الخاصية الأساسية للسياسة الأميركية تجاه مصر في الفترة الحالية ليست رضا واشنطن عن المجلس العسكري أو عن الرئيس المصري الجديد محمد مرسي وجماعته (الأخوان المسلمين)، ولكنها سعي واشنطن لبناء علاقتها مع القاهرة على أسس جديدة، فماذا ستفعل القاهرة!؟.
واشنطن متفقة ومنقسمة في آن واحد؛ فهي متفقة على أن المرحلة السابقة من العلاقات المصرية الأميركية ولت، فمبارك اختفى ولن يعود، ونظامه يصارع من أجل البقاء ولن يعود كما كان، وهذا يعني أن عليها أن تنفض عن سياستها وعقولها الاستراتيجية الغبار وتبحث عن سياسات جديدة.
بمعنى أن عليها أن تدرس الفاعلين المصريين الجدد والبيئة المصرية والموارد الأميركية جيدا وأن تعيد صياغة سياساتها تجاه مصر.
فواشنطن تدرك على سبيل المثال – وكما تشير تقارير عديدة - أن علاقة مصر السابقة مع إسرائيل انتهت وأنه يصعب الاعتماد على دور مصر كوسيط بين الإسرائيليين والفلسطينيين كما كانت تفعل في عهد مبارك، كما تدرك أن زمن استخدام النظام المصري في الضغط على حماس قد ولى، وأن مصر الجديدة سوف تسعى لبناء علاقات جديدة مع إيران وعلاقات إقليمية أكثر توازنا مع دول الجوار، وسوف تبحث عن توازن إقليمي جديد.
ولكن هذا لا يعني أن واشنطن سعيدة بما يحدث أو تعرف كيف تتعامل معه، فواشنطن كانت تتمنى استمرار الحال على ما هو عليه ضمانا لمصالحها ومصالح حلفائها في الشرق الأوسط، والذين بات عليهم الآن التكيف مع دور مصر الجديد وما سيطرأ عليه من تغيرات وربما مفاجئات – كما يخشى البعض-، كما أن واشنطن غير راضية عن الفاعلين الجدد بمصر، وتكاد تكون منقسمة على نفسها.
فاليمين الأميركي والمحافظون يدعمون المجلس العسكري في مصر لأنهم يرون في سياسته استمرارية لسياسات عصر مبارك، والمجلس العسكري والمخابرات العسكرية المصرية هم الآن من يحافظون على التواصل السياسي مع المسئولين الإسرائيليين والتنسيق الأمني معهم بخصوص سيناء وغيرها من القضايا الأمنية الهامة بين الطرفين.
ويرى هؤلاء أو الصقور منهم أن أميركا أخطأت أصلا بالتخلي عن مبارك، وأخطأت بعدم دعم القوى العلمانية، وأخطأت أيضا بترك الإخوان والسلفيين يصعدون سياسيا في مصر، وأميركا تقف متفرجة كما يرى هؤلاء، لذا يرفضون أي ضغوط إضافية قد تمارسها الإدارة الأميركية على بقايا نظام مبارك في مصر والمحافظين على تلك البقايا.
أما الديمقراطيون فبعضهم يدعم التحول الديمقراطي في مصر، ويرى أن على أميركا الوقوف بجانب الجماعات السياسية الجديدة في مصر رغبة في نقل السلطة إلى المدنيين وتحقيق استقرار جديد في القاهرة والشرق الأوسط، وكان يتمنى هؤلاء أن تكون القوى العلمانية والليبرالية في مصر أقوى وأكثر تنظيما لأنهم حلفاء أيدلوجيين طبيعيين لهم، ولكن العلمانيين المصريين أضعف من اللازم ويصعب التعويل عليهم، لذا لا يجد الديمقراطيون الآن بديلا عن التعاون مع الإخوان المسلمين.
هذا يعني أن واشنطن في مرحلة بحث عن حلفاء جدد في مصر وسياسات جديدة وأن هذه المرحلة قد بدأت ولن تنتهي قريبا وستعيش السياسة الأميركية تجاه مصر فترة تحول ممتدة على المدى المنظور، وقد تطغى على هذه المرحلة الملامح التالية:
أولا- سعي واشنطن للتواصل مع مختلف الفاعلين المصريين وبناء علاقات معهم ودراسة الوضع المصري جيدا، وسيشتد الصراع داخل واشنطن على تشكيل صورة القوى السياسية الجديدة أو تشويهها أمام الرأي العام وصانع القرار الأميركي، فهناك قوى سوف تسعى إلى شيطنة الإخوان في واشنطن، كما يفعل لوبي الإسلاموفوبيا واليمين المتشدد حاليا، وهناك قوى أخرى سوف تسعى لتشويه كل ما هو مصري بهدف الضغط على موقف صانع القرار الأميركي بخصوص كل ما يتعلق بمصر.
ثانيا- ستحرص واشنطن والمؤسسة الرسمية على بناء علاقات متوازنة مع أكبر فاعلين سياسيين في مصر حاليا وهما المجلس العسكري وجماعة الإخوان المسلمين وحزبها؛ والرئيس مرسي.
ثالثا- سوف تستمر واشنطن في تواصلها مع مختلف القوى السياسية خاصة الشباب والقوى العلمانية، ولكن بتعويل سياسي أقل.
رابعا- سوف يظهر عصر المشروطية الأميركية على المساعدات المقدمة لمصر، فالواضح أن الجدل القائم في واشنطن حاليا بخصوص العلاقات مع مصر يتجه نحو وضع مزيد من الشروط على المساعدات الاقتصادية والعسكرية المقدمة لمصر للأسباب التي شرحناها سابقا، فواشنطن ترى أن الفاعلين الرئيسيين في مصر هم فاعلون جدد يمكن تشكيل مواقفهم، وأنها غير راضية عن أي منهم بشكل كامل، وأنه يجب عليها أن تأخذ زمام المبادرة في صياغة علاقات جديدة.
وتتحدث وسائل إعلام أميركية كثيرة عن الضغوط التي تعرضت لها الإدارة بسبب إفراجها عن المساعدات العسكرية لمصر في شهر مارس الماضي بعد أن هدد الأميركيون بوقف هذه المساعدات بسبب أزمة المنظمات الأجنبية.
ويرصد أحدث تقارير خدمة أبحاث الكونجرس عن العلاقات المصرية الأميركية والصادر في الحادي والعشرين من شهر يونيو الماضي قائمة طويلة من الشروط التي يريد أن يضعها أعضاء الكونجرس على المساعدات المقدمة لمصر، وهي شروط ترتبط بأجندة أميركا في مصر وعلى رأسها حماية أمن إسرائيل واتفاقية كامب دايفيد والحدود المصرية الإسرائيلية، ثم قضايا الديمقراطية مثل حقوق الإنسان والمجتمع المدني وحقوق الأقباط والتحول الديمقراطي في مصر.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو كيف ينبغي أن تتصرف مصر، وأعتقد أن أمام مصر خياران، أولهما العزلة وثانيها الرد باستراتجية انفتاحية جديدة.
ولا يخفى على أحد أن أداء مجلس الشعب المصري خلال عمره القصير لم يرتق لمستوى التوقعات، خاصة فيما يتعلق بتصريحات بعض أعضائه المعادية لأميركا والغرب بدون أجندة واضحة أو نقاش كاف لأهمية العلاقة مع أميركا وسبل إعادة بنائها، خاصة أنها علاقة مركبة تؤثر ليس فقط على عتاد وتسليح الجيش المصري وعلى سياسات مصر الإقليمية والدولية، ولكن على الاقتصاد المصري بسبب تأثير واشنطن على المؤسسات الدولية المانحة وحركات الاستثمار الدولية.
ونحن هنا لا نحاول إلقاء اللوم على تجربة مجلس الشعب المصري قصيرة العمر، فلها مزايا ولها عيوب بعضها خارج عن إرادتها.
كما لا نريد أيضا التقليل من أهمية بعض الجهود التي قامت بها الأحزاب الرئيسية كحزب الحرية والعدالة في بعث مبعوثين وسفراء إلى واشنطن للحديث مع المؤسسات الرسمية والشعبية على حد سواء، وهي جهود هامة وإيجابية.
لذا أعتقد أن مصر بقيادة محمد مرسي في حاجة للرد على دبلوماسية المشروطية الأميركية النشطة الجديدة بدبلوماسية نشطة تقوم على ما يلي:
أولا-الانفتاح الدبلوماسي على واشنطن من خلال دبلوماسية شعبية وإعلامية تبني تحالفات جديدة وقوية مع مختلف الفاعلين السياسيين في واشنطن، وخاصة في الأوساط المتعاطفة مع مصر تقليديا مثل لوبيات السلام والمصريين والعرب في أميركا والقوى الليبرالية والداعمة للديمقراطية.
وتحتاج مصر إلى خطة علاقات عامة جيدة للتعامل مع الإعلام الأميركي وخاصة لمواجهة لوبي الإسلاموفوبيا والمحافظين واليمين الأميركي المتشدد وجهوده المستمرة لتشويه صورة الرئيس المصري وحزبه والأحزاب المصرية الجديدة ووضع ضغط على صناع القرار الأميركي في كل ما يتعلق بمصر والمصريين.
ثانيا-التركيز على البعد الاقتصادي في العلاقات بين البلدين، فواشنطن تدرك أنها ركزت بشكل مبالغ فيه على المساعدات الأمنية والعسكرية لمصر، وأن عليها أن تنفتح على المجتمع المصري بمساعدات تعليمية واقتصادية وربما تكنولوجية، ويجب أن تستفيد مصر من ذلك في صورة مساعدات واستثمارات أميركية ودولية.
ثالثا-الحفاظ على المساعدات العسكرية الأميركية لمصر والتي باتت تمثل ركيزة هامة لتسليح الجيش المصري والذي يعتمد على التسليح الأميركي بشكل رئيسي منذ عقود، ومن ثم ليس هناك معنى لإحداث تغيير مفاجئ في ذلك الجانب من العلاقة بما يضر بمصالح الجيش المصري خاصة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي تمر بها مصر والتي قد تؤدي لتراجع ميزانية الدفاع المصرية من 4.5 مليار دولار أميركي في عام 2011 إلى 4.1 مليار في عام 2012 كما يشير أحد التقارير الدولية، وهي عموما ميزانية منخفضة مقارنة بالدول المحيطة وتأتي بعد دول مثل السعودية وتركيا وإسرائيل والإمارات وإيران.
رابعا-ملف العلاقات مع إسرائيل هو الملف الأكثر تأثيرا على علاقة مصر مع واشنطن ويجب أن يخضع لنقاش جدي في دوائر صنع القرار بالرئاسة المصرية لضمان الوصول إلى حلول مبتكرة وجادة في كيفية التعامل معه حتى لا تقع مصر في أخطاء كالإهمال أو التجزئة والتلفيق أو غياب إستراتيجية واضحة متفق عليها وفاعلة، ولهذا أعتقد أن على مصر أن تبادر بدبلوماسية نشطة في واشنطن لبناء رأي عام أميركي مساند لمصر في ظل التغييرات القادمة على سياساتها الإقليمية.
خامسا-نجاح مصر في اتباع سياسات إقليمية متوازنة قائمة على الاحترام المتبادل سوف يمثل الأساس لانطلاق دبلوماسيتها الدولية.
ولا ننسى أن نؤكد في النهاية على خطر وخطأ العزلة على سياسة مصر تجاه واشنطن أو مواجهة المشروطية الأميركية الجديدة بسياسات مواجهة وصراع، فعلينا أن ندرك أن الفترة الحالية فترة تحول وأن كل طرف يبحث عن مصالحه ويغلفها إعلاميا ودبلوماسيا في أحسن صورة، وهو ما ينبغي عليها فعله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق