وجرائم استهدفت الحضارة والإنسان في العراق، فإذا استمرت تلك الانتهاكات، من قبل مجموعات أخرى، يكون السؤال حول أوجه الاختلاف بين (داعش) وغيرها، ممن يحملون العنف والقتل شعارا لهم!..

إن جمهورية العنف سوف تظل على طبيعتها إذا ما استمر عطش الدم بين أفرادها، وهذا هو الواقع المر، بعيدا عن الشعارات والوطنية الزائفة. إن جمهورية العنف مهددة بالتحول إلى جمهورية الرعب الشامل، حيث لا يكون هناك مجال غير فوهة البندقية للتعبير عن الاختلاف. والحل يكمن في تحكيم العقل من قبل جميع الأطراف، والتحرر من التاريخ، لكي يتمكنوا من بناء الحاضر والمستقبل. إن الإنسان أكرم من المذاهب والآيديولوجيات، وإن كانت تلك المذاهب لا تحمي وتحترم كرامة ذلك الإنسان، فلا يحتاج الأمر إلى التعمق للحكم على عدم ملائمة تلك الأُطر في إدارة المجتمعات البشرية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق