01‏/05‏/2015

المقصد الشرعي للولاية

د. أياد كامل الزيباري
الفرع الأول: معنى الولاية
1- الولاية في اللغة: قال (ابن فارس): "الواو واللام والياء،أصل صحيح يدل على قرب"(1)، وقيل: ولي الشيء، وولي عليه وَلاية ووِلاية بالكسر والفتح.. مثل الأمارة والنقابة، لأنه اسم لما توليته وقمْت به(2)، والولاية في اللغة هي تولي الشيء والقيام عليه(3).
2- الولاية في الاصطلاح: تنفيذ القول على الغير شاء الغير أو أبى(4). وهذا تعريف الولاية بمعناها العام.
وهناك تعريفات أخرى للولاية التي يراد تحقيق مقصدها، مثل الخلافة والإمامة والملك والسلطان.
قال (الماوردي) في الخلافة: "خلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا"(5).
وقال ابن خلدون: "الخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية
الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى عدَّها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة– أي تعريف الخلافة- خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به"(6).
والإمامة بمعنى الخلافة، فهي كما يقول (الجرجاني) عند بيانه منصب الإمامة: "هو الذي له الرياسة العامة في الدين والدنيا جميعاً"(7)،ويفسر هذا الشيخ (محمد أبو زهرة)، فيقول: "وسمّيت خلافة، لأنه من يتولاها، ويكون الحاكم الأعظم للمسلمين، يخلف النبـي (صلى الله عليه وسلم)، في إدارة شؤون المسلمين. وتسمى إمامة، لأن الخليفة كان يسمى إماماً، ولأن طاعته واجبة، ولأن الناس يسيرون وراءه، كما يصلون وراء من يؤمهم للصلاة"(8).
وقيل إن الإمامة : "رياسة تامة، وزعامة عامة، تتعلق بالخاصة والعامة، في مهمات الدين والدنيا"(9).
وقيل الإمامة: "رياسة عامة في أمور الدين والدنيا بشخص من الأشخاص"(10).
وأما مفهوم الملك: فهو الاستيلاء والقدرة على التصرّف على وفق الإرادة، فيقال ملك الناس ملكاً، أي كان له التصرف فيهم بالأمر والنهي والسيادة عليهم(11).
والفرق بين نظام الخلافة والنظام الملكي، هو أن نظام الخلافة يعتمد على الشورى، ويستند إلى الدين، والنظام الملكي يقوم على أساس التوريث، ويستند إلى السياسة أولاً، وإلى الدين ثانياً(12).
فالنظام الملكي وسيلة إلى السلطة، وأساس الوصول إلى السلطة فيه هو القهر والغلبة، أو ولاية العهد والوراثة، وفي ظلّ هذا النظام قد يدعي الحاكم الوكالة عن الله، أي الحكم باسم الحق الإلهي، وليس للأمة أثر في عملية انتقال السلطة والرقابة عليها سوى أثر ظاهري وصوري(13)، وهذا مخالف للشرع القاضي بالشورى والتعاون.
وأما السلطان أو السلطة: فهي القدرة على الالتزام بما أصدر من أوامر ونواهٍ، وتتميّز بأنها قوة متفوقة في العمل والأمر والقسر، وأنها مستقلة في مجالها، بحيث لا توجد سلطة تدانيها في مجالها، وأنها واحدة لا تتجزّأ مهما تعددت الهيئات الحاكمة في الدولة، فالهيئات تتقاسم الاختصاصات، ولا تتقاسم السلطة(14).
وقد تحوّل هذا اللفظ إلى مصطلح سياسي باعتباره صورة من صور أنظمة الحكم في الدولة الإسلامية، وقد جاء لفظ (السلطان) في السنة النبوية، ما يثبت حقيقة قيام سلطان سياسي، قال (صلى الله عليه وسلم): "السلطان ظل الله في الأرض، يأوي إليه كل مظلوم من عباده، فإن عدل كان له الأجر، وكان- يعني على الرعية الشكر- وإن جار أو حاف أو ظلم كان عليه الوزر، وعلى الرعية الصبر..)(15)، وجاء على لسان عثمان بن عفان (رضي الله عنه): "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"(16).
الفرع الثاني: مقاصد الولاية
 مما لاشك فيه أن الناس محتاجون إلى من يتولّى أمورهم، ويسعى في تحقيق مصالحهم، وإقامة أحكام الشرع الإسلامي، وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم أجمع،لأن الإسلام رسالةعالمية، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}(17)،والخلافة أو الولاية ليست مجرّد حكم إسلامي في إقليم، ولكنه حكم الأمة بالإسلام، فهي تقوم على مبادئ ثلاثة:
الأول: وحدة دار الإسلام، فمهما تعددت أوطانها وأقاليمها فهي دار واحدة لأمة واحدة.
الثاني: وحدة المرجعية التشريعية العليا، المتمثلة في القرآن والسنة.
الثالث: وحدة القيادة المركزية، المتمثلة في الإمام الأعظم، أو الخليفة، الذي يقود دولة المسلمين بالإسلام، وليس معنى ذلك أن ترفض غير المؤمنين بعقيدتها على أرضها،كلا بل ترحّب بهم، وتقاتل دونهم، ما داموا يقبلون أحكام شريعتها المدنية عليهم، وأما ما يتعلّق بعقائدهم وعباداتهم وأحوالهم الشخصية، فهم أحرارٌ فيها، يجرونها على وفق ما يأمرهم به دينهم(18).
قال الشيخ (محمد الغزالي): "الخلافة زعامة روحية مدنية تباشر أمور الحكم، وتسأل عن تصرفاتها، وهي تغاير مغايرة تامة نظام الملك في الدساتير الحديثة"(19). والخلافة بمثابة الأركان للبناء، بل بمثابة العمود الفقري في جسم الإنسان، وبمثابة الرأس إلى الجسد(20).
إن الله تعالى أنزل كتاباً فيه أحكام واجبة التطبيق على الناس، وتطبيق هذه الأحكام يحتاج إلى قوة وسلطة تتولى ذلك، وبما أن تطبيق هذه الأحكام واجبة، وأن تطبيقها لا يتم إلا بهذه السلطة، فهي واجبة من باب (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)(21).
وعلى هذا، فإن الفقهاء من سلف الأمة وخلفها، والسواد الأعظم من المسلمين، مجمعون على وجوب نصب الخليفة(22).
قال (ابن تيمية): "يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع، لحاجة بعضهم إلى بعض. ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس"(23).
ولهذا يجب على من ولاه الله الأمر من المسلمين، أن يفقه أحكام الولاية في الإسلام ليقوم بأمر الله بين عباده الذين ولاه الله عليهم. وقد تتابع أهل العلم في التأكيد على هذا المقصد، وكان مضمون ما أكدوا عليه، أن المقصد الشرعي للولاية هو إقامة شرع الله ودينه في البلاد، وجعله حاكماً لجميع شؤون الحياة(24). وهناك نصوص كثيرة تدلّ على هذا المقصد، ومنها قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}(25)،وأنه سمي خليفة، لأنه خليفة الله في أرضه، لإقامة حدوده وتنفيذ أحكامه (26)، قال تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}(27)، وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ}(28). وقال (السعدي): "هذا من وعوده الصادقة التي شوهد تأويلها ومخبرها، فإنه وعد من قام بالإيمان والعمل الصالح من هذه الأمة، أن يستخلفهم في الأرض، يكونون هم الخلفاء فيها، المتصرفين في تدبيرها، وأن يمكّن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وهو دين الإسلام، الذي فاق الأديان كلها، ارتضاه لهذه الأمة لفضلها وشرفها ونعمته عليها، بأن يتمكنوا من إقامته وإقامة شرائعه الظاهرة والباطنة، في أنفسهم، وفي غيرهم"(29).
وقال (الجويني): "والقول المقنع في هذه القواعد، أن الأئمة المستجمعين لخصال المنصب الأعلى، ليس لهم إلا إنهاء أوامر الله، وإيصالها طوعا ًأوكرهاً إلى مقارِها"(30). وقال (ابن تيمية): "فالمقصود الواجب بالولاية إصلاح دين الخلق، الذي متى فاتهم خسروا خسراناً مبيناً، ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم"(31).وقال (ابن القيم): "وجميع الولايات الإسلامية مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"(32).
ومادام الأمر كذلك، فالولاية شرفٌ عظيم، ومنزلةٌ عظيمة، إذ بها يُدفع ضررٌ كبير، لا يندفع إلاّ بها، وكلّ ما يدفع ضرراً لا يندفع إلا به، فهو شرف عظيم، وواجب في الوقتِ نفسه، وذلك لأن تنفيذ الواجبات متوقف عليه. ومعلوم شرعاً أن ما يتوقف عليه الواجب، ولا يتم إلا به، هو فهو واجب.
ولهذا: "فالواجب اتخاذ الإمارة ديناً وقربة يتقرّب بها إلى الله، فإن التقرب إليه فيها، بطاعته وطاعة رسوله، من أفضل القربات"(33). والإمام العادل عند الله له منزلة عالية يوم القيامة، فهو أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله، كما قال (صلى الله عليه وسلم): (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: الْإِمَامُ الْعَادِلُ...)(34).
وقال (ابن القيم): "وجميع الولايات في الأصل، ولايات دينية، ومناصب شرعية، فمن عدل في ولاية من هذه الولايات، وساسها بعلم وعدل، وأطاع الله ورسوله بحسب الإمكان، فهو من الأمراء الأبرار العادلين، ومن حكم فيها بجهل وظلم، فهو من الظالمين المعتدين"(35).
وقد بيّن (النسفي)، وظيفة الإمام بقوله: "والمسلمون لا بدّ لهم من إمام يقوم بتنفيذ أحكامهم، وإقامة حدودهم، وسد ثغورهم، وتجهيز جيوشهم، وأخذ صدقاتهم، وقهر المتغلبة، والمتلصصة، وقطاع الطرق، وإقامة الجمع، والأعياد، وقطع المنازعات الواقعة بين العباد، وقبول الشهادات القائمة على الحقوق، وتزويج الصغار، والصغيرات، الذين لا أولياء لهم، وقسمة الغنائم، وغير ذلك من الأمور التي يتولاها إمام من الأمة"(36). إذاً مقصود الولاية الشرعية يقوم أساساً على تنفيذ القانون الإسلامي، وهو الغرض الأول الذي من أجله وجد الحاكم، وكان واجب الطاعة.
الفرع الثالث: الوسائل المعينة على تحقيق المقصد الشرعي للولاية
هناك بعض الأمور تعين على تحقيق مقصد الولاية، وذلك لأن منصب الولاية، أعلى منصب في النظام الإسلامي، وهو معرض لكثير من الانحرافات، مثل: فتن المال، والجاه، وغير ذلك.
وسوف نذكر بعض الوسائل التي تساعد الوالي على تحقيق هذا المقصد العظيم:
1- صلاح الوالي
وهو الأساس والدافع الذي يدفع من ولاه الله الأمر، لاستشعار المسؤولية وفقه المقصد الشرعي(37)، وفي هذا يقول (الماوردي): "وكيف يرجو من تظاهر بإهمال الدين استقامة ملك وصلاح حال، وقد صار أعوان دولته أضدادها، وسائر رعيته أعداءها، مع قبح أثره وعظم وزره"(38).
وقال بعض الحكماء: الملك خليفة الله في عباده وبلاده، ولن يستقيم أمر خلافته مع مخالفته، فالسعيد من الملوك من وقى الدين بملكه، ولم يق الملك بدينه، وأحيا السنة بعدله، ولم يمتها بجوره، وحرس الرعية بتدبيره، ولم يضعها بتدميره، ليكون لقواعد ملكه موطداً، ولأساس دولته مشيداً، ولأمر الله تعالى في عباده ممتثلاً، فلن يعجز الله استقامة الدين عن سياسة الملك وتدبير الرعايا"(39).
2- استعمال الأصلح
فكما كان صلاح الوالي في نفسه دافعاً له لتحقيق مقصد الولاية، فإن لاستعمال الأصلح من الرعية في شؤون الدولة المختلفة أثراً عظيماً في قيام الدولة على المقتضى الشرعي، وفي مخالفة هذه الطريقة في المقابل أثراً عظيماً في بُعد الدولة عن المقصد الشرعي للولاية، ودخول حظوظ الدنيا وشهواتها ومزاحمتها للقيام بمقتضى الولاية(40). قال (صلى الله عليه وسلم): (مَنْ طَلَبَ الْقَضَاءَ وَاسْتَعَانَ عَلَيْهِ وُكِلَ إِلَيْهِ، وَمَنْ لَمْ يَطْلُبْهُ وَلَمْ يَسْتَعِنْ عَلَيْهِ أَنْزَلَ اللَّهُ مَلَكًا يُسَدِّدُهُ)(41). وان هذا المنصب، أي: الولاية، أمانة عظيمة، ويجب أداؤها في موضعها. قال (صلى الله عليه وسلم) في ذلك لأبي ذر(رضي الله عنه)في الإمارة: (يَا أَبَا ذَرّ إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةٌ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلاَّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا، وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا)(42).
وقال النبـي (صلى الله عليه وسلم) في قصة الأعرابي الذي جاء يسأل عن الساعة فقال (صلى الله عليه وسلم): (إِذَا ضُيِّعَتْ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ، قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟ قَالَ: إِذَا وُسِّدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرْالسَّاعَةَ)(43)، "فإن عدل عن الأحق الأصلح إلى غيره، لأجل قرابة بينهما، أو ولاء عتاقة، أو صداقة، أو مرافقة في بلد، أو مذهب، أو طريقة، أو جنس، كالعربية والفارسية والتركية والرومية، أو لرشوة يأخذها منه من مال أو منفعة، أو غير ذلك من الأسباب، أو لضغن في قلبه على الأحق، أو عداوة بينهما، فقد خان الله ورسوله والمؤمنين"(44).
وكذلك يجب على الوالي أن يختار الصالح في نفسه، الأصلح لعمله الذي سيولى عليه، قال (صلى الله عليه وسلم): (وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ)(45)، "وينبغي أن يعرف الأصلح في كل منصب، فإن الولاية لها ركنان: القوة والأمانة.. فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها، فإذا تعين رجلان أحدهما أعظم أمانة والآخر أعظم قوة، قدم أنفعهما لتلك الولاية، وأقلهما ضرراً فيها"(46).
3- تحقيق العدل
فإن العدل أساس متين لاستقامة حال الرعية، وانتظام أمور الدولة، "لأنه يبعث على الطاعة، ويدعو إلى الألفة، وبه تصلح الأعمال، وتنمو الأموال، وتنتعش الرعية، وتكمل المزية، وقد ندب الله عز وجل الخلق إليه، وحثهم عليه"(47)،حيث قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(48).
ويقول (الماوردي): "ولو لم يتناصف أهل الفساد، لما تم لهم فعل الفساد، فكيف بملك قد استرعاه الله صلاح عباده، ووكل إليه عمارة بلاده، إذا لم يحمل على التناصف والتعاطف، ومزجت فيه الأهواء بالخرف، وتحكمت القوة في منع الحق أن لا يوفى، وفي إحداث مالا يستحق أن يستوفي، وتهارج الناس فيها بالتغالب، وتمازجوا فيها بالتطاول والتغاضب، هل يقترب بهذا الملك، وقد تعطلت هذه الأصول به صلاح، كلا، لن يكون الباطل حقاً، والفساد صلاحاً)(49).
4- القيام بواجبات الولاية الشرعية:
والمقصود به التكاليف الشرعية التي تحتاج إلى الإمام أو الوالي في تنظيمها أو إقامتها.
ولقد فصّل فقهاء السياسة الشرعية في واجبات الخليفة، والمسؤوليات التي تقع على عاتقه. وسوف نشير إلى تلك الواجبات بشكل مختصر. قال (الماوردي): والذي يلزم الإمام من العامة عشرة أشياء:
1- حفظ الدين على أصوله المستقرة، وما أجمع عليه سلف الأمة، فإن نجم مبتدع أو زائغ ذو شبهة عنه، أوضح له الحجة، وبيّن له الصواب، وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود، ليكون الدين محروساً من خلل، والأمة ممنوعة من زلل.
2- تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين، وقطع الخصام بين المتنازعين، حتى تعم النصفة، فلا يتعدّى ظالم، ولا يضعف مظلوم.
3- حماية البيضة، والذب عن الحريم، ليتصرّف الناس في المعايش، وينتشروا في الأسفار، آمنين من تغرير بنفس أو مال.
4- إقامة الحدود، لتُصان محارم الله تعالى عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك.
5- تحصين الثغور بالعدة المانعة، والقوة الدافعة، حتى لا تظفر الأعداء بغرة ينتهكون فيها محرماً، أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دماً.
6- جهاد من عاند الإسلام، بعد الدعوة، حتى يسلم، أو يدخل في الذمة، ليقام بحق الله تعالى في إظهار على الدين كله.
7- جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه نصاً واجتهاداً، من غير خوف، ولا عسف.
8- تقدير العطايا، وما يستحق في بيت المال، من غير سرف ولا تقتير، ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير.
9- استكفاء الأمناء، وتقليد النصحاء، فيما يفوّض إليهم من الأعمال، ويكله إليهم من الأموال، لتكون الأعمال بالكفاءة مضبوطة، والأموال بالأمناء محفوظة.
10-أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور، وتصفح الأحوال، لينهض بسياسة الأمة، وحراسةالملة، ولا يعول على التفويض تشاغلاً بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين، ويغش الناصح(50). وزاد بعض الفقهاء على ما تقدّم واجبات أخرى، كالإمام الباقلاني(51)، وابن تيمية(52)، وإمام الحرمين الجويني، مثل: منع دعاء الجاحدين والكافرين، وتوسيع مكان الجمع، والأعياد، ومجاميع الحجيج، وتسهيلها، ونفض بلاد الإسلام عن أهل العرامة، والمتلصصين، والمترصدين للرفاق- أي نشر الأمن والأمان في جميع البلاد-والولاية على من لا ولي له من الأطفال والمجانين، وسدّ حاجات المحاويج، أي المحتاجين(53).
وهذه الواجبات ليست حصرية ولكنها الغالبة، فقد تستجد أمور، وتتغيّر أحوال، تحتاج إلى قرار حازم وحاسم، لا يمكن إلا لولي الأمر أن يجعل منه واجباً. وهذه السلطات خاصة بالفكر السياسي الإسلامي، فقد تختلف صلاحياته في النظم الأخرى، على الرغم من أنه يستطيع أن يثبت غيره فيها من الوزراء والولاة والقادة، إلا أن النظام السياسي الإسلامي يتجه إلى النظام الرئاسي، كما هو معروف.
الفرع الرابع: علاقة قاعدة تحقيق مقصد الولاية بالتدرج في تطبيق الشريعة
إن التدرّج في تطبيق الأحكام الشرعية وسيلة من وسائل السياسة الشرعية، للقيام بواجب تطبيق الشريعة، وليس غاية في حد ذاته، ولابدّ للقائم بعملية التدرّج من الولاة والحكام، من دافع يدفعه للتمسك بهذه الغاية الجليلة، ويحثه على المُضي فيها، والصبر على الأذى في طريقها،ومدافعة الصعوبات التي قد تواجهه في تطبيق الشريعة الإسلامية.
وليس هناك من أمر يعين على ذلك مثل وعي الحاكم بمقصد العمل الذي هو فيه، وهدف الولاية التي ولاه الله إياها، وأنه لا تبرأ ذمته، ولا يستحق منصبه، ما لم يكن همّه وعمله السعي الحثيث لإقامة شرع الله ودينه في البلاد، وجعله حاكماً لجميع شؤون الحياة. فهذا الاعتقاد هو الذي يحث الحاكم على الإسراع - قدر المستطاع- في تطبيق أحكام الله على رعيته، وهو الذي يجعله عند العجز عن التطبيق الكامل في وقت واحد، يبحث عن السبل الموصلة لتحقيق ما عجز عنه، وسيجد أن من أبرزها التدرّج في تطبيق الشريعة، فيمضي في طريق التدرّج بجدية وبصيرة، جاعلاً نصب عينيه الوصول إلى الهدف المنشود، باستيعاب ووعي للمقصد الذي شُرع من أجله هذا المنصب(54).
----------
الهوامش
(1) ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، ج 6 ، ص 141.
(2) الزبيدي، تاج العروس، ج40،  ص 242 .
(3) ابن فارس،معجم مقاييس اللغة، ج 6 ، ص 141.
(4) الجرجاني، التعريفات،  ص 177 .
(5) الماوردي، الأحكام السلطانية، ص 4 .
(6) ابن خلدون، المقدمة ،ص 211 .
(7) الجرجاني، التعريفات، ص 28 .
(8) محمد أبو زهرة، تاريخ المذاهب الإسلامية، دار الفكر العربي، القاهرة، (د.ط) ،1429هـ- 2008م، ص 20.
(9) الجويني، غياث الأمم في التياث الظلم، ص 15.
(10)القاضي عضد الدين عبد الرحمن الأيجي ( ت 756هـ)، شرح المواقف، ومعه حاشيتا السيالكوتي الجلبي على شرح المواقف، تحقيق: محمود عمر الدمياطي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1419هـ- 1998م، ج8، ص376.
(11) الحسين بن محمد بن المفضل المعروف بالراغب الأصفهاني أبو القاسم (ت 425هـ)، مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق :صفوان عدنان داوودي، دار القلم، دمشق، ط5، 1433هـ- 2011م، ص 774.
(12) د. حسن إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام، دار الجيل، بيروت، ط15، 1422هـ-2001م، ج1، ص337.
(13) د.نيفين عبد الخالق، المعارضة في الفكر السياسي الإسلامي، مكتبة مللك فيصل الإسلامية، ط1، 1405هـ-1985م، ص 221-222.
(14) عبد الله إبراهيم زيد الكيلاني، القيود الواردة على سلطة الدولة في الإسلام وضماناتها، مؤسسة الرسالة ودار البشير والأمراء، ط1، 1417هـ- 1997م، ص 47 .
(15) البيهقي، شعب الإيمان، رقم الحديث 7369. وضعفه الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء، ج4، ص 36. والهيثمي، مجمع الزوائد ومنبع الفوائد، رقم الحديث 8998.
(16) محمد بن يزيد المبرد، أبوالعباس (ت 285هـ)، الكامل في اللغة والأدب، دار الفكر العربي، القاهرة، ط3، 1417هـ- 1997م، ج1، ص214. ود. علي محمد الصلابي، سيرة عثمان بن عفان، دار المعرفة، بيروت، ط6، 1429هـ- 2008م، ص 92.
(17) سورة الأنبياء : الآية (107) .
(18) د. يوسف القرضاوي، من فقه الدولة في الإسلام، ص 32 .
(19) محمد الغزالي، الإسلام والاستبداد السياسي، دار الكتب الحديثة، القاهرة، ط2، 1380هـ-1961م، ص44.
(20) د. أياد كامل إبراهيم الزيباري، التداول السلمي للسلطة في نظام الحكم الإسلامي، ص 202.
(21)  السبكي، الأشباه والنظائر،ج2، ص136. والشاطبـي، الموافقات،ج1، ص230.
(22)ينظر: الرازي محمد بن عمر بن الحسين بن الحسين التميمي الفخر (ت 606هـ)، كتاب الأربعين في أصول الدين، ط1، 1353هـ- 1934م، ص 426. والبغدادي، أبي منصور عبد القاهر بن طاهر بن محمد التميمي (ت 429هـ)، أصول الدين، تحقيق: أحمد شمس
 الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1423هـ- 2002م،ص 297. وأبو يعلى الفراء محمد بن الحسين الحنبلي (ت 458هـ)، الأحكام السلطانية، تحقيق: محمد حامد الفقي، دار الكتب العلمية، بيروت، ط2، 1427هـ- 2006م، ص 19. وابن حزم، أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي الظاهري (ت456هـ)، الفصل في الملل والأهواء والنحل، تحقيق: أحمد شمس الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، ط3، 1428هـ- 2007م، ج3، ص 3.
(23) ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام الحراني ( 728هـ)، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، دار الكتب العلمية، بيروت، ط4، 1426هـ- 2005م، ص 137.
(24) زياد بن عبد الله الفواز، التدرج في تطبيق الشريعة وعلاقته بالسياسة الشرعية، ص 72.
(25) سورة البقرة : الآية (30).
(26) صديق حسن خان القنوجي، إكليل الكرامة في تبيان مقاصد الإمامة، تحقيق: مجموعة من العلماء، ط1، 1411هـ-1991م ، ص71. 
(27) سورة ص : الآية (26) .
(28) سورة النور : الآية (55) .
(29) السعدي، عبد الرحمن بن ناصر، تيسير الكريم الرحمن، ص 544.
(30) الجويني، غياث الأمم في التياث الظلم،  ص 175.
(31) ابن تيمية، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، ص 29.
(32) ابن القيم، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، ص 198.
(33) ابن تيمية، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، ص 139 .
(34) البخاري، الجامع المسند الصحيح، ك الآذان، ب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة، رقم الحديث 660. ومسلم، الجامع الصحيح، ك الزكاة، ب فضل إخفاء الصدقة، رقم الحديث 2427.
(35) ابن القيم، الطرق الحكمية في السياسة الشرعية، ص 199.
(36) التفتازاني، سعد الدين (ت791هـ)، العقائد النسفية بشرح التفتازاني، دار أحياء الكتب العربية، القاهرة، ص478.
(37) زياد عبد الله الفواز، التدرج في تطبيق الشريعة، ص 75 .
(38) الماوردي، أبو الحسن علي بن حبيب (ت 450هـ)، درر السلوك في سياسة الملوك، تحقيق: د. فواد عبد المنعم أحمد، دار الوطن، الرياض، ط1، 1417هـ- 1997م، ص 90.
(39)الماوردي، أبي الحسن علي بن حبيب (ت 450هـ)، تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك، تحقيق: محي هلال السرحان وحسن الساعاتي، دار النهضة، بيروت، 1401هـ-1981م،ص47 .
(40) زياد عبد الله الفواز، التدرج في تطبيق الشريعة، ص 75 .
(41) أبو داود، السنن، ك الأقضية، ب في طلب القضاء والتسرع إليه، رقم الحديث 3580. وأحمد بن حنبل، المسند، رقم الحديث 13326. والبيهقي، السنن الكبرى، ك أدب القضاء، ب طلب كراهية الإمارة  والقضاء، رقم الحديث 20036. الحاكم، المستدرك، رقم الحديث 7021، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ووافقه الذهبـي في التلخيص.
(42) مسلم، الجامع الصحيح، ك الإمارة، ب كراهية الإمارة بغير ضرورة، رقم الحديث  4823.
(43) البخاري، الجامع المسند الصحيح، ك العلم، ب من سئل علماً وهو مشتغل في حديثه فأتم الحديث ثم أجاب السائل، رقم الحديث 59.    
(44) ابن تيمية، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، ص 16 .
(45) البخاري، الجامع المسند الصحيح، ك الاعتصام بالكتاب والسنة، ب الاقتداء بسنن النبـي، رقم الحديث (7288) .
(46) ابن تيمية، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، ص 20-22.
(47) عبد الرحمن بن عبد الله الشيزري (ت 589هـ)، المنهج المسلوك في سياسة الملوك، تحقيق: علي عبد الله الموس، مكتبة المنار بالزرقاء، الأردن، ط1، 1407هـ- 1987م ، ص 242-243 .
(48) سورة النحل: الآية (90) .
(49) الماوردي، أبو الحسن علي بن محمد، تسهيل النظر وتعجيل الظفر في أخلاق الملك وسياسة الملك، تحقيق: محيي هلال السرحان، دار النهضة العربية، بيروت، (د.ط)، 1401هـ-1981م، ص183.
(50) الماوردي، الأحكام السلطانية، ص 38، 39 .
(51) الباقلاني، أبو بكر محمد بن الطيب (ت403هـ)، التمهيد في الرد على الملحدة المعطلة والرافضة والخوارج والمعتزلة، تحقيق: محمود محمد الخيري ومحمد عبد الهادي، دار الفكر العربي، القاهرة، 1366هـ -1947م، ص185، 186.
(52) ابن تيمية، مجموعة الفتاوى، ج 35، ص25.
(53) ينظر الجويني، الغياثي، ص 86- 106.

(54) زياد عبد الله الفواز، التدرج في تطبيق الشريعة، ص 79.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق