الدراسات العليا في العراق اليوم؛ وخصوصا تلك التي تتم خارج العراق وعلى نفقة الدولة بحاجة الى وقفة تأمل شجاعة يتم من خلالها التبصر بحقيقة الامر وواقع الحال العراقي، وما نرجوه من مستقبل لبلدنا لكي يتم وضع اسس سليمة تنهض بالتعليم العالي فعلا لخدمة الاقتصاد المحلي وليس لخلق بطالة مقنعة ذات كلفة كبيرة على ميزانية البلد.
فتكلفة ارسال البعثات الى الخارج يجب ان تكون وفق خطة تنموية واستراتيجية تهدف الى الحصول على خبرات علمية تكنولوجية عالية توظف بشكل صحيح لكي تدعم عملية النهوض بالتكنولوجيا العراقية والقطاع الصناعي والنفطي والخدمي والزراعي، إذ لا وجود حقيقي لقاعدة تكنولوجية صناعية انتاجية في العراق لاستيعاب الكفاءات والخبرات العلمية والتقنية العراقية،كما ان التعليم العالي العراقي منذ سنوات يخرّج عشرات الآلاف من الطلبة الذين يسعون للحصول على وظائف حكومية وغالبيتهم يمثلون بطالة مقنعة ولا يتم الاستفادة من تعليمهم في دعم الاقتصاد العراقي.
الملاحظ أنه بعد عام 2003 حصل سباق لنيل الشهادات الجامعية والشهادات العليا لغرض الحصول على الوظائف الحكومية، او بهدف تحقيق مكاسب وظيفية على مستوى الراتب والترفيع دون تقديم خدمات افضل للقطاع الحكومي! كما ان الكثير من الانتهازيين اصبحوا اليوم يبحثوا عن الشهادات الجامعية لغرض التسلق والحصول على المناصب!.
اعتقد أن التقييم العلمي والبحث العلمي ضعيف جدا محليا لانه لا يخدم اقتصاد البلد، وما لا يخدم الاقتصاد سيصعب تقييمه؛ كما ان البحث العلمي لا يخدم الصناعة المحلية فانه سيبقى ضعيفا واشبه بالكذبة او الكلمات الرنانة التي يتم ترديدها هنا وهناك بدون فائدة، مثل اعضاء الجسد ما لايستخدم منها يؤدي إلى الضعف والضمور تدريجيا ويصبح بلا فائدة ويفقد قدرته على انجاز وظيفته التي خلق لأجلها، وهذا هو حال البحث العلمي والإبداع في العراق اليوم؛ فهو في تناقص ويقل تدريجيا بل يكاد يكون معدوما اذ انتفت الحاجة له، وكما يقال: (الحاجة ام الاختراع)، وفي بلدنا اليوم لسنا بحاجة الى الاختراع فان ما يتم استيراده اقل كلفة واكثر جودة مما يمكن انتاجه محليا! كما ان اي مشكلة وحاجة تكنولوجية لا يتم البحث عن حلها في مؤسسات البحث العلمي المحلي وذلك لضعف التكنولوجيا الصناعية وعادة ما يتم سد النقص والعوز باستيراد ما يحتاجه البلد من الخارج؛ وهذا بدوره ادى الى حصول ضعف كبير في التقييم العلمي محليا.. اذا يجب ان تكون هناك دراسات حقيقية لغرض وضع اسس صحيحة للنهوض باقتصاد البلد ووضع اسس وشروط تقييم صحيحة للبحث العلمي، ويجب ان لا تمنح براءة اختراع ولا تمنح جائزة علمية لاحد ما لم توظف انجازاته في خدمة اقتصاد البلد بشكل فعلي او يتم الاستفاد منها عالميا او يتم التعاقد عليها مع شركات عالمية، كما يجب تفعيل دور المؤسسات البحثية بالاتفاق والتعاون مع المؤسسات البحثية والعلمية والشركات الصناعية العالمية لغرض دعم البحث العلمي داخل العراق وجعله فعالا ومواكبا لما يجري في العالم ومؤسساته العلمية والصناعية.
الدراسات العليا العراقية عادة ما تكون محصلتها الحصول على تدريسيين اكاديمين فقط، ويلاحظ هنا وهناك محليا الكثير من الكلام حول التكنولوجيا والدراسة والبحث المحلي بدون حاجة تطبيقية فعلية لذلك محليا، ان البلد اليوم بحاجة ماسة لتوفير فرص العمل في المؤسسات الانتاجية وخصوصا الصناعية والنفطية والزراعية لذا يجب الاهتمام بالتطبيقات الصناعية والتكنولوجية.
كان العراق في زمن النظام البائد يمتلك خبرات صناعية وتكنولوجية كبيرة في مؤسسة الطاقة الذرية وشركات التصنيع العسكري المنحلة؛ ولكن للاسف بعد السقوط تم تحويل اغلب كوادر هذه المؤسسات الجبارة الى كادر اكاديمي في الجامعات العراقية واصبحوا اكاديمين فقط لا يعملون على دعم اقتصاد البلد بخبراتهم وامكانياتهم التكنولوجية! كما انهم اصبحوا غير قادرين على بناء مؤسسات تكنولوجية انتاجية في الجامعات العراقية لان الجامعات العراقية لا تمتلك امكانيات صناعية وانتاجية الا بحدود ضيقة جدا، لذلك لكي ينهض التعليم العراقي ويساهم في دعم اقتصاد البلد يجب دعم الكفاءات العلمية في مؤسسات التكنولوجيا والصناعة العراقية، وتفعيل التعاون العلمي الجاد بين هذه المؤسسات مع التعليم العالي، ويجب اعادة فتح مؤسسات التصنيع السابقة وتطويرها لخدمة الصناعة المحلية في انتاج السلع الاستهلاكية للاغراض المدنية وانتاج ما يمكن انتاجه من احتياجات الجيش والشرطة العراقية، ولابد من دعم رواتب موظفي المؤسسات الانتاجية خصوصا الخبراء وحملة الشهادات العليا بما يفوق نظرائهم في مؤسسات التعليم العالي العراقي لكي لا يهرب الخبراء والتكنولوجيين من المؤسسات الصناعية ليبحثوا عن فرص عمل في سلك التدريس، كما ان ذلك سيساهم في استقطاب حملة الشهادات العلمية العليا للعمل في هذه المؤسسات.
التعليم العالي اليوم وصل لحالة التخمة من حيث عدد منتسبيه ومع ذلك نرى البعض اليوم يتباكى على الخبرات العراقية التي هاجرت الى الخارج؛ وهذا التباكي ما هو الا تباكٍ سياسي كاذب يراد منه الاساءة للعصر الديمقراطي الجديد، والحقيقة هي ان العراق اليوم يمتلك من الشهادات العليا ما يمكنه من ادارة اكثر من ضعفي الجامعات العراقية الموجودة حاليا (باستثناء الكليات الطبية) بينما الجامعات العراقية عوزها الحقيقي يتركز في عدم توفر المستلزمات والاجهزة والمختبرات الحديثة، يتحدث البعض وكأن العراق معوق بدون الخبرات التي فضلت الهجرة على البقاء في العراق، بينما الحقيقة ان العراق بحاجة حقيقية الى قاعدة صناعية وتكنولوجية حديثة يتم من خلالها تطوير التعليم العالي وتوفير فرص عمل للخريجين في المجالات الانتاجية، وللاسف القاعدة الصناعية لمؤسسات الدولة والقطاع الخاص لازالت هزيلة ولا تقوى على دعم اقتصاد البلد وتوفير فرص عمل حقيقية، ان تطوير التعليم العالي لا يتم بزيادة حملة الشهادات العليا فيه حتى لو كانت هذه الشهادات من ارصن الجامعات العالمية؛ وانما تطوير التعليم العاليم محكوم بتطور القاعدة التكنولوجية في البلد، لذلك لكي يتم تطوير التعليم العالي والبحث العلمي يجب ان يكون هناك تطوير وتوسع في التكنولوجيا الصناعية والبحثية في الوزارات الانتاجية مثل الصناعة والمعادن والعلوم والتكنولوجيا والنفط والاتصالات وغيرها من الوزارات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق