01‏/05‏/2015

لقاء مع الروائية والناقدة المغربية (د. زهور كرام)

أجرى اللقاء: بسام الطعان
د. زهور كرام روائية وقاصة وناقدة مغربية، من مواليد مدينة (سطات) 1962، تحمل  شهادة  دكتوراه  الدولة،  ودكتوراه  السلك الثالث ، وتعمل  أستاذة  جامعية  في  (جامعة  ابن  طفيل) و(جامعة  محمد الخامس)/ الرباط ، وهي عضو في (اتحاد كتاب المغرب).                          
صدر لها:
1ـ جسد ومدينة ـ رواية .
2ـ سفر في الإنسان (شذرات ونصوص).
3ـ في ضيافة الرقابة ـ دراسة نقدية.

4ـ السرد النسائي العربي مقاربة في المفهوم ـ نقد.
5ـ قلادة قرنفل ـ رواية.
6ـ ببلوغرافيا المبدعات العربيات بالاشتراك مع د. محمد قاسمي.
7ـ مولد الروح ـ مجموعة قصصية .
8 ـ السرد النسائي العربي - مقاربة في المفهوم والخطاب- نقد.
 -----------------------------------------------------------------------
- اهتمامك يتوزع بين السرد والنقد، وهذه فرصة جميلة لنحاورك حول السرد والنقد. هل النقد في المغرب العربي يتفوق على الإبداع؟
* لا شك أن طبيعة الرؤية النقدية التي ميزت الخطاب النقدي المغربي، وتميز بعض الأصوات النقدية المغربية من خلال مشاريعها النقدية، وليس فقط دراساتها النقدية، قد جعلت الاهتمام المشرقي يتجه إلى التجربة النقدية المغربية أكثر من الإبداع، وخاصة الرواية. دون أن يعني هذا أن الوضع الإبداعي المغربي لا يوازي النهضة النقدية، إنما المسألة متعلقة بشروط تمرير الكتاب النقدي أكثر من النص الإبداعي، إضافة إلى طبيعة بنية الرواية المغربية.
يعاني الكتاب الإبداعي المغربي، خاصة قبل هذه المرحلة، من سوء توزيعه، ليس فقط خارج المغرب، بل حتى داخله. وهذا يعود إلى غياب شروط تسويق الكتاب. وعلى العكس فقد تمكن الدرس النقدي من خلق أجواء تواصلية مع المشرق العربي، بفضل المؤتمرات والندوات التي شارك/  يشارك فيها النقاد المغاربة، والتي تجعل صوتهم النقدي والفلسفي يصل بسرعة إلى الآذان، وإلى الفكر.إضافة إلى النشر عبر المجلات، الشيء الذي يصعب مع الحالة الإبداعية، خاصة الروائية.
جعل هذا الوضع الاهتمام المشرقي بالإبداع الروائي المغربي يصل متأخرا، والذي ساهم في ذلك أيضا هو أننا بالمغرب نقرأ كثيرا النصوص الإبداعية المشرقية. بمعنى أننا نملك نظرة موضوعية إلى حد ما في التعامل مع الإبداع العربي، ولا ننشغل فقط بالإبداع المغربي، أي ليست لدينا نظرة شوفينية للإبداع المغربي. والدليل أن الكتاب المغربي إبداعا ونقدا لم نبدأ نتعامل معه في الدرس الجامعي إلا في السنوات الأخيرة، خاصة مع الجيل الجديد من الباحثين. فكل النصوص التي اشتغلنا عليها ونحن طلبة كانت في معظمها نصوصا مشرقية، وكثير من الأطروحات الجامعية اشتغلت وما تزال على النصوص المشرقية. لهذا هيمنت نظرة تفوق النقد على الإبداع في التجربة المغربية. إضافة إلى هذه العوامل، فن تركيبة الرواية المغربية، والتي تتسم بالتجريب، وتنفتح كثيرا على منطق التحولات البنيوية، التي تؤثر في طبيعة الحكاية، جعل أفق انتظار القارئ المشرقي لا يتواصل بالشكل المطلوب مع هذا النموذج، الذي يعبر عن تجربة جديدة.
مع ذلك، يمكن الاعتراف بتميز النقد المغربي بفعل عوامل عديدة، من أهمها  انفتاح الجامعة المغربية في وقت مبكر على الطروحات النقدية، التي ساهمت في تطوير الدرس النقدي في فرنسا مع نهاية الستينيات، ولا ننسى ما للجامعة من دور تثقيفي بشكل علمي للدرس المعرفي بشكل عام. توازى هذا النشاط العلمي مع علاقة المغاربة باللغة الفرنسية، والقرب الجغرافي لفرنسا، والذي يجعل عملية استيعاب سياق التنظير مسألة مدركة في أبعادها الفلسفية والمعرفية والجمالية. أي أن انخراط المغاربة في السياق الثقافي الفرنسي، يعد عاملا مهما في عملية التواصل المرن مع النظريات النقدية الفرنسية. لأنه لا يكفي أن تترجم نصا من لغة إلى أخرى حتى تضمن سلامة ترجمة الفكر والتفكير، ولكن لابد من انخراط أولي في السياق العام للمعرفة المترجَمة (بفتحة على الجيم).
النقد الفرنسي لعب دورا مهما في حركة النقد العالمي، والفضل لا يعود إلى الفرنسيين كأشخاص، إنما يعود إلى المناخ الديمقراطي الصحي الذي أنشأته فرنسا، خاصة بعد 68، وهو المناخ الذي اتسم بالحرية والخلق وإطلاق التفكير، والذي مكن القادمين، أو الهاربين، من المعسكر الشرقي آنذاك، من إيجاد سياق قابل لاحتضان طروحاتهم النقدية، مثلما وجدنا مع النقاد الروس والبلغاريين، أمثال: (كريستيفا)، و(تودوروف)، وغيرهما. بل أفكار الناقد (ميخائيل باختين) حول تعدد الأصوات واللغات والأساليب، ومفهومه للملفوظ والآخر، لم تجد انتعاشها التنظيري إلا مع شروحات (تودوروف) و(كريستيفا) في فرنسا. أهّل هذا السياق الفرنسي التفكير النقدي لكي يبدع في تطوير مفهوم القراءة والنص والأدب.  وربما ما يميز الفرنسيين هم أنهم، وإن أخذوا النظرية عن غيرهم، فإنهم يجعلونها فرنسية الأجرأة، أي يشتغلون على النص الفرنسي بدقة، مما يجعل النظرية تهاجر منشأها، وتصبح ذات مرجعية فرنسية. دون أن ننسى أن الذي عمل على تنشيط حركية النقد بفرنسا هي الجامعة، وخلق مجموعات بحث ما تزال تشتغل بعلمية إلى يومنا هذا. مما يعني أن الناقد كان باحثا، وكان يشتغل في إطار المجموعة، ومن خلال مختبرات ووحدات بحث. يعني تطور البحث العلمي يساهم في تطور التفكير، والنقد مظهر من مظاهر التفكير.
استفاد النقد المغربي من هذا الجو، ولهذا وجدت مجمل النظريات النقدية الحديثة مكانتها في الجامعة المغربية، طبعا ذلك تم بفضل مجموعة من الباحثين الجامعيين، الذين عبروا عن حداثة تفكيرهم العلمي مبكرا، وساهموا في جعل البحث العلمي ينخرط في التجارب النقدية الحديثة.
- كيف تقرئين آفاق التواصل بين المشرق والمغرب العربي، وهل بين المشرق والمغرب تواصل أو قطيعة؟
* عندما أشاهد الدراما السورية، والتي بالمناسبة أصبحت أفقا جماليا، يسترعي انتباه المشاهد المغربي، أجد الكثير  من التعبيرات اليومية، التي تعبر عن طريقة معينة في الحياة والرؤية، ليست فقط شبيهة بما نعيشه بالمغرب، إنما هي نفسها. وهذا دليل على أننا نعيش أفقا مشتركا. ليس هناك قطيعة، ولم تكن حتى عندما  تشتغل السياسة، وتحدث بعض الأزمات، فإن العلاقة بين الشعوب والمجتمعات والمثقفين  تبقى عميقة، بل تشكل أهم ضمانة لاستمرار التاريخ الوجداني المشترك. ونحن في المغرب حريصين على دوام التواصل، وهذا ينعكس بسرعة على الوجدان المغربي العام، بمجرد أن تحدث أزمة عربية. ونؤمن بأن التواصل هو القوة التي بواسطتها يمكن مواجهة التحدي العالمي. لكن حتى ينتج هذا التواصل حوارا في الأفكار والتصورات، ويغني النقاش والحوار العربي، ويساهم في تقريب وجهات النظر، حتى بين السياسيين، لابد للمثقف من أن يلعب الدور الطلائعي في هذا الجانب، وألا يترك المكان شاغرا. أظن أن التواصل بين المشرق والمغربي ما يزال في حاجة إلى دعمه وتطويره، من خلال خلق شروط إيجابية لجعله أكثر عطاء. وعندما ننظر اليوم إلى هذه الحركية المنتعشة بين المغرب والمشرق، بواسطة الشبكة العنكبوتية، نرى إلى أي حد أن هذا التواصل يحتاج فقط إلى الشروط، أما الرغبة فهي منقوشة في الوجدان العربي. حتى هذا الحوار بيني وبينك أراه آلية لتقريب أفكارنا بين بعضنا.
كثيرا ما اشتغلنا وانشغلنا بصورتنا في وعي الآخر الأجنبي. لم لا نقرأ بعضنا، وننفتح على إبداعات بعضنا، حتى نشطب على الصور المغلوطة التي يحملها بعضنا عن بعضنا؟. إنها منطقة فكرية لا بد من العمل عليها حتى يستقيم الحوار، ويصبح التواصل أكثر إيجابية، ونشكل قوة إيجابية تنتصر للعقل العربي، وتشكل حصانة ضد الاختراق.
- بعض النقاد يصعبون لغتهم، أليس من الأفضل سهولة اللغة، والتعبير، عند الكتابة النقدية؟
* أن نقرأ نصا إبداعيا معناه أن نقدمه إلى القارئ بلغة تحليلية وأدوات منهجية. معنى هذا أن فعل القراءة، الذي هو فعل التفكير، يحتاج إلى لغة واصفة، وأدوات، ومناهج، ورؤية، وهي كلها عناصر تفترض إنتاج معرفة قابلة للأخذ بها من طرف القارئ. الأكيد أن لغة النقد هي لغة المصطلحات والمفاهيم، وهي لغة قد تبدو صعبة لدى القارئ غير المتمرس بهذا الخطاب، لكن مع ذلك أنا من المؤمنين بضرورة جعل لغة القراءة لغة مرنة، لأن اللغة الصارمة تبعد القارئ عن متابعة القراءة. إن الهدف من كتابة أي نص هو أن نضمن قراءته من طرف القارئ، وهو  هدف لو يضعه الناقد أمام عينيه، فإنه سيشتغل على لغته حتى تصبح لغة قابلة للقراءة. حتى النقد ينبغي أن تكون لغته ممتعة، ولها بعد جمالي. ينبغي أن نشد القارئ وهو يقرأ النقد، لا أن ندفعه إلى ترك نصنا النقدي، حينها سنخسر رؤيتنا النقدية، ونخسر أيضا النص الإبداعي الذي اشتغلنا عليه. أنا أجد متعة وأنا أقرأ النص الإبداعي، وهي نفسها المتعة التي أكتب بها. لغة النقد من الممكن أن تكون لغة إبداعية بدرجة ثانية. الإبداع هو مدخل لكل شيء. حتى في النقد يمكن للغتنا أن تكون مبدعة، دون أن يخدش ذلك علمية المفاهيم والمصطلحات. وكثير من النقاد والمفكرين يكتبون بلغة سهلة عن أفكار عميقة وقضايا كبرى. حين نقرأ للمفكر المغربي (محمد عابد الجابري)، نجد أن لغته بسيطة وتعليمية، كأنه يعطي درسا في الجامعة، أي البعد التربوي والتعليمي البيداغوجي حاضر في طريقة التعبير عن الأفكار. لغتنا الإبداعية أو النقدية صورة لوعينا.
- فيما يخص الرواية المغربية، هل لك أن تحددي الانعطافات الأساسية في سياق العملية الفردية ؟
* تعيش الرواية المغربية تحولات بنيوية مهمة، تمس ليس فقط طبيعة المواضيع والقضايا التي تطرحها، إنما  تحولات تحدث بالأساس في شكل حكي المواضيع، أي تحولات في نظام ترتيب الحكاية، مما انعكس على منطق الجنس الروائي في التجربة المغربية. أشير أولا إلى أن الرواية المغربية منذ تأسيسها، وهي تعيش تحولات سريعة في نظام منطقها. فالرواية المغربية دائما مقبلة على التغير والتحول، وهذا ما جعلها تعيش التجريب في أبعد حدوده.
منذ تسعينيات القرن الماضي، عرفت الرواية حضورا كبيرا في المشهد المغربي، سواء بالتعبير العربي أو الفرنسي، إضافة إلى لغات أجنبية بدأ الكتاب المغاربة يعبرون بواسطتها، خاصة المهاجرين في أوربا، وأصبحت تستحوذ على أغلب المبدعين. فكثير من الشعراء جربوا الكتابة في جنس الرواية، وأيضا مؤرخين وأطباء وفلاسفة، وأصبحت مجالا سرديا مرنا، سمح بدخول قضايا ومواضيع ارتبطت بالأساس بمرحلة الانتقال الديمقراطي الذي عرفه المغرب. كما سمحت شروط التحولات السياسية والاجتماعية بالمغرب، والتي حددت علاقتها بالماضي بكثير من الإيجابية والسماح لانعتاق الفكر الحر، في جعل الرواية من الأصوات التعبيرية عن مرحلة تصالح المغرب مع ماضيه سياسيا. ولهذا وجدنا كثيرا من المعتقلين السياسيين يعبرون، من خلال الرواية، عن الاعتقال وظروفه، مما أحدث شيئا قريبا من الاغتسال. ولعل أهم ما يلفت النظر في التجربة الروائية المغربية، هو انخراطها في الذات، ليس باعتبارها موضوعا محكيا فحسب، إنما الذات حاكية ومحكية، مما جعل الرهانات تمر عبر إحساس الذات، بعيدا عن تجربة المؤسسات والأحزاب. فالرواية الآن تعبر عن حالة الذات المغربية، وهي تشهد رهانها التاريخي في أن تصبح هي صاحبة القرار والتفكير والإرادة، وتجرب التفكير بعيدا عن التدجين الذي لازمها. خلخل الوضع الجديد  للذات في الرواية  ميثاق القراءة، وطرح إمكانيات تجنيسية جديدة، تنطلق من منطق جنس الرواية، لكنها تبني شرط تحققها بطريقة مختلفة، تعبر عن شرعية الاختلاف في التغيير، ولهذا بدأنا نتحدث في النقد المغربي الروائي عن المحكي الذاتي، والتخييل الذاتي، والسيري الروائي، والروائي السيري. إنه تعدد يعكس تحول نظام الحكاية في الرواية المغربية، وهو تحول يشخص بدوره التحولات التي تحدث في المغرب: سياسة وفكرا ومجتمعا.
- هناك مقولة تؤكد وجود عداء بين الكاتب والناقد، ما رأيك؟
* من يقول بهذا، ويؤمن به، لا يدرك وظيفة الكتابة والنقد معا. لا يمكن للكتابة أن توجد بدون نقد، ولا يمكن للنقد أن يوجد بدون كتابة. هما خطابان متلازمان ومتداخلان ومتراكبان، ويشتغلان من أجل المعرفة الأدبية، في بعدها المعرفي والجمالي التخييلي. مهمة الكاتب تنتهي بمجرد دخول كتابته إلى السوق، لأن عندها يبدأ زمن آخر، هو المسؤول عن توزيع الكتاب وتسويقه وتقريبه من القراء، وهو زمن الناقد. أيضا الناقد لا يمكن أن يوجد، ويتميز بخطابه، ويصبح له حضور معرفي مسؤول، إذا لم يجد التواصل البناء مع النص، أي الكتابة. وهو تواصل يبدأ بخلق مناخ يسمح له بالتعرف على النص. هناك نقاد كثيرون، لكن هناك نقاد قليلون من يحسنون التواصل مع النص بشكل يجعل النص مبدعا، من جهة، ويجعل نقده مبدعا، من جهة ثانية.
لهذا، فأنا حينما أقرأ ما يكتب حول كتاباتي، أفرح، لكون الذي قرأ كتاباتي منح لنصوصي الحياة. هل هناك أجمل من الحياة؟. في عدم قراءة النص سجن وقيد. لهذا كيف أصبح عدوة لمن يمنح لنصوصي الحرية و الهواء والماء. أيضا عندما أمارس النقد، وأقدم قراءات لنصوص، أكتشفني من خلال تلك النصوص. النصوص محطة مهمة، تجعل الناقد يكتشف تفكيره، وطريقة قراءته، وتصوره، وشكل وعيه..إذن ليست هناك عداوة، وظيفيا طبعا، ومن يقول عكس ذلك، فهو يعلن من البداية إقصاءه.عندما نقصي الآخر، نقصي ذواتنا. علاقة الكتابة والنقد هي إحدى وجوه الحوار الإنساني. والذي يعني بكل اختصار، وكما حددها الناقد الروسي (ميخائيل باختين)، في طروحاته حول الحوارية: لا يمكن أن أوجد أنا، إلا عندما أعي/ أعترف بوجودك أنت.
- هل العمل الأدبي يحتاج إلى النقد، كما تحتاج الحياة إلى التنفس؟
* بدون النقد يموت النص. والنقد الذي أعنيه هنا النقد الفعال، الذي لا يجامل، ولا يزيف شروط القراءة، باعتماد معطيات خارج نصية. كما تلوث السموم الحياة، كذلك فإن النقد غير المسؤول يلوث الحس الإبداعي، ويخدش العملية الإبداعية، بل يقتل حياة النص، ويدمر الجمال، ويساهم في صدأ الروح، لأن الروح تنتعش بالجمال والحس الإنساني. 
يمكن للنقد أن يساهم في تطور الإبداع، عندما ينجز وظيفته المشروعة في علاقته بالنص، كما يمكنه أن يطور شرط التفكير، بشكل عام، في سياق ثقافي واجتماعي، ويكون داعما أساسيا لتطور الحركة الإبداعية، وجعلها واضحة. لكن إذا اشتغل النقد بالمجاملة والنفاق، وتعامل مع المؤلف، وليس النص، فإنه يساهم في تخلف الإبداع، كما يصبح مسؤولا حضاريا أمام هيمنة النصوص الضعيفة. لهذا أعتبر دائما أن للنقد دورا حضاريا .
النقد أساسي ومركزي وجوهري في العملية الإبداعية، ولكن النقد المبني على شروط علمية، وليس على أمزجة وحسابات حزبية واهية.
- ما هو المقياس أو المقاييس في إنجاح الرواية، وهل اسم الروائي يلعب دورا في نجاحها؟
أهم مقياس هو الصدق مع زمن الإبداع، أي ألا يفتعل المبدع الحالة الإبداعية. وأن يترك حالته هي التي تتحكم في عملية الإبداع. وإبداعية النص تظهر بوضوح للناقد اليقظ. بعض النصوص تكون مفتعلة، ولكن صاحبها يحبكها بنائيا، غير أن النقد الذي يجيد الإصغاء يقف عند افتعال عملية الإبداع. لهذا فأهم شروط نجاح النص هو إبداعيته، بمعنى لا بد أن يحقق الشرط الإبداعي، ويأتي النقد ليكشف ويفكك المظاهر الإبداعية التي تنتج معرفة حول النص والبناء والبعد الجمالي، وعلاقة كل ذلك بتطور نظرية الأدب. لكن إذا لم يشتغل النقد بإيجابية وظيفته على هذه النصوص، فإنه يسمح بتسويق نصوص ضعيفة الإبداعية، ولكن يمنحها قرار التسويق، والذي قد ينعكس على نجاحها، من حيث المبيعات والتوزيع. ونرى هذه الظاهرة تنتشر كثيرا عندما يتراجع دور النقد الفعال. كثير من النصوص الروائية تتوفر على قوة سردية مهمة، لكنها غير معروفة بسبب النقد الذي لا يشتغل باتجاه هذه النصوص. ولهذا، كما قلت في جواب سابق، النص يمكن أن يموت إذا لم يوظف النقد إمكانياته، وإذا لم يتعامل بموضوعية مع كل النصوص، بغض النظر عن المؤلف. على العكس هناك نصوص لا أقول ناجحة إبداعيا، ولكن نجحت عملية تسويقها، إما بسبب كونها أحدثت ضجة من خارج شرطها الإبداعي، أو أنها تسوق لفكرة معينة، تخدم جهة معينة أيضا، لهذا تجد أن وسائل الإعلام، وبعض الأقلام التي تنتظر فوضى الكلام لكي تظهر، تجد كلها الفرصة لكي تدفع بهذه النصوص، وهي بذلك إنما تلوث الحياة الإبداعية. النقد مؤسسة رمزية، وسلطة معرفية، ومن يمتلك هده السلطة يجب أن يدرك أنه قد يدمر شعبا من خلال العبث بإبداعه. لا تتعلق المسألة بمجرد قراءة أو تقديم لنص ما، بقدر ما يتعلق الأمر بتصور ورؤية ومنهج في الإدراك. الإبداع له شرعية حضارية ومعرفية وإنسانية وجمالية، وشرعيته هذه هي التي تحتم على الناقد ألا يعبث بالفعل النقدي.كلنا نساهم في تدني المستوى الحضاري لبلداننا: سياسيين ومثقفين وفنانين وجامعيين أكاديميين، وذلك عندما لا نحترم السلطة التي نمارسها، وعندما نجعلها خارج الأفق الإنساني.
كل خطاب هو سلطة، وكل صاحب خطاب مسؤول، أولا أمام التاريخ، عن شكل تدبيره لهده السلطة. حتى النقد، باعتباره خطابا في القراءة والتحليل للعملية الإبداعية، فإن منتجه مسؤول عن شكل ممارسته لهذا الخطاب.
- ما هي أهمية النقد في تشييد صرح الأدب، ما دوره في توجيه أذواق المتتبعين، والقراء، على حد سواء؟
* لعل كتاب (تودوروف) الأخير: (الأدب في خطر)، يعبر عن أزمة التفكير النقدي، الذي راهن على التحليل الشكلاني، وابتعد عن البعد الإنساني في الأدب، حتى فقد الأدب جاذبيته. وهي أزمة لا تخص التفكير الغربي، التي عبر عنها الناقد البلغاري الأصل (تزفتان تودوروف)، الذي يعد من العلامات المهمة في تاريخ النقد الحديث بفرنسا، وإنما يتعلق الأمر بشكل عام بالأدب والنقد معا في التجربة الحديثة. إن كتاب (تودوروف) يعكس الحالة التي أصبح عليها الأدب الحديث، وهو ينغلق في التجريد والفردية، ويبتعد عن الحس الإنساني، الذي يمنحه جاذبية وقدرة للوصول إلى القارئ، كما أنها أزمة النقد، الذي انغلق بدوره في التجريد والتفكيك والشكلانية. 
لا يمكن للأدب أن يتطور إذا غاب النقد. النقد مسؤولية حضارية بامتياز، لأنه ليس مجرد تفكيك للنص الأدبي، إنما هو شكل من التفكير، ورؤية للحياة والعالم. وأظن أن النقد العربي ينبغي أن يطور علاقته الوظيفية بالنص، وأن يتحمل دوره المعرفي الحضاري. وعندما نتحدث عن دور النقد، فنحن نتحدث عن مسؤولية النقاد تجاه النص الإبداعي. ما نقرأه في بعض الدراسات يعبر - مع الأسف- عن تراجع ما للدور الوظيفي للنقد، باعتباره سلطة رمزية مسؤولة عن تقديم النص إلى القراء. ولعله عامل يضاف إلى عوامل أزمة أو نفور القراء من قراءة النصوص، لأن القارئ في حاجة إلى من يمنحه الرغبة في قراءة النص الإبداعي. بعض الدراسات النقدية غير منتجة نصيا، لأن أصحابها يتعاملون مع كل النصوص بنفس تركيبة الخطاب النقدي الذي يشتغلون به في كل النصوص.
إن صرخة (تودوروف)، في كتابه الأخير، هي صرخة ضد موت البعد الإنساني في الأدب، من جهة، وضد قتل النص الإبداعي من طرف النقد، الذي ينغلق في التجريد والشكلانية. إنها صرخة ضد موت الإنسان في التفكير الرمزي الإبداعي، والنقدي المعرفي. الإنسان باعتباره مؤلفا، أو شخصية نصية، أو قارئا. وأظن أن النقد العربي في حاجة إلى وقفة نقد ذاتي، يسائل فيها وضعه الراهن، وطريقة تفكيره، وأدواته، وتصوره، وعلاقته بالنص الإبداعي، مع شيء من الجرأة والمكاشفة، التي تعزز مبدأ الصراحة والصدق مع الذات. (تودوروف) في كتابه (الأدب في خطر)، إنما يقف وقفة الناقد الذي يمارس النقد الذاتي، لأنه من الذين دفعوا باتجاه الاشتغال على النص، وتفكيكه، ولكنه يمتلك الحس المسؤول، فيما هو يراجع الطروحات النقدية السابقة، مثل الشكلانية، فإنه  يراجع شكل تفكيره النقدي. وفي هدا انتصار لدور الناقد، الذي يمكن أن يقلب الأوراق، عندما يلاحظ، ويتأمل، ويجدد سؤاله النقدي.
- هل تؤيدين النقاد الذين يتخذون من الاختيار أو الانتقاء منهجا لهم، وهل تعملين على أن يكون منهجك منفتحا على شتى المشارب والتنويعات.؟
* إذا كان السؤال حول اختيار المنهج، فالمسألة لا تعود بالدرجة الأولى إلى الناقد، والناقد ليس حرا في أن يختار منهجا دون آخر. إنما النص الذي يشتغل عليه الناقد، هو الذي يبلور أسلوب قراءته. للنص مداخل عديدة، لكن الناقد المتمرس هو الذي يملك قدرة ضبط المدخل الذي عبره تبدأ عملية التفكير في النص. لكن النص من جهته لا يمكن أن يتفوق في اختيار أسلوب قراءته، إلا إذا كان الناقد يتوفر على ذاكرة منهجية، وله ثقافة نقدية موسعة، وخلفية فلسفية، مع إلمام معين بنظرية الأدب، وتاريخ تطورها. في هذه الوضعية يتحكم النص والناقد معا في عملية اختيار أكثر المناهج قدرة على تفكيك النص.
- أكداس من الكتب تنتشر في العالم العربي، بيد أن عددا قليلا منها يصلح للقراءة، بينما الحصة الأكبر، ولاسيما في الشعر والقصة، تكدس في السوق، ولا تجد من يشتريها، بم تفسرين ذلك؟
* لنكن موضوعيين بعض الشيء. أولا: لم نقم بعملية المتابعة والقراءة لما هو موجود في السوق، حتى نحكم على إبداعيته. قد تتفاوت إبداعية النصوص فيما بينها، لكن لا يمكن أن نصدر حكما قاطعا بأن أكثرية النصوص المكدسة غير مؤهلة لكي تنتج ظاهرة إبداعية عربية. ثانيا: تراكم النصوص الإبداعية ظاهرة إيجابية. إذا كان الكل يعبر بواسطة اللغة الإبداعية، وإذا كانت الأكثرية تجد في الوسيط الإبداعي أسلوبا للتعبير عن وجودها، فهذا شيء ينتصر على الجمود، ويفتح آفاقا واسعة أمام تحرر الفرد العربي. ثالثا: هناك من يكتب ليغتسل من آلامه، ويحرر ذاته من الصمت، وفي هذا جانب إيجابي.      
سؤالك يطرح سؤالا ضمنيا: سؤال أزمة القراءة في العالم العربي. لنتساءل كم تطبع كل دولة عربية من المطبوعات، خاصة من الإبداع، سنويا، مقارنة مع نسبة سكانها؟. عندما تقوم بجولة في مختلف الأوطان العربية، ستجد واجهات الشوارع مؤثثة بالمأكولات السريعة، وقليلا جدا ما تجد مكتبات، بل كثير من المكتبات تتحول إلى مقاهي ومحلات تجارية .المناخ العام لا يدفع باتجاه جعل القراءة أسلوبا حياتيا، كما في الغرب. عندما نركب القطار في أوربا مثلا، تجد الكل يقرأ، أو يحمل معه كتابا، حتى في الباصات تجد الكتاب حاضرا بقوة. القراءة عند الغربيين هي طريقة حياة، وسلوك يومي، ناتج عن تصور الدولة، وفلسفة بيداغوجية، ورهان تربوي. هذا هو الذي يكاد يغيب عندنا. لا نربي أطفالنا على القراءة والكتابة والحكي، لنخلق أجيالا تعبر وتقرأ وتفكر.  عندما نطرح سؤال القراءة، إنما نسأل الحكومات العربية من جهة عن تصورها للكتاب والقراءة، وعن برامجها السياسية والتربوية في جعل القراءة برنامجا تربويا. كما نسأل أيضا السؤال الثقافي العربي عن دوره في الارتقاء بالقراءة إلى فعل نهضوي وحضاري.
- هل تستطيع الثقافة العربية أن تتطور، حين تكون الحرية مفقودة؟
* الأكيد أن الحرية هواء تنتعش فيه الأحاسيس والعقول والأفكار، التي تصبح طليقة، وتعبر، وتجدد علاقتها ببعضها.
الحرية مجال يعمل على تخصيب الأفق والمتخيل، ويسمح بخلق حس المبادرة، والحوار بين الأفكار، كما يجعل الفرد يرقى بأسلوب تفكيره. وهي كلها مظاهر تؤثر في شكل الخطاب، ومنطقه، وتعكس بالتالي طبيعة التحولات التي تحدث في مجتمع سياسي معين. والمجتمعات العربية في حاجة ماسة إلى مناخ ديمقراطي حر، يسمح بانتعاش الوجدان العربي. الثقافة تختنق مع القيد، لأن الثقافة تنبني على السؤال، وعندما يصاب السؤال بالصدأ، ويلوث المناخ بالقيد والرقيب، تجمد الأفكار، ويتراجع السؤال، ويتعطل الصوت الحر، ويخفت الاختلاف، الذي يعزز مبدأ الحوارية. لكن، لا يمكن انتظار دمقرطة المناخ، حتى تشتغل الثقافة. لأن الثقافة تتوفر على إمكانيات وأساليب وخطابات، تستطيع من خلالها أن تتجاوز عبثية المناخ، وتخلق مساحات للتعبير والفعل الخلاق، ولو بأشكال معينة، تعبر بدورها - أي الأشكال- عن زمن الصراع بين السؤال الثقافي الذي يحاول تجاوز الوضع، وبين الواقع الذي يسعى بدوره إلى فرض تعليمات خنق الحرية.
- ما هي اللغة التي تفضلينها في الكتابة الروائية؟
* عندما أكتب النص الإبداعي أتركني حرة طليقة مع اللغة. لا أختارها، ولا أحدد مسارها، إنما تأتيني اللغة كما تأتيني الحالة الإبداعية. غير أن كثيرا من الدراسات، التي كتبت حول نصوصي، تجعل لغتي عبارة عن مزيج من السردي والشعري والسخرية والواقعية، إضافة إلى الرومانسية. في النهاية نجد أن لغتنا هي صوتنا، وصوتنا هو رؤيتنا للأشياء. اللغة ليست قالبا نملأه بما نشاء. اللغة هي تعبير وموقف وحالة كيان. لهذا عندما أقرأ ما أكتبه، أو أقرأ ما يكتب حول نصوصي، أكتشف كياني ومعنى وجودي من شكل لغتي، التي أبني بها عوالمي الحكائية.
الإبداع هو اللغة، ولهذا تتطلب اللغة  منا الاشتغال عليها، ليس أثناء الكتابة فحسب، وإنما عملية الاشتغال يجب أن تكون مستمرة، بدون انقطاع، عبر القراءات المتعددة والمختلفة للنصوص والخطابات والحقول المعرفية. لأن في امتلاك ناصية اللغة يكون المبدع حرا، بإمكانه أن ينتقل من خطاب إلى آخر، لأنه لا يعيش إعاقة لغوية. عندما أقرأ النص الإبداعي، أنتظر دائما أن تأخذني اللغة إلى عالم المتعة. لأن اللغة وحدها تستطيع أن تشد انتباهنا، أو تجعلنا خارج اللحظة الإبداعية. لهذا أقول دائما: من حق القارئ علينا أن نمنحه لغة ممتعة، وهادفة، جماليا ومعرفيا. امتلاك حرية التحرك في مساحة اللغة، تعد نعمة لمن يمتلكها ويستوعبها.   
- كناقدة، كيف تتعاملين مع نص إبداعي ما؟
* لأني أنطلق من كون النقد مسؤولية حضارية ومعرفية بامتياز، فإن علاقتي مع النص تنطلق من شرط المسؤولية، والتي أفهمها في عدم العبث بالنص، أو الاستهانة به، أو التعامل معه بفوضى القراءة، التي أعني بها القراءة الانطباعية التي لا تستند إلى المنهج والرؤية الواضحة.
أقرأ النص في البداية، وأبحث عن لحظة المتعة فيه. أفترض أن كل نص يتوفر على جوانب من المتعة، والبعد الجمالي، الذي يخلق لدينا قدرا مهما من التواصل معه. ثم أبحث عن الملفت للنظر فيه، أو العنصر المهيمن، أو المدهش، وذلك باعتماد ذاكرتي النصية من جهة، والتي تتمثل في النصوص الإبداعية التي قرأتها، واحتفظت بها ذاكرتي المقروئية، ومن جهة ثانية: مرجعيتي النظرية، التي تحدد ثقافتي النظرية النقدية، والتي تمثلها مجموعة من الخطابات، بما فيها نظرية الأدب، ونظرية المناهج الأدبية، والفلسفة، وعلم الجمال، ونظرية النقد، بشكل عام، إضافة إلى تشغيل حواسي، لأن النص الإبداعي مثل الإنسان، من أجل الاقتراب منه لابد أن نشغل حواسنا، وثقافتنا، ومرونة تواصلنا، من أجل البحث عن المدخل القريب من روحه.
أصغي إلى النص كما أصغي إلى الإنسان. وأمنح النص اهتماما من الإصغاء . لأن كل شيء داخل النص يتكلم، ويتلفظ. وأدع النص هو الذي يختار منهج التعامل معه، وطريقة تحليله، وكلما كنت أتوفر على خلفية ثقافية نقدية، من المناهج والإجراءات والرؤى التحليلية النقدية، كلما اقتربت أنا والنص من المدخل القريب من روحه. غير أني حريصة  على أن أجعل النص هو الذي يفجر قدراته وإمكانيته، دون أن ألزمه بشروط النظريات، التي لا أتعامل معها وبها إلا على أساس أنها أدوات وطرق تمدني بالضوء الأول لبداية الكشف والاكتشاف، ولكني لا أدعها تقول النص وتقوله، إنما النص هو الذي ينتج حالته المعرفية، مما قد يغير اتجاه النظرية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق