01‏/05‏/2015

موقف المؤرخين السريان من تحرير بيت المقدس

د. فرست مرعي
مقدمة
لقد ظهرت دراسات وبحوث عديدة حول بيان موقف المؤرخين المسلمين من الغزو الصليبـي لديار المسلمين في المشرق الإسلامي، ومن موقف المؤرخين الصليبيين من عملية استرداد الأماكن المقدسة المسيحية من أيدي المسلمين.
ولكن قلما تطرقت دراسة إلى استجلاء موقف المؤرخين النصارى الشرقيين، أو بالأحرى موقف المؤرخين السريان، من مجريات الصراع الذي جري بين المسلمين والصليبيين في المشرق الإسلامي لمدة تقارب القرنين.
لذا، فهذا البحث سيتطرق إلى بيان موقف المؤرخين السريان الغربيين، الذين ينتمون جميعا إلى الكنيسة
السريانية (اليعقوبية – المنوفستية) من عملية تحرير أو استرداد بيت المقدس (القدس) على يد (صلاح الدين الأيوبي)، حيث سبقتها بقليل معركة حطين عام 583هـ/ 1187م التي كانت قاصمة لظهر الصليبيين، وعلى إثرها تمكن (صلاح الدين) من استرداد الكثير من المدن والبلدات الواقعة في بلاد الشام، وعلى طول ساحلها، بما فيها (بيت المقدس).
ولذلك لابد من التطرق إلى بيان موقف نصارى المشرق، وموقفهم من الغزو الصليبـي لديار المسلمين، وما ترتب على هذا الموقف من نتائج.
المبحث الأول
المؤرخين الســريان
لكي يتبين موقف المؤرخين السريان من الغزو الصليبـي للمشرق الإسلامي عامة، ومن تحرير بيت المقدس على يد (صلاح الدين الأيوبي)، لا بد من معرفة نبذة يسيرة من سيرة هؤلاء المؤرخين، ومؤلفاتهم، ومواردهم (مصادرهم)، التي اعتمدوا عليها في كتابة تواريخهم، فضلا عن المناهج التي اتبعوها بهذا الخصوص.
وتجدر الإشارة إلى أن ثلاثة فقط من المؤرخين السريان الغربيين (اليعاقبة)، هم الذين أرخوا لبيان وقائع الغزو الصليبـي لديار المسلمين. اثنان منهم، وهم: كل من ميخائيل السرياني الكبير، المتوفى سنة 1199م/ 596هـ، والرهاوي المجهول، المتوفى سنة 1324م/ 725هـ. لذا فإن كتاباتهم على جانب كبير من الأهمية، أما الثالث فهو: (ابن العبري)، المتوفى سنة 1286م/ 685هـ، فقد في اعتمد في كتاباته على المؤرخين السابقين، كما اعتمد على غيرهم، في سرد وقائع الغزو الصليبـي، فضلا عن تحرير بيت المقدس. وهؤلاء المؤرخين السريان، هم - حسب التسلسل التاريخي:
أولا: ميخائيل السرياني الكبير
ولد (ميخائيل)، الذي عرف باسم: (السرياني)، أو (الكبير)، في مدينة (ملطية)(1) سنة 1126م/ 520هـ، من عائلة يسميها ابن العبري (آل قنداسي). وكان أبوه كاهنا يدعى (إيليا). وقد دخل (ميخائيل) منذ صباه (دير برصوم) الشهير، الواقع جوار (ملطية)(2). وأخذ يرتشف من العلوم اللاهوتية واللغوية والتاريخية، حتى نال منها القسط الوافر. ورُسم كاهناً، ثم أقام رئيساً لديره، وانتخب فيما بعد بطريركاً، فرسم في 18تشرين الأول سنة 1166م/ 562هـ بعد ممانعة(3)، ولكنه دبر الكرسي ثلاثة وثلاثين سنة، حتى وفاته في 7 تشرين الثاني سنة 1199م/ 596هـ(4). أما لقب (الكبير)، فقد جاء على لسان (ابن العبري)، لتمييزه عن (ايشوع سفثانا)، وهو ابن اخ ميخائيل الذي اتخذ لنفسه ايضا اسم ميخائيل(5). وكان (ميخائيل) قد عاصر الكثير من الأحداث المهمة في المنطقة، فقد تمكن (صلاح الدين الأيوبي)، قائد معركة حطين، من استرداد بيت المقدس عام 583هـ/ 1187م(6)، وكان من نتائجها قيام الحملة الصليبية الثالثة، ومحاولتها من جديد استرداد الأماكن المقدسة النصرانية. ويبدو أن المؤرخ (ميخائيل) كان على علاقة ودية مع مملكة بيت المقدس الصليبية اللاتينية، ولكنه بخلاف موقف الأرمن والموارنة، رفض الخضوع لسلطات كنيسة روما والبابوية، وظل متمسكا بمذهبه اليعقوبي. كما أنه لم يحبذ الاتحاد مع الكنيسة البيزنطية، وذلك لأسباب سياسية أكثر منها عقائدية لاهوتية. (7) 
كما أنه قام بعدة زيارات إلى إمارة انطاكية ومملكة بيت المقدس (أورشليم) الصليبية في سنة 1168م، وما بين سنتي 1177 و 1179م (8)، وهنالك تلقى دعوة للانضمام إلى بطريرك انطاكية اللاتيني، والحضور معه في المجمع اللاتيراني الثالث، الذي عقده البابا الأسكندر الثالث ضد الألبيجيين. (9)
وأشهر أعماله: حوليته التاريخية، التي تتناول الأحداث المدنية والكنسية منذ الخليقة وحتى سنة (1194- 1195م/ 591- 595هـ). وقد اطلع عليها العالم الأوروبي بواسطة ترجمة أرمنية، نشرت أجزاء منها في المجلة الأسيوية، التي كانت تصدر في باريس، ثم نشر التاريخ كاملا في مدينة البندقية بإيطاليا. أما النص السرياني، فقد عثر عليه البطريرك (أفرام رحماني) (1849-1929) في كنيسة السريان اليعاقبة في أورفه (الرها) سنة 1887م، في مخطوطة تعود إلى سنة 1598(10). وفي سنة 1894 قررت الجمعية الأسيوية في باريس أن تساعد في نشر هذا الأثر الهام، وقام المستشرق الفرنسي (جان باتيست شابو) بهذا العمل، ونشر هذا النص في سنة 1899، فجاء النص في 777 صفحة من القطع الكبير في مجلد واحد. أما الترجمة الفرنسية، فجاءت بثلاثة مجلدات كبيرة، نشرت في باريس، وقام بها شابو أيضا (11). وقد أعيد طبعها في أربعة مجلدات عام 1963، وكان مطران دمشق (يوحنا شقير الصددي) قد نقل تاريخ ميخائيل إلى العربية الملحونة عام 1759(12).
وقد اتبع (ميخائيل) منهج يوسيبيوس القيصري(13)، وذلك بتقسيم مادته إلى ثلاثة حقول: الحقل الأول من اليمين لتسلسل الكهنوت (الجزء الكنسي)، والحقل الأوسط لتعاقب الحكومات والممالك (الجزء العلماني)، أما الحقل الأخير، فيخصصه للأحداث المختلفة (المتفرقات). (14)   
كما أن (ميخائيل) نقل أحداث عصر الامبراطور البيزنطي جستين الثاني (565-578م) حتى الامبراطور موريقيوس (582-602م) من كتاب تاريخ الكنيسة، ذكر ذلك في تاريخه. (15)
ثانيا: الرهاوي المجهول
مؤرخ سرياني مجهول، تضاربت الآراء حول أصله وهويته. قال البطريرك رحماني أن المؤلف من مدينة الرها(16)، وتبنى هذا الرأي البطريرك أفرام الأول برصوم، فتارة يسميه بـ (أكليريكي رهاوي)(17) وأخرى يقول: "إنه كان راهبا في دير مار برصوم، ولد في الرها حوالي سنة 1160(للميلاد)، وتوفي بعيد سنة 1234 (للميلاد)..."(18). بينما يصر المستشرق الفرنسي شابو على أن المؤلف ينقل الأحداث الخاصة بمدينة الرها من (باسيليوس الرهاوي)، وأنه بالأحرى راهب من دير مار برصوم  الكبير، وقد استفاد من الوثائق المحفوظة في هذا الدير لتدوين تاريخه(19). وقد
عاد (جان فييه) فأكد الأصل الرهاوي لابن العبري(20). ويحاول (ألبير أبونا) أن يوفق بين هذه المعلومات المفيدة بقوله: "فقد يكون مؤرخنا من الرها أصلا، ثم أنهى حياته راهبا في دير مار برصوم، لأن باسيليوس الرهاوي (مطران الرها) توفي سنة 1169م. أما الأحداث الخاصة بـ(الرها)، فتتواصل بصورة مفصلة ودقيقة لدى المؤلف، مما يشير إلى كونه شاهد عيان يروي ما رآه في هذه الفترة العصيبة من تاريخ مدينة الرها"(21).
لقد عثر البطريرك رحماني على النص السرياني لهذا التاريخ في اسطنبول سنة 1899م  في مخطوطة وحيدة، ترقى إلى بداية القرن الرابع عشر الميلادي، كانت بحوزة الأسقف بولس الرهاوي، وقد زال منها اسم المؤلف، لكون المخطوطة مخرومة. وهذا التاريخ يقسم إلى قسمين: في الأول يتحدث عن التاريخ المدني، منذ بدء الخليقة إلى سنة 1234م/ 632هـ، وفي الثاني يتكلم عن التاريخ الكنسي في عهد الأمبراطور قسطنطين الكبير، المتوفى سنة 337م حتى سنة 1207م/604هـ. وهذا القسم الثاني، رغم كونه مخروما، فإنه يضفي معلومات قيمة على تاريخ ميخائيل السرياني، حيث فصل في أخبار الصليبيين، وأخبار وطنه الرها، تفصيلا لم يرد عند غيره من المؤرخين. ويظهر من هذا التاريخ، أن مؤلفه شهد استيلاء (صلاح الدين) على بيت المقدس سنة 1187م، ورافق (غريغوريوس يعقوب) (مفريان الشرق) إلى تكريت وسنجار، وإلى المناطق الشرقية من الكنيسة السريانية الغربية (المنوفستية) (22). وقد نشر البطريرك رحماني الجزء الأول من هذا التاريخ منذ سنة 1900م، وظهر القسم الأول منه في دير الشرفة في لبنان سنة 1904م (23)، ونقل المستشرق الفرنسي (فرنسيس نو) فقرات منه إلى الفرنسية في مجلة (الشرق المسيحي) سنة 1907-1908. ثم نشر رحماني القسم الثاني سنة 1911، وبلغ إلى العدد 525 من التاريخ المدني، ولم يتسن له نشر ما تبقى من هذا التاريخ (24).
أما المستشرق الفرنسي الآخر (شابو)، فقد أخذ على عاتقه نشر هذا النص التاريخي كاملا في جزئين، بالتعاون مع الراهب أفرام برصوم،  البطريرك أفرام الأول برصوم (1878-1957م) سنة 1916 – 1920في بلجيكا (مجموعة الكتبة المسيحيين الشرقيين) (25)، وتمكن (شابو) من نشر الترجمة اللاتينية للجزء الاول سنة 1937 في لوفان – بلجيكا. ولكن المنية عاجلته قبل أن يتوصل إلى نشر الجزء الثاني، فتم تكليف الكاهن العراقي (ألبير أبونا) بترجمة الجزء الثاني إلى الفرنسية(26)، وضع لها مقدمة وهوامش الدومنيكي الفرنسي (جان موريس فييه)، ظهرت سنة 1974 في لوفان-بلجيكا(27). ثم قام (أبونا) بترجمة الجزء الثاني إلى العربية، ظهرت سنة 1986 في بغداد(28). ويبدو أن لـ(الرهاوي المجهول) تواريخ أخرى، مصرحا بذلك في آخر خبر عن ترجمة اثناسيوس دنحا مطران الرها المتوفي سنة 1191م. "وقد دونا ما أصابه من المحن، والذين أثاروها أحيانا، وصاروا علة للفتن، في كتب أخرى، بوجه التفصيل" (29).
أما بخصوص المصادر التي اعتمد عليها الرهاوي المجهول في تاريخه، فلا شك أن (التاريخ الكبير) لميخائيل السرياني، في مقدمتها، وهو ما دعا المستشرق البريطاني المختص بالسريانيات (سباستيان بروك) إلى القول: "وهو مستقل عن تاريخ ميخائيل في الكثير الغالب"(30). كما أن تاريخ ديونيسيوس التلمحري، المفقود، هو أحد المصادر الأساسية لهذه الحقبة الزمنية(31)، كما لا يمكن بهذا الصدد إغفال تاريخ الرها لـ(باسيل بن شومنة الرهاوي)، المتوفى سنة 1169م(32). وقد تكون هناك أيضا مصادر عربية إسلامية استعان بها المؤرخ، إذ يكتفي أحيانا بذكر السنين الهجرية. ولكننا عاجزون عن تشخيص هذه المصادر، إذ إن المؤرخ لا ينوه بها أي تنويه(33).
ثالثا- ابن العبري
هو غريغوريوس ابا الفرج بن هارون بن توما الملطي، المعروف بابن العبري. ولد في ملطية (المصيصة) سنة 1226م/ 62هـ، ونال في العماد اسم يوحنا (34). اما لقب (ابن العبري) فقد أتاه من أبيه الطبيب (هارون). وقد ذهب العديد من الباحثين والمستشرقين إلى أن أباه من أصل يهودي، كما يشير اسمه إلى ذلك، وأنه اعتنق النصرانية. إلا أن
البطريرك برصوم، والسريان الأرثودكس عامة، يستنكرون هذا التعليل، ويقولون بأن هذا اللقب جاء إلى العائلة لولادة أحد أبنائها، أو لولادة هارون نفسه في أثناء عبوره نهر الفرات، مستندين في ذلك إلى بيت من الشعر، جاء في ديوان المترجم نفسه، إذ يقول: "إذا كان سيدنا المسيح سمى نفسه سامريا، فلا غضاضة عليك إذا دعوك بابن العبري(35)، لأن مصدر هذه التسمية نهر الفرات، لا دينا معيبا، ولا لغة عبرية". بينما حاول باحث آخر الدفاع عن نظرية ابن العبري بقوله: "ولقد كان هذا اللقب باعثا للغموض، بعد أن ترجمه الأوربيون بـ BarHebraeuse)). وكان البعض اعتقد يوم كان ابن العبري على قيد الحياة، أن المترجم له ينتسب إلى عائلة عبرانية اعتنقت الدين المسيحي"(36)، ويضيف قائلا، بعد أن يورد بيت الشعر المذكور أعلاه، نقلاً عن برصوم: "أما ما يخص برصوم، أخا ابن العبري، ومكمل عمله الأدبي، فمن الصعب أن نعطي تبريرا لآرائه العنيفة المعادية لليهود، لو كان أباه يهوديا"(37).
وكان ابن العبري منذ نعومة اظفاره قد درس الطب، على يد أبيه، وتعلم منه شيئا كثيرا (38)، وحينما هجم المغول في صيف1233م/631هـ على ملطية، واستولوا عليها، هاجر معظم سكانها إلى سوريا، غير أن والد ابن العبري حضر عند القائد المغولي، إذ عالجه من مرض ألم به فبرأه، فسمح له القائد بالذهاب مع أسرته إلى (أنطاكية)، التي كانت تحت قبضة الفرنجة الصليبيين. وفي (أنطاكية) انخرط (ابن العبري) في سلك الرهبانية، ثم توجه إلى (طرابلس)، ودرس الطب والفلسفة على يد يعقوب النسطوري(39). وهذا ما دعا المستشرق البولندي (بيترس)(40) إلى القول: إن (ابن العبري) كان نسطورياً ثم انقلب يعقوبيا منوفيستياً.
وفي سنة 1236م/ 644هـ رسم البطريرك (أغناطيوس الثاني) ابن العبري أسقفا على بلدة (جوباس)، القريبة من (ملطية)، وكان عمره عشرين عاما فقط. وإذ ذاك سمي (غريغوريوس)(41)، ثم نقل العام التالي إلى أبرشية لاقبين. بعدها دخل ابن العبري طرفاً في شقاق وقع داخل الكنيسة اليعقوبية(42)، فالذي حدث أن أغناطيوس داود الثاني توفي سنة 1252م/650هـ، وتنافس لشغل كرسي البطريركية شخصان متخاصمان: هما هارون عنجور(43)، ويوحنا ابن المعدني(44). وقد وقف ابن العبري في صف المرشح الأول، فنقله البطريرك ديونيسيوس إلى أبرشية حلب، غير أن هذه المدينة كانت موالية لابن المعدني، لذا قاموا بطرد ابن العبري من حلب، وعندها قرر ابن العبري الاعتزال في دير صوم، قرب حليفه عنجور(45).
وبعد فترة عاد ابن العبري إلى حلب سنة 1258م/656هـ، وبقي فيها حتى عصر البطريرك أغناطيوس الثالث، الذي عينه (مفريانا) لكافة الكنائس اليعقوبية في المشرق، التي كانت آنذاك تحت السيطرة المغولية. وظل ابن العبري في منصبه حتى وفاته سنة 1286م/685هـ في مدينة (مراغة) عاصمة المغول الإيلخانيين. أما أخوه، الذي خلفه في منصبه، فقد نقل رفاته إلى دير مار متى(46)، الواقع شرق الموصل، ويشاهد ضريحه هناك إلى الآن، وهو موضع إكرام النصارى(47).
أما عن إنتاج (العبري)، فيقول (السمعاني): "إن ابن العبري منذ العشرين من عمره، وحتى نهاية حياته، لم يكفّ عن القراءة والكتابة(48)، وقد وضع 36 كتاباً في شتى صنوف المعرفة(49)، وكتاباته شاهد على علمه الشامل، الذي تطرق إلى كل فروع المعارف البشرية، من: اللاهوت، والفلسفة، والنحو، والفلك، والطب، والتاريخ"(50).
وتتمثل الإضافة الكبرى لابن العبري في مؤلفاته في التاريخ، موضوع بحثنا، فقد وضع تاريخاً عالميا في حوليات ثلاث: التاريخ السرياني، وتاريخ الكنيسة باللغة السريانية، ثم التاريخ المختصر، الذي وضعه قرب نهاية حياته، بلغة عربية رصينة، تحت عنوان (مختصر تاريخ الدول) (51)، وإن كان المستشرق البريطاني (بروك) قال بأن العنوان الأصح لهذا الكتاب: (تاريخ مختصر الدول)(52). ولا شك في أن ابن العبري استفاد من كتابه التاريخ السرياني (تاريخ الزمان) من الوثائق العربية والسريانية والفارسية، التي وقف عليها في مكتبة (مراغة)، التي كانت مدينة كبيرة، وإحدى عواصم المغول، إلا أن المصدر الرئيسي لمعلوماته هو: (تاريخ ميخائيل السرياني)، الذي كتب قبل هذا العهد بثمانين سنة، فضلاً عن تاريخ يعقوب الرهاوي(53). وقد غطى ابن العبري تاريخ البشرية منذ بدء الخليقة، وبذلك لخص لنا تاريخ ميخائيل السرياني بصورة كاملة.
يقسم ابن العبري كتابه (تاريخ الزمان) إلى إحدى عشرة حقبة، يخصصها للآباء من(آدم إلى يشوع)، والقضاة من (يشوع إلى شاوؤل)، والملوك العبرانيين، ثم يتطرق إلى الملوك الكلدانيين (بختنصر إلى بلشاصر)، والملوك الماديين (داريوس المادي)، وملوك الفرس (كورش إلى داريوس بن أرشم)، وملوك اليونان الوثنيين (من الأسكندر إلى كليوباترة)، والأباطرة الرومان (من أنطونيوس إلى يوستينس الثاني)، والملوك البيزنطينين المسيحيين (من يوستينس الثاني إلى هرقل)، وملوك العرب، وأخيرا إلى ملوك الهونيين(54).
وقد اختصر ابن العبري كتابة (تاريخ الزمان)، ونقله إلى العربية بتصرف، قبيل وفاته، وأنجزه مدة شهر، وذلك نزولا عند رغبة بعض علماء مراغة المسلمين. وقد حافظ على تقسيم الحقب إلى إحدى عشرة، كما جاء في المصنف السرياني الأصلي (تاريخ الزمان)(55)، وقام (بوكوك) بنشر الكتاب مع ترجمته اللاتينية في (أكسفورد) سنة 1663م، ونشر (السمعاني) مقتطفات منه في المكتبة الشرقية، ونقله إلى الألمانية (لورنزبور) عام 1783. وأخيرا طبعه (أنطون صالحاني) اليسوعي في بيروت سنة 1890م، وأضاف إليها فهرسا لأسماء الأعلام، وتوفيقا بين السنوات الهجرية والميلادية(56)، وأعيد طبعه في بيروت عام 1958.
وعلى الرغم من إعجاب السريان اليعاقبة بعظمة ابن العبري(57)، فإن المستشرقين يبدون كثيرا من التحفظ تجاهه، فهذا المستشرق البريطاني (ج. ب. سيغال) يقول بهذا الصدد: "لا نستطيع الاعتماد على المؤرخين الذميين، كي ينقلوا أحداث عصورهم الرئيسية، لأنهم كانوا ينتمون إلى أقلية تعيش على انفراد، معزولين عن مجالس الملوك والأمراء، في هامشية سياسية، متفرجين لا مبالين ولا مكترثين لمجريات الأحداث، تتغلب عليهم الخيبة"(58). أما المستشرق الآخر (بيترس)، كبير جمعية البولنديين العامية، وهم اختصاصي علم سير القديسين المسيحيين، لم يتوان أن يكتب عن ابن العبري: "يضيف إلى الدونية الناتجة من تأخره زمنيا، كونه نسطوريا انتقل إلى مذهب اليعقوبية"(59).
المبحث الثاني
الطوائف النصرانية الشرقية والموقف من الفرنجة الصليبيين
في مطلع القرن السابع الميلادي، كان النصارى مختلفون فيما بينهم، ومتفرقون إلى كنائس عديدة. وكان أساس الانقسام الذي فرقهم، هو اختلافهم حول تفسير طبيعة السيد المسيح (عليه السلام): هل هو بشر مخلوق، كسائر المخلوقات؟ أم هو الله المتجسد، الذي تأنس، فظهر بصورة (عيسى)(60). وبناء على ما تقدم، يمكن إجمال المذاهب النصرانية المختلفة، المنتشرة في العالم إبان طلوع فجر الإسلام، في خمسة مذاهب رئيسية، وهي:
1- المذهب الآريوسي (الموحدين) (61).
2- المذهب النسطوري. (62)
3- المذهب اليعقوبي (المنوفيستي). (63)
4- المذهب الملكاني(الخلقيدوني-مذهب الدولة البيزنطية). (64)
5- مذهب المشيئة الواحدة (المونوتيلية). (65)
أما المذهب الآريوسي، فقد كان قد اندرس بعد تعرضه إلى ضربات عنيفة من قبل رجال الدين، من أصحاب المذاهب النصرانية الأخرى، الذين يؤلهون السيد المسيح (أي: يجعلونه إلها، أو ابن إله) بالتعاون مع بعض أباطرة الدولتين الرومانية الشرقية (البيزنطية) والرومانية الغربية، على حدٍ سواء، وهذا ما بدا جليا في مقررات المجمع المسكوني الأول، الذي عقد في مدينة (نيقية) عام 325م، ومجمع القسطنطينية الأول عام 381م. (66)
أما المنوفستيون، فقد نظموا مذهبهم في ثلاثة كنائس قومية: كنيسة الأقباط في مصر، وكنيسة السريان اليعاقبة في بلاد الشام، والكنيسة الأرمنية في أرمينيا. وكانت الدولة البيزنطية قد خافت، في عهد إمبراطورها (هرقل) (610-641)، من أن ينظم هؤلاء إلى أعدائهم الفرس الساسانيين، فقام (سرجيوس) بطريرك الأسكندرية الملكاني بطرح المونوتيلية، كحل وسط بين المنوفستية والأثنينية الخلقيدونية.
ويتلخص هذا المذهب بأن للمسيح مشيئة واحدة، أو فعالية واحدة. وقد جاءت الصيغة العقائدية على الشكل التالي: ((إننا نعترف بمشيئة واحدة في ربنا يسوع المسيح الإله الحقيقي)) (67).
ففي سنة 628م، بعد أن نجح الإمبراطور البيزنطي (هرقل) في حملته العسكرية ضد الفرس الساسانيين، قام بزيارة (دير مارون) في جبل لبنان، ليتدارس مع رهبانه في اتخاذ السبل الكفيلة بجمع شمل الكنائس النصرانية حول مذهب واحد. وقد نجح (هرقل) في استمالة هؤلاء الرهبان للمذهب، الذي بلوره مع الأسقف ماسبيدونيوس (مذهب الإرادة الواحدة)، بهدف رأب الصدع مع أتباع مذهب الطبيعة الواحدة (المنوفستيين)، ومع أتباع مجمع خلقيدونية (الملكانيين – أصحاب الطبيعتين). وهذا ما جعل جماعة من سريان لبنان (الموارنة) يتبنون هذا المذهب. (68)
ومع مرور الوقت ظهر عاملان ساعدا في تحرير الكنيسة المارونية من المؤثرات الغربية: العامل الأول تمثل في الفتح الإسلامي لبلادهم (لبنان)، الذي وضع حدا للاضطهادات التي كانت تمارسها الإمبراطورية البيزنطية ضد الكنائس الشرقية. والعامل الثاني، أنه في القرن الثامن الميلادي (الثاني الهجري)، تم إبعاد بطريرك أنطاكية الملكاني إلى القسطنطينية، وعندها قرر اللبنانيون اختيار بطريرك من بينهم، ليحمل لقب (بطريرك أنطاكية والمشرق)، وهو اللقب الذي يتحلى به حتى اليوم. (69)
ومهما يكن من أمر، فإن الإمبراطورية البيزنطية اعتمدت صيغة الإرادة الواحدة (المشيئة الواحدة للمسيح) طيلة أكثر من أربعين عاما. ثم حين جاء الإمبراطور (قسطندس الرابع) أقنع البابا (أغاثون) بعقد مجمع في القسطنطينية الثالث عام 680م: فكفر هذا المجمع أصحاب مذهب الإرادة الواحدة (المونوتيلية)، بمرسوم عقائدي، عادوا فيه من جديد إلى النص العقائدي لمجمع خلقيدونية، المنعقد عام 451م(70).
أولا: النساطرة
أما النساطرة، فبحسب قرارات مجمع أفسس، عام 431م، اعتبروا مهرطقين وخارجين عن إجماع الكنيسة النصرانية(71)، لذلك التجأوا إلى الإمبراطورية الساسانية، هربا من أساليب القمع والاضطهاد، والتي كانت الإمبراطورية البيزنطية، صاحبة المذهب الملكاني، تمارسها ضدهم. لذلك عاشوا في أمان في بلاد ما بين النهرين وإيران والمنطقة الكوردية. وعند مجيء الحملات الصليبية إلى بلاد الشام، لم تحدث أية احتكاكات بينهم وبين الصليبيين، لأسباب جغرافية وعقائدية. لذلك لا يستطيع الباحث أن يتكهن بما سيكون الموقف، لو حدث تماس بين الجانبين. وعلى أية حال هناك رسالة موجهة من بطريرك النساطرة (صبر يشوع الخامس)، إلى البابا (بندكتوس الرابع)، في سنة 1247م، توضح - إلى حد ما- حقيقة ومشاعر النساطرة تجاه إخوانهم في الدين: الفرنجة الصليبيين: "كان من الواجب على كنائس المسيح كلها، وعلى الأديرة، وكل المؤمنين في الشرق والغرب، أن يلبسوا المسوح، ويجلسوا للأحزان، ويبكوا على بيت المقدس، وعلى ما حل به في أيامنا".(72)
ثانيا: الملكانيون (الخلقيدونيون):
لما كان النصارى الملكانيين من أنصار الدولة البيزنطية، فإن غالبيتهم التحقت بالجيوش البيزنطية المنهزمة، بعد الفتح الإسلامي لبلاد الشام ومصر، وغيرها من المناطق. ولم تبق إلا جاليات صغيرة، عاشت في المدن المهمة، التي كانت مقرا للبطريركيات الملكانية، مثل: بيت المقدس والأسكندرية وأنطاكية. (73)
ومن جانب آخر، فإن الكنيسة الملكانية كانت قد انقسمت سنة 1054م/ 446 هـ، بفعل عوامل لاهوتية وطقسية وتنظيمية ولغوية وقومية، إلى كنيستين، هي: الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية الشرقية، ومقرها في القسطنطينية، والكنيسة الكاثوليكية الرومانية، برئاسة البابا، ومقرها في (روما).(74) لذلك لم يكن للملكانيين، أو بعبارة أخرى: أتباع الكنيسة الأرثوذكسية، شأن يذكر أثناء الحملات الصليبية على المشرق الإسلامي. ويذكر أحد الباحثين النصارى المعاصرين، سجلا بالانتهاكات التي قام بها الفرنجة الصليبيون ضد إخوانهم في الدين: (الأرثوذكس). ونحن إذا تصفحنا ما فعلته القيادات الصليبية، العسكرية والدينية، بالبطريركية المقدسية والأنطاكية، التابعتان للكنيسة الأرثوذكسية، أدركنا لماذا لم يلب من النصارى (الروم الأرثوذكس)، إلا قلة، التعاون مع المهاجمين(75). لذلك أبدل الصليبيون البطريركية الأرثوذكسية المقدسية (أورشليم) ببطريركية لاتينية. وبذلك زالت البطريركية الأصلية، ولو مؤقتا. وقد التجأ البطريرك الأرثوذكسي (سمعان الثاني) إلى جزيرة قبرص. وبعد وفاته انتخب بطريرك لاتيني، وكذلك بدلوا الطقوس والعوائد حتى أصبح كل شيء لاتينياً. ولكن هذه المحاولة ولدت كراهية لـ(اللاتين) في نفوس (الروم الأرثوذكس)، حيث أصبحوا ينتظرون بفارغ الصبر زوال هذا الملك المسيحي. ولما استرجع (صلاح الدين) بيت المقدس سنة 1187م/583هـ، أخذ البطريرك الأرثوذكسي يقيم في المدينة المقدسة. أما بطريرك اللاتين، فقد أقام بعدها في (عكا)، التي أصبحت عاصمة لمملكة بيت المقدس اللاتينية، وحتى سنة 1291م. (76)
ثالثا: الكنائس المنوفستية (أصحاب الطبيعة الواحدة)
لا بد من الإشارة إلى أن الكنيسة المنوفستية قد انقسمت إلى عدة كنائس قومية، وهي:
(كنيسة الأقباط في مصر والحبشة - كنيسة السريان اليعاقبة في بلاد الشام - كنيسة الأرمن في أرمينيا). (77)
1- كنيسة الأقباط:
بخصوص موقف السريان الأقباط من الغزو الصليبـي، لا توجد في المصادر روايات تفيد بحصول مجالات من التعاون والتنسيق بين الجانبين. فالصليبيون، باعتبارهم من أتباع الكنيسة الكاثوليكية، كانوا يحاولون بشتى السبل إرجاع الأقباط إلى حظيرة الكنيسة الكاثوليكية دون جدوى. (78)
ورغم سياسة الدولة الفاطمية، المتسمة بالتسامح تجاه الأقباط، إلا أن هذا لم يحل دون فرض بعض الضرائب الإضافية عليهم، لمواجهة الخطر الصليبـي في بلاد الشام. كذلك كانت لدى الفاطميين مخاوف وشكوك في موقف الأقباط تجاه الصليبيين، الذين احتلوا فلسطين، وأجزاء من الساحل الشامي، وباتوا يهددون مصر نفسها. وبطبيعة الحال لم يكن الفاطميون على دراية بالخلافات المذهبية بين الأقباط، أتباع مذهب
الطبيعة الواحدة، وبين الصليبيين، أتباع مذهب الطبيعتين. ومن ثم فقد اختلط الأمر بالأذهان، على حد تعبير أحد الباحثين المعاصرين: "على أساس أن هؤلاء وأولاء كانوا في نهاية الأمر على دين واحد، وهو المسيحية.  ومن ثم كان من الضروري مراقبة سلوك الأقباط عن كثب، من جانب السلطات الفاطمية. وظل هذا الموقف سائدا في الدوائر الرسمية، طيلة الفترة المأساوية للعدوان الصليبـي على المنطقة".(79)
ولقد توضحت عداوة الصليبيين للأقباط عندما قاموا بمنعهم من الحج إلى كنيستي المهد والقيامة. وكان الأقباط حريصين على القيام بهذه الزيارة إلى الأماكن المقدسة النصرانية في فلسطين، ولذا فإن موقف الصليبيين العدائي هذا قد أصابهم بالأسى الشديد.(80)
2- السريان اليعاقبة
كان السريان اليعاقبة يعانون من اضطهاد شديد من قبل الكنيسة الملكانية (الخلقيدونية)، التابعة للإمبراطورية البيزنطية، ولم تسنح لهم الفرصة للخلاص من العذاب والمشقة، مثلما فعل نظراؤهم النساطرة، الذين عبروا الحدود البيزنطية، قاصدين الإمبراطورية الساسانية، للاحتماء بها، وطلب الأمان. لذا، فإن السريان تعرضوا إلى مشقات كثيرة، لأن غالبية ديارهم وأديرتهم تقع ضمن النفوذ البيزنطي، لذلك صبت الكنيسة الملكانية البيزنطية جم غضبها عليهم، واعتبرتهم هراطقة، وهذا ما دعى الكنيسة البيزنطية إلى محاولة إرجاعهم إلى حضن كنيسة الأم (كنيسة القسطنطينية)، عن  طريق الترهيب والترغيب، دون جدوى. (81)
ولكن الانقسام الذي دب في الكنيسة النصرانية الأم، وشطرها إلى قسمين: الكنيسة الأرثوذكسية، والكنيسة الكاثوليكية، غير مواقف بعض الطوائف النصرانية الشرقية، وهذا ما يبدوا واضحا في كلام بطريرك السريان اليعاقبة (ميخائيل السرياني)، بقوله: "لقد تعهد الإفرنج (الصليبيون) أمام الله في حالة دخولهم القدس، بأن يعطوا الأمان لكافة الكنائس المسيحية، ويعطوا كنائس وأديرة لكل شعب مؤمن بالمسيح"(82). كذلك فإن موقف نصارى المشرق قد تغير، إثر سيطرة السلاجقة الأتراك على غالبية المدن والمناطق التي كانوا متركزين فيها(83). غير أن المؤرخ (الرهاوي المجهول) يحدد بداية الغزو الصليبـي "بالسنة الحادية والخمسون لاستيلاء الأتراك (السلاجقة) على هذه البلدان..."(84). لذا، فإذا كانت الكنيسة الملكانية الخلقيدونية قد أذاقت نصارى المشرق الويل والثبور، فإن الفرنجة الصليبيون، الذين ينتمون إلى كنيسة أخرى (الكاثوليكية)، ربما جاؤوا محررين للنصارى بكافة مذاهبهم، لا سيما وأن هدفهم كان استرداد الأماكن المقدسة النصرانية في فلسطين. ويذكر (الرهاوي) رواية بهذا المعنى: "ولما سمع الرهاويون (السريان والأرمن) أن الفرنج وصلوا وحلوا في حدود أنطاكية، اقتربوا من تاودوروس بن حاتم (هيثم) وقالوا له: نريد أن ترسل فتجلب لنا عونا من جنود الفرنج، لكي يحموا المدينة من نهب الأتراك...".(85)
3- الأرمن
تتفق كل المصادر الإسلامية، والسريانية، وغيرها، على أن حاكم مدينة الرها الأرمني (توروس بن هيتوم) قد سلم مفاتيح المدينة إلى القائد الصليبـي (بلدوين). (86)
إن المبادأة التي قام بها الرهاوين حينذاك، غير مؤكد أنها كانت بإيعاز وإلحاح من (توروس بن هيتوم). وهناك رواية - قد تكون قد اخترعت فيما بعد- تؤكد أن (توروس) كان متيقنا بأن الرهاويين سيطلبون من الصليبيين دخول المدينة، مهما كان رأيه، ولذلك تعاون معهم ضد إرادته(87). وعلى كل حال، فإن بعثة من وجهاء المدينة، برئاسة مطران طائفة الأرمن،(88) ذهبت لاستقبال (بلدوين) على (تل بشير)، الواقع غرب المدينة، ودعوه ليدخل (الرها). فقابل اقتراحهم بفرح، وشعر الصليبيون أن ذلك فأل حسن، ففرحوا، وقالوا: "مثلما آمنت الرها بالمسيح قبل القدس، هكذا فإن المسيح أعطانا إياها قبل القدس"(89).
أما بشأن مدينة سقوط أنطاكية بيد القائد الصليبـي (جود فري)، فقد أكد ميخائيل السرياني أن ذلك جرى بسبب خيانة أخَوان أرمنيان، مسؤولان عن برج الحراسة. (90)
وقد تزامن هجوم الحملات الصليبية على المشرق الإسلامي، مع قيام مملكة أرمينية الصغرى، التي كانت قد تنامت في إقليم (كليكيا)، الواقع جنوب الأناضول، على ساحل البحر الكبير (المتوسط)، واتخذت من مدينة (سيس)(91) عاصمة لها. وقد توالى على حكم هذه المملكة أسرتان أرمنيتان: الأولى من طبقة البارونات، والثانية ممن تلقبوا بالملوك، وهما أسرة (روبين)، التي حكمت ما بين أعوام (1080-1219م/ 473- 616 هـ)، ثم أسرة (هيثوم)، من (1226 – 1375م/ 624 – 777هـ). (92)
ولقد أقامت هاتان الأسرتان علاقات ودية مع الصليبيين، كما انضم الأرمن إلى الصليبيين في قتالهم ضد السلاجقة. وقد توثقت العلاقة بين الأرمن والصليبيين بالمصاهرة أيضا، فقبل أن يقيم الصليبيون مملكة بيت المقدس اللاتينية، تزوج القائد الصليبـي (بلدوين) من (مورفيا)، ابنة الأمير الأرمني (جبريل)، من الرها. (93)
رابعا: الموارنة
عندما هاجمت الحملات الصليبية على المشرق الإسلامي، بدأ اتصال الموارنة بالغزاة الصليبيين، وبالكنيسة الكاثوليكية. وكان الموارنة، مثلهم في ذلك مثل (الأرمن) قد رحبوا بقدوم الصليبيين إلى المنطقة، وتعاونوا معهم ضد المسلمين.(94)
ومنذ بداية الحروب الصليبية، بدا واضحاً أن الموارنة قد ألقوا بأنفسهم في حضن الصليبيين الغزاة. وكان الموارنة يعملون كأدلاء للصليبيين في الممرات والمسالك الجبلية والوديان، في بلاد الشام، وعلى طول الساحل، ومن ثم قدموا الكثير من العون للحملة الصليبية الأولى. بل إن هذا التورط قد زاد عندما دخلت فرقة من رماة الرماح الموارنة للخدمة في صفوف الصليبيين. ثم ما لبث الموارنة أن تصاهروا مع الصليبيين، ومن هذه الزيجات المختلفة خرج نسل مهجن، ممن عرفوا في المصادر باسم (الأفراخ - Pullani). كما أن عدداً من الموارنة قد استقروا مع الصليبيين في إمارة طرابلس، التي استولى عليها الصليبيون(95).
كما أن الكهنة الموارنة أخذوا يستخدمون الطقوس الكاثوليكية في كنائسهم، وهي طقوس غريبة على ميراث الكنائس الشرقية، من قبيل تزيين الرأس بالتاج الروماني، والتزييّ بمنطقة من الجلد حول الوسط. كما أن الكثيرين من أبناء الموارنة كانوا يترددون على الكنائس الصليبية الكاثوليكية. ويذكر المؤرخ الصليبـي (وليم الصوري) أن أربعين ألفا من الموارنة نزلوا من جبالهم، في شكل جماعي، لينفصلوا عن هرطقتهم الدينية (مذهب الإرادة الواحدة)، وليعلنوا إيمانهم بالمذهب الكاثوليكي، والخضوع للبابا الروماني، وذلك أمام بطريرك أنطاكية الصليبـي (عموري)، وهذا الرقم إنما يشير إلى الذكور فقط. مما يعني أن عدد الموارنة، بما في ذلك نساء وأطفال هذه المجموعة، كان يربو على مائة ألف في القرن الثاني عشر. ونجد المعلومات نفسها عند الرحالة الصليبـي الدومنيكاني (بيركهارد) عام 1283م/ 682هـ، إذ أنه يذكر أن الموارنة في مقدورهم تقديم أربعين ألف من المحاربين، للخدمة مع الجيوش الصليبية.(96).
---------
المصادر والمراجع والهوامش
  1. ملطية: بلدة تقع في بلاد الروم تتاخم الشام، هي من بناء الأسكندر الكبير المكدوني، وجامعها من بناء الصحابة. قال خليفة بن خياط: في سنة 140 هـ وجه الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور عبدالوهاب من إبراهيم الإمام لبناء ملطية فأقام عليها سنة حتى بناها وأسكنها الناس وغزا الصائفة. ينظر: (ياقوت الحموي: معجم البلدان، دار صادر بيروت 1986، مج 5 ص 192-193.
  2. دير برصوم: دير يقع على رأس جبل يشبه القلعة، ولذلك سماه بعضهم دير الكهف، يقع بالقرب من مدينة ملطية، ذكر في التاريخ الكنسي سنة 790م، وصار كرسيا بطريركيا للسريان اليعاقبة في القرن الحادي عشر حتى أواخر الثالث عشر، وكان ديرا عظيما دعم الكنيسة السريانية بخمسة بطاركة وأربعة وثلاثين مطرانا، وظل عامرا بأهله حتى أواسط القرن السابع عشر، ثم عصف الدهر بأهله. ينظر(أفرام الأول برصوم: اللؤلؤ المنثور في تاريخ العلوم والآداب السريانية، قدم له ونشره يوحنا إبراهيم، سلسلة التراث السرياني، حلب، الطبعة الخامسة 1987، ص509.
  3. ألبير أبونا، أدب اللغة الآرامية، دار المشرق، بيروت، الطبعة الثالثة، 1996، ص434.
  4. برصوم، اللؤلؤ المنثور، ص395. يوسف حبـي، التواريخ السريانية، مجلة المجمع العلمي العراقي- هيئة اللغة السريانية، بغداد 1981-1982م، مج 6 ص 82.
  5. ألبير أبونا، أدب اللغة الآرامية، ص435.
  6. عزيز سوريال عطية، تاريخ المسيحية الشرقية، ترجمة إسحاق عبيد، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، الطبعة الأولى، 2005، ص245.
  7. ألبير أبونا، أدب اللغة الآرامية، ص435.
  8. ألبير أبونا، المرجع السابق، ص434-435.
  9. الألبيون AlBigenses: أتباع حركة دينية منشقة في فرنسا وإيطاليا وألمانيا، مناهضة للكنيسة الكاثوليكية الرومانية، والتي كانت تعارض نمو مدن العصر الوسيط. وكان أحد مراكز الحركة يقع في بلدة (ألبـي)، في المقاطعة الفرنسية (لانجدوك). وقد رفضوا مبدأ التثليث، والأسرار المقدسة للكنيسة، وتبجيل الصليب، والأيقونات، ولم يعترفوا بسلطة البابا. وبعد أن أعلن البابا أنهم ملعونون أقاموا كنيستهم الخاصة بهم، وأعلنوا استقلالهم عن الكنيسة الكاثوليكية الرومانية. وقد شن البابا أنوسنت الثالث حملة صليبية عليهم، عام 1209م، انتهت بهزيمتهم هزيمة نهائية، وتم قمعهم بصفة نهائية، مع نهاية القرن الثالث عشر. ينظر: (المعجم العلمي للمعتقدات الدينية، تعريب وتحرير: سعد الفيشاوي، مراجعة: عبدالرحمن الشيخ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة ص120)
  10. روبنس دوفال، تاريخ الأدب السرياني، ترجمة: لويس قصاب، منشورات مطرانية السريان الكاثوليك، ص219. ألبير أبونا، المرجع السابق، ص438.
  11. برصوم، المرجع السابق، ص395. ألبير أبونا، المرجع السابق، ص438.
  12. سبستيان بروك، القرن السابع الميلادي في المصادر السريانية، ترجمة: زيا نمرود كانون، مجلة المجمع العراقي- العدد الخاص بهيئة اللغة السريانية، بغداد، 1989، مج13 ص77.
  13. يوسبيوس القيصري،: عرف أيضا باسم (يوسبيوس بامفيلي). كاتب روماني في المسائل الكنسية، ومؤرخ كان أسقف قيصرية بفلسطين، ما بين 311 حتى وفاته سنة 340م. أهم مؤلفاته تاريخ المسيحية عام 324م، حياة الإمبراطور قسطنطين. وكان يوسبيوس من أوائل الكتاب المسيحيين الذي حاولوا التوفيق بين منجزات العلم الكلاسيكي، ومصالح الكنيسة المسيحية. ينظر: (المعجم العلمي للمعتقدات الدينية، ص212).
  14. ألبير أبونا، مرجع سابق، ص438. سوريال، تاريخ المسيحية الشرقية، ص248.
  15. يوحنا الآسيوي، تاريخ الكنيسة، الكتاب الثالث، ترجمة: صلاح عبد العزيز محجوب، تقديم ومراجعة: محمد خليفة حسن، المجلس الأعلى للثقافة، 2000م، ص24.
  16. يوسف حبـي، التواريخ السريانية، مجلة المجمع العلمي العراقي – هيئة اللغة السريانية، بغداد، 1981-1982، مج6، ص85.           
  17. أغناطيوس أفرام الأول برصوم، اللؤلؤ المنثور في تاريخ العلوم والآداب السريانية، سلسلة التراث السرياني، حلب، الطبعة الخامسة، 1987م، ص130.
  18. المرجع السابق، 403.
  19. الرهاوي المجهول، تاريخ الرهاوي المجهول، عربه عن السريانية ووضع هوامشه: الأب ألبير أبونا، بغداد، 1986، ص7، بقلم المعرب.
  20. حنا فييه، كنيسة المشرق قبل الإسلام، تعريب: جاك إسحق، مجلة بين النهرين، بغداد، السنة الأولى، العدد الثاني، نيسان، 1973، ص159.
  21. الرهاوي المجهول، المصدر السابق، ص8 تعليم المعرب.
  22. أفرام الأول برصوم، اللؤلؤ المنثور، ص403-404.
  23. كوركيس عواد: من أفذاذ البطاركة السريان في العصر الحديث، مجلة المجمع العلمي العراقي، العدد الخاص بهيئة اللغة السريانية، بغداد، مج9 ص129.
  24. الرهاوي المجهول، مصدر سابق، ص5  تقديم المعرب.
  25. برصوم، اللؤلؤ المنثور، ص404. ويذكر برصوم بطريرك الأرثوذكس، أن زميله أفرام الثاني رحماني، بطريرك السريان الكاثوليك، نشر الجزء الأول من تاريخ الرهاوي، ولكنه وقع في أخطاء بسبب العجلة، لذا عندما نشره بالتعاون مع المستشرق الفرنسي شابو، تلافى هذه الأخطاء. ينظر: (اللؤلؤ المنثور، ص404).
  26. يوسف حبـي، التواريخ السريانية، مج6 ص85-86.
  27. حنافيي، كنيسة المشرق قبل الإسلام، ص159 هامش4.
  28. الرهاوي المجهول، مصدر سابق، ص5.
  29. برصوم، اللؤلؤ المنثور، ص404.
  30. س.ن بروك، القرن التاسع الميلادي في المصادر السريانية، ترجمة زيا نمرود كانون، مجلة المجمع العلمي العراقي –العدد الخاص بهيئة اللغة السريانية، بغداد مطبعة المجمع العلمي العراقي 1989، مج13 ص77
  31. المرجع نفسه، مج13 ص77
  32. يوسف حبـي: التواريخ السريانية، مج6 ص85، وقد أخذ يوسف حبـي عندما حدد تاريخ وفاة باسيل ب 1170م والصحيح ما أثبتناه.
  33. الرهاوي المجهول: المصدر السابق، ص10 تقديم المعرب
  34.  
  35. برصوم: اللؤلؤ المنثور، ص413، وهناك خلاف في شطر البيت ما بين مؤلف أبونا وبرصوم، حيث يذكر أبونا محل سيدنا عيسى لفظة (الرب) نقلا عن ديوان ابن العبري المطبوع في ديرمامرقس بالقدس سنة 1929 ص71.
  36. ابن العبري، أبو الفرج جمال الدين: تاريخ الزمان، نقله الى العربية إسحق أرملة، قدم له جان موريس فييه، دار المشرق – بيروت 1991 ص11
  37. ابن العبري: تاريخ الزمان، ص12 تقديم
  38. برصوم: اللؤلؤ المنثور، ص413
  39. ألبير أبونا: أدب اللغة الآرمية، ص447، عزيز سوريال عطية: تاريخ المسيحية الشرقية، ترجمة إسحق عبيد – المجلس الأعلى للثقافة – القاهرة، الطبعة الأولى 2005م، ص248
  40. ألبير أبونا: المرجع السابق، ص447-448، ابن العبري تاريخ الزمان، ص16 تقديم
  41. برصوم: المرجع السابق، ص413، أبونا: المرجع السابق، ص448
  42. أبونا: المرجع السابق، ص448، سوريال: المرجع السابق، 249
  43. ديونيسيوس عنجور: تولى السدة البطريركية للسريان في 14 أيلول سنة 1252م، وبينما كان يصلي في كنيسة دير برصوم، الواقعة بالقرب من ملطية، في أيام صوم نينوى، قتله الراهب سرجيوس والدياقون باسيليوس ورجل آخر يدعى إبراهيم – طالع السلاسل التاريخية للفيكونت دي طرازي ص22 حاشية 2. ينظر: (ألبير أبونا: أدب اللغة الآرامية، ص443 هامش150).
  44. يوحنا ابن المعدني: ولد هارون في نهاية القرن الثاني عشر، في جوار (معدن) القريبة من دياربكر (آمد)، ولبس الأسكيم الرهباني (وسيم) كاهنا، وصار كاتب أسرار لديونيسيوس عنجور، الذي كان مطران ملطية. ثم سيم مطرانا لماردين، ثم رقاه البطريرك أغناطيوس الثالث مفريانا للمشرق، وبعد ذلك اغتال أحد الأكراد في طور عبدين مفربان المشرق ديونيسيوس صليبا، وبعد نزاعات عديدة أصبح بطريركا لكنيسة السريان اليعاقبة إلى 1263م حيث وافاه الأجل، ودفن في دير الباقسماط، الواقع في منطقة سيس بكيليكيا، جنوب غرب الأناضول. ينظر: (برصوم: اللؤلؤ المنثور، ص52-53، ألبير أبونا: أدب اللغة الآرامية، ص442-443).
  45. ألبير أبونا: المرجع السابق، ص448، سوريال: المرجع السابق، ص249
  46. دير مار متى: دير عظيم رفع بناؤه في أواخر القرن الرابع الميلادي، وصار كرسيا مطرانيا، وهو كذلك إلى وقتنا الحاضر، حوى في حقبتها الأولى مجموعة كبيرة من الرهبان، وتقلبت به الأحوال، حتى جدد عام 1845م، أنجب بطريركيين، وستة مفارنة، وثلاثة وثلاثين أسقفا. ينظر: (برصوم، اللؤلؤ المنثور، ص514).
  47. برصوم: اللؤلؤ المنثور، ص412، ألبير أبونا: أدب اللغة الآرامية، ص449، ابن العبري المصدر السابق، ص12 تقديم
  48. أبونا: المرجع السابق، ص449
  49. صليبا شمعون: ابن العبري غريغوريوس أبو الفرج، الكاتب السرياني – عدد خاص، بغداد 1986، ص63
  50. لويس ساكو: مادة ابن العبري، معجم الأدب السرياني، منشورات المجمع العلمي العراقي – هيئة اللغة السريانية – لجنة الملجم، بغداد 1410هـ 1990م، 14 ص57-60
  51. رونبس دوفال: تاريخ الأدب السرياني، ترجمة لويس قصاب، منشورات مطرانية السريان الكاثوليك بغداد – العراق 1992، ص221-222، برصوم: المرجع السابق، ص424-425، أبونا: المرجع السابق، 456-458
  52. بروك: القرن السابع الميلادي في المصادر السريانية، مج13 ص79
  53. دونال: تاريخ الأدب السرياني، ص221، برصوم: المرجع السابق، ص4425، أبونا: المرجع السابق،ص457،سوريال: المرجع السابق، ص250
  54. أبونا: المرجع السابق،ص457، وقد نشر برنس وككيرش هذا التاريخ بجزئين في ليبسيك بألمانيا سنة 1789، ثم نشره بالعربية القس إسحق أرملة في مجلة المشرق البيروتية، ما بين سنين 1949 و1956، ونشرت دار المشرق هذه الترجمة في مجلد واحد سنة 1986، بتقديم الباحث الدومنيكي جان موريس فييه. وترجمه إلى الإنكليزية، وطبعه بجزئين في أكسفورد سنة1932. وكان بيجان قد نشر نصه في باريس سنة 1890، وأعاد نشره المطران جيجك في هولندا، وجاءت منه نقول إلى العربية في مجلة النجم الكلدانية بالموصل لسنة 1930. ينظر: (دوفال: المرجع السابق، ص221، أبونا: المرجع السابق، ص 457 هامش 202، ابن العبري: المصدر السابق، ص19 تقديم).
  55. برصوم: المرجع السابق،ص425، أبونا: المرجع السابق، ص457
  56. دوفال: المرجع السابق، ص221-222، أبونا: المرجع السابق، ص458-459
  57. برصوم: اللؤلؤ المنثور، لقد سطر البطريرك صفحات كثيرة في ترجمة ابن العبري، بلغت أكثر من عشرين صفحة من القطع الكبير، وهكذا الأمر بالنسبة لغالبية علماء السريان، الذين أرخوا لأبن العبري، واعتبروه أحد أعظم الشخصيات الذين أنجبتهم الكنيسة طيلة تاريخها. قارن بهذا الصدد ترجمة ابن العبري في أدب اللغة الآرامية للكاهن العراقي ألبير أبونا ص445-460 والمصادر والمراجع التي يحيل عليها.
  58. ابن العبري: مصدر السابق، ص14،16 تقديم.
  59. أبونا: مرجع سابق، ص448 نقلا عن بتريس في كتابه أبحاث، ص119، حنافيي: مصادر كنيسة المشرق قبل الإسلام، ص160، وقد انتقد (فيي) (ابن العبري) على إطلاقه لقب المفريان على من تولوا رئاسة كنيسة تكريت منذ البداية، مع أن هذا اللقب أطلق متأخرا. ينظر: المرجع السابق ص160.
  60. سعد رستم: الفرق والمذاهب المسيحية منذ ظهور الإسلام حتى اليوم، الأوائل للنشر واالتوزيع، دمشق، الطبعة الأولى، 1425 ه – 2004 م، ص 21.
  61. الأريوسية: ينسب هذا المذهب إلى الكاهن الليبـي آريوس، الذي درس في مدرسة لوسيان اللاهوتية في مدنية أنطاكية، وبعد أن تم ترسيمة قسيسا في كنيسة الأسكندرية، عام 319م، اختلف مع أسقف الأسكندرية اثناسيوس حول إلهية المسيحية، وأظهر عقيدته التي مؤداها نفي إلهية المسيح، واعتبارة مخلوقا. وقد أدى اللغط وتصارع الآراء الذي أثاره تعليم آريوس إلى عقد أول مجمع مسكوني (عالمي) فى مدينة نيقية (أزنيك التركية) عام 325م، والذي حضره 318 أسقفا، ثم ذهب أكثريتهم إلى النص على العقيدة التي اشتهرت باسم العقيدة النيقاوية، والتي صارت دستور الإيمان المسيحي الأرثوذكسي، كما تم نفي آريوس إلى مقاطعة الليريا في البلقان بسبب عقيدته. ينظر: (محمد أبو زهرة: محاضرات فى النصرانية، الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض، 1404هـ، ص47. أحمد شلبي: مقارنة الأديان المسيحية، الطبعة السادسة، 1978م، ص113. محمد عطا الرحيم: محمد نبي الإسلام، ترجمة فهمي شما، دمشق، 1999، ص 128-129.
  62. النسطورية: تنسب هذه الفرقة إلى البطريرك نسطوريوس، الذي نصبه الإمبراطور البيزنطي ثيودوسيوس (395- 430م) بطريركا على القسطنطينة سنة 428 م، وقد رأى نسطوريوس أن هناك أقنوما وطبيعة، فأقنوم الألوهية من الأب وتنسب إليه، وطبيعة الإنسان قد ولدت من مريم، فمريم هي أم الإنسان- وليست أم الإله - وقد مهد نسطوريوس ذلك الأساس للقول بطبيعتين أو أقنومين: أقنوم الإنسان، وأقنوم الله، ولا أن تسمى مريم العذراء أم الله، بل هي بشر ولدت المسيح بالشخصية البشرية، وأن المسيح مات على الصليب كإنسان، فاعتبرت تعاليم نسطوريوس هرطقة، وبدعة ضالة، تخالف المبادئ الرئيسية التي تدين بها الكنيسة، وعلى إثرها انعقد مجمع أفيسس (مدينة تقع جنوب غرب تركيا حاليا بالقرب من أزمير) سنة 431 م. واتهم نسطوريوس بالضلال والاتحاد، وتمم عزله من أسقفيته، ومن ثم نفي إلى أحد الأديرة القديمة في أنطاكية ومنها إلى مصر، حيث توفي سنة 451م. ينظر: (فرست مرعي: دراسات في تاريخ اليهودية والمسيحية في كردستان، منشورات آراس أربيل، الطبعة الأولى 2008 ص 51-52).
  63. اليعقوبية: تطلق هذه التسمية على المسيحيين من الطائفة السريانية المنوفيستية، وذلك نسبة إلى يعقوب البرادعي، الذي سيم أسقفا سرا عام 543م، وتمكن من مراوغة شرطة الإمبراطور البيزنطي يوستنيانوس، وجاب البلاد لتنظيم الكنيسة المنوفيستية، التي من تعاليمها القول بالطبيعة الواحدة للسيد المسيح. وهي بالمعنى الحرفي تشمل جميع المذاهب التي لا ترى في الكلمة المتجسدة إلا طبيعة واحدة بعد اتحاد العنصرين البشري والإلهي. وقد تبنى هذه البدعة كل من أوطيخا في القسطنطينية وديوسقورس في الأسكندرية. إلا أن سويروس بطريرك أنطاكية (512- 518) قال بمنوفيستية كلمية أصبحت هي الرسمية. وهذه تؤكد على وحدة الأقانيم في المسيح دون إنكار وجود العنصر البشري في تماميته الفردية، وقد اعتبر هذا المذهب مخالفا لرأي الكنيسة، وتم عقد مجمع خلقيدونية في سنة 451 م، حيث تم التأكيد على أن (الكلمة الإلهية، الابن الوحيد لله، المولود من العذراء مريم، هو على الصعيد البشري ذو طبيعتان لا تختلطان ولا تتغيران ولا تتجزآن ولا تفترقان). وأن الكنائس المنشقة عن التعاليم الخلقيدونية هي: السريانية (اليعقوبية) والأرمنية والقبطية والحبشية.  ينظر:(هندي. عبودي: معجم الحضارات السامية، جروس برس، طرابلس، لبنان، الطبعة الأول 1408هـ - 1988م. ص823-824، 917).
  64. الملكانية:- وهم غالبية النصارى الذين خضعوا لمقررات مجمع خلقيدونية، الذي حرم المونوفيستية، مؤكدا على أن للمسيح طيعتين إلهية وبشرية، وقد دعاهم المنوفيستيون بهذا الاسم على سبيل السخرية، لأنهم انحازوا في موقفهم هذا إلى الملك البيزنطي الذي أعلن قبوله تلك المقررات. ينظر: (سعد رستم: المرجع السابق، ص29).
  65. المونوتيلية: وهو المذهب القائل بأن للمسيح طبيعتان، لكن له مشيئة واحدة (إرادة) واحدة، والمغزى من هذا المذهب هو وضع حد للخلاف بين المنوفيستيين والخلقيدونيين لتوحيد الإمبراطورية والكنيسة معا في وجه الأطماع الخارجية المتمثلة بالفرس الساسانيين. والفئة الوحيدة التي قبلت هذا المذهب هم أتباع الكنيسة المارونية في لبنان، رغم اعتراض اثنان من كبار لاهوتيي العصر آنذاك، وهم: صفرونيوس بطريرك بيت المقدس، الذي سلم مفاتيح المدينة للخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب (رضي الله عنه)، والثاني مكسيموس. ينظر (نقولا زيادة: المسيحية والعرب، قدمس للنشر والتوزيع، دمشق، الطبعة الثانية، 2000م، ص179).
  66. غسان دمشقية: لاهوت التحرير، الأهالي للطباعة والنشر، دمشق، الطبعة الأولى، 1990، ص112 وما بعدها.
  67. المرجع نفسه، ص123-124.
  68. نقولا زيادة: مرجع سابق، ص179.
  69. عزيز سوريال: تاريخ المسيحية الشرقية، ص490.
  70. سعد رستم: المرجع السابق، ص22-23.
  71. لويس شيخو: النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية، منشورات دار المشرق، بيروت، الطبعة الثانية، 1989، ص90-91.
  72. جان موريس فييه: أحوال النصارى، ص358 نقلا عن شموئيل جميل في كتابه العلاقة بين الكنيسة الكلدانية والمجمع الشرقي.
  73. نقولا زيادة: مرجع سابق، ص193و ما بعدها.
  74. سعد رستم: مرجع سابق، ص33 وما بعدها.
  75. نقولا زيادة: مرجع سابق، ص193.
  76. عزيز سوريال: تاريخ المسيحية الشرقية، ص78-91.
  77. غسان دمشقية: لاهوت التحرير، ص121-122.
  78. محمد أبو زهرة: محاضرات في النصرانية، ص171-172.
  79. عزيز سوريال: تاريخ المسيحية الشرقية، ص114.
  80. المرجع نفسه، ص114-115.
  81. نقولا زيادة: مرجع سابق، ص193.
  82. تاريخ ميخائيل السرياني، ج3،ص153.
  83. وهذه المدن هي: أنطاكية، الرها، آمد (دياربكر)، ملطية، مرعش، سروج، سميساط وغيرها.
  84. تاريخ الرهاوي المجهول، ص72.
  85. الرهاوي المجهول: تاريخه، ص75؛ ومما تجدر الإشارة إليه أن السريان والأرمن ساعدوا الصليبيين في الاستيلاء على بعض المدن و البلدات والقرى الإسلامية، فضلا عن إعلامهم بالخطط السرية التي كان قادة الجهاد الإسلامي قد وضعوها نصب أعينهم للقضاء على الصليبيين في أنطاكية والرها والمناطق المحيطة بهما، وكذلك قتلهم أي السريان والأرمن للمسلمين في أنطاكية، بعد أن دخلها الصليبيون بخيانة أحد الأرمن. ينظر بهذا الصدد: (ابن الأثير: الكامل في التاريخ، حوادث سنة 491هـ. ابن العديم: زبدة الحلب، ج2، ص135. سعيد عاشور: الحركة الصليبية، ج1، ص200، 204، 211.
  86. ميخائيل السرياني: تاريخه، ج3، ص153. الرهاوي المجهول: تاريخه، ص75. ابن الأثير: الكامل في التاريخ، حوادث سنة 491هـ.
  87. سيغال: الرها المدينة المباركة، ترجمة يوسف إبراهيم جبرا، ص278.
  88. المرجع نفسه، ص278.
  89. تاريخ ميخائيل السرياني، ج3، ص153.
  90. المصدر نفسه،  ج3، ص153.
  91. سيس: مدينة ملاصقة لثغور الشام، من أعمالها طرطوس وميرسين، استولى عليها السلطان المملوكي بيبرس. ينظر: (ياقوت الحموي، معجم البلدان، ج3، ص154.
  92. مروان المدور: الأرمن عبر التاريخ، منشورات مكتبة دار الحياة، بيروت، الطبعة الأول، 1982، ص225-234.
  93. سوريال: مرجع سابق، ص411.
  94. نقولا زيادة: مرجع سابق، ص215.
  95. سوريال: مرجع سابق، ص492-493.
  96. المرجع نفسه، ص493.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق