د. سعد سعيد الديوه جي
في الوقت الذي تعتبر هذه الورقة رؤية واقعية مستمدة من وقائع تاريخية تم الكشف عن كثير منها في كتاب "حلف المصالح المشتركة" الذي ألفه (تريتا بارزي) خبير السياسة الخارجية الأميركية، عن العلاقة المعقدة بين إسرائيل وإيران وأميركا بعد الحرب العالمية الثانية، ولعبة المصالح المعقدة في منطقة تعتبر من أكثر المناطق سخونة في العالم، وكيف أدت هذه اللعبة إلى الإطاحة بالشاه وخذلان الولايات المتحدة له.
فالطبيعة الحقيقية للتوترات التي يعيشها المثلث الإيراني الإسرائيلي الأميركي اليوم، هي توترات على مصالح إقليمية لا علاقة لها بالاختلافات الإيديولوجية، وأن التلاعب الإيديولوجي ليس إلا غطاءاً للهيمنة على الشرق الأوسط، بدأه شاه إيران ودفع ثمنه غالياً، عندما لم يفهم أصول اللعبة السياسية بصورة جيدة، رغم ما يعرف عنه ببعض المصادر بأنه كان ذكياً، ولكن جنون العظمة والانغماس في الغطرسة، وعدم إدراكه الحقيقي لمغزى لعبة الدمى، والذين يسميهم (نعوم تشوسكي) "بالقره قوزات" أي الدمى التي تتحرك بالخيوط، قد طغى على ذلك الذكاء.
هذه الظاهرة لا زالت تعصف بالشرق عموماً، فمعظم عقليات حكام الشرق لم ترتفع إلى مستوى فهم التوازنات الاستراتيجية ناهيك عن الضغط المفرط على شعوبهم والاستهتار بمشاعرهم لإرضاء الأسياد، والذين لا يرضيهم شيء أبداً غير مصالحهم.
ولذلك فعند ارتكاب أي خطأ، نرى أن خيوط هذه القره قوزات يتم قطعها إلى غير رجعة ولا يوجد داع لذكر الأمثلة فهي كثيرة.
إن التعامل مع الدول الكبرى يحتاج إلى حذر ومهارة وقراءة متأنية لواقع صعب، لا تحله الشعارات ولا الهتافات ولا شراء الذمم ولا تزوير التاريخ ولا الاستعراضات العسكرية بأسلحة مستوردة!.
بدأ الشاه بحكم إيران بعد أن أقصى الحلفاء والده رضا بهلوي عام 1941م وهو ضابط صغير مغامر وصل للسلطة بعد إقصاء سلالة قاجار الحاكمة عام 1921م، عندما رأوا فيه ميلاً للتعاون مع دول المحور (ألمانيا وإيطاليا واليابان)، ونصّبوا ابنه محمد رضا عام 1941م، وكان عمره اثنان وعشرون عاماً، لتصبح إيران مرتعاً لقوات الحلفاء وجسراً يتم من خلاله تزويد الاتحاد السوفيتي آنذاك بالأسلحة والوقود، بالإضافة للحفاظ على منابع النفط في الأهواز والتي كانت هدفاً استراتيجياً للألمان.
وفي عام 1943م تم عقد مؤتمر طهران حول رسم خارطة العالم الجديد بين (روزفلت) و(تشرسل) و(ستالين) بعد أن بدت علائم اندحار ألمانيا، والشاه يراقب ذلك بلا حول ولا قوة، وقد تغيرت خارطة العالم والشرق ونشأت فيه دولة إسرائيل المختلفة أثنياً ودينياً عن محيطها عام 1948.
أطاح مصدق بالشاه عام 1952م كما هو معلوم؛ ثم تم إرجاعه من قبل التحالف الغربي وحوكم مصدق وسجن، ولتزداد أحلام الشاه الإمبراطورية، حيث ظن أن الغرب لن يتخلى عنه أبداً.
إذاً فالشاه لم يكن إلا دمية لها حدود يجب أن تفهمها عند تحركها سياسياً، وهذا ما لم يفهمه مع تنامي قوة إيران بسبب زيادة عائدات النفط، وظهور قوة إقليمية لم تكن موجودة عندما تم تنصيبه ألا وهي إسرائيل.
ورغم أن نظام الشاه وإسرائيل كانا صناعة غربية بامتياز، إلا أن الاثنين كانت تجمعهما التبعية الغربية وتفرقهما المصالح الإقليمية، وأحلام الماضي التليد، فإسرائيل تحلم بدولة بين النيل والفرات، والشاه يحلم بإرجاع إمبراطورية كورش الذي حرر اليهود المسبيين في بابل عام 539ق.م !، وبين الحلمين تقاطعات يجب أن تأخذ أبعادها على منطقة معظم سكانها من العرب.
لاحظ العالم كله والإسرائيليون ما كان يعانيه الشاه من جنون العظمة هو والحاشية التي تسانده، حيث يقول (غلام رضا أفخامي) المستشار السابق لدى الشاه "لا يمكن لأحد أن يصارع قوة إيران أو ثقافة إيران أو تاريخ إيران، ومن المهم أن ندرك ذلك لكي نفهم لماذا فعل الشاه ما فعل، ولنفهم أيضاً لماذا قال كل شخص آخر في العالم أنه كان متعجرفاً"!.
وبقي الشاه على هذا الاعتقاد إلى حين مماته في المنفى حينما كتب في مذكراته (Answer to history) بأن إيران هي الدولة الوحيدة القادرة على المحافظة على السلم والاستقرار في الشرق الأوسط.
ولا زال العالم يتذكر تلك الإحتفالات الجنونية التي أقامها الشاه عام 1971م بمناسبة مرور 2500 عام على تأسيس مملكة كورش، وذلك الصرف الباذخ، حتى ان خطاً من الطائرات تم فتحه بين مطعم مكسيم في باريس والمنتجع الذي أقامه للمدعوين من ملوك ورؤساء؛ في الوقت الذي كان يعيش فيه مليون شخص في بيوت الصفيح حول طهران، ولكنه لم يدع الإسرائيليين أو أي شخص يمثلهم لتلك الاحتفالات!.
لقد طغت هذه العقلية مع ما كان الشاه قد أدركه سابقاً من وقوفه بالنسبة للموقفين الأمريكي والإسرائيلي، موقف الحذر المترقب، وزادت غطرسته بعد الهزيمة العربية عام 1967م، حتى انه لم يتردد بوصف العراق وهو جاره الأزلي "بالقزم البائس الصغير"، مع العلم أنه قد ثبت لاحقاً أنه كان في سباق تسلح مع العراق.
فشاه إيران لم يصوت على قرار تقسيم فلسطين عام 1947م ولم يعترف بإسرائيل (رسمياً) طول مدة حكمه التي بلغت سبع وثلاثون عاماً، في حين اعترفت بذلك حكومة مصدق كأمر واقع وليس قانونياً، وهذه من أعاجيب السياسية الإيرانية آنذاك!.
من هذه المعطيات فإن العلاقات الإسرائيلية الإيرانية آنذاك ظلت في نظر أغلب المحللين السياسيين لغزاً غامضاً بالرغم من ارتباط البلدين بالولايات المتحدة إرتباطاً مصيرياً.
لقد كانت سياسة الشاه بمجملها تتأرجح بين العداء المكشوف والتحالف المكشوف مع إسرائيل، وقد تعامل مع الأمر حسبما اعتقد هو بمهاره، ناسياً أن لإسرائيل مكانة خاصة في السياسة الأمريكية، تعد من الظواهر التاريخية النادرة، ولذلك فقد اعتقد الشاه طوال عقد السبعينات من القرن الماضي بأنه قد نجح في ألعابه البهلوانية الدبلوماسية القائمة على المحافظة على تحالف جيوسياسي مع دولة لم يمنحها إعترافاً رسمياً صريحاً، فقد سمح بتواجد إسرائيلي كبير في طهران بدون رفع العلم الإسرائيلي على مقر البعثة الإسرائيلية؛ ولم يسمح لهم بالمشاركة في الإحتفالات الرسمية مع أنهم كانوا أكثر من سفارة! فخيارات إسرائيل الاستراتيجية معقدة جداً خصوصاً من الناحية الديموغرافية، وهي تحسب ألف حساب لمسألة أمنها، وهو هاجسها الأول والأخير في محيط لا تستطيع التأقلم معه مطلقاً، ولذلك فقد تبنى الشاه مبدأ السياسة الثنائية، فأبقى نفسه بعيداً من إسرائيل، معتقداً أنها ستبدل سياساتها وولاءاتها ضمن هذا المنظور، وكان ذلك خطأه الآخر، ونتيجة لموقفه المتأرجح هذا فلم يثق الإسرائيليون به مطلقاً، وأخذ بالتقرب إلى حد ما من العرب.
ويذكر السيد بارزي بأن إسرائيل كانت تدرب ضباط الجيش الإيراني وعملاء الشرطة السرية والطيارين والمظليين، وباعت لإيران أسلحة متطورة، ومع ذلك فقد أبقى الشاه زيارات المسؤولين الإسرائيليين لإيران سراً، وكان المسؤولون الإيرانيون يسافرون إلى إسرائيل عبر تركيا من غير ختم جوازات سفرهم لدى وصولهم لإسرائيل، حتى أن (بن غوريون) رئيس وزراء إسرائيل وصاحب مبدأ إطاحة الدول العربية بقوس الاستنزاف المتمثل بتركيا وإيران وأثيوبيا قد زار طهران سراً عام 1961.
ففي الخمسينات من القرن الماضي كانت تل أبيب تحتاج إلى طهران أكثر مما تحتاج طهران لتل أبيب وذلك ترسيخاً لمبدأ بن غوريون.
اعتقد الشاه أن هذه السياسة أزلية بالنسبة لتل أبيب ولم يدرك أن لعبة المصالح تتبدل بين ليلة وضحاها، وزاد من اعتقاده هذا النمو الاقتصادي لإيران ومداخيل النفط العالية، ومع تغير المعطيات الدولية في عقد الستينات وأهمها استيلاء إسرائيل على القدس والجولان وسيناء، وازدياد ثروة إيران، فقد تغيرت قناعات الشاه وجعلته أكثر استعداداً للعب دور إقليمي كبير يعادل الدور الإسرائيلي أو يتفوق عليه كما تخيل ذلك، ولذلك فقد صرح وزير بلاطه في بداية السبعينات من القرن الماضي "بأن إيران مهيأة لتولي القيادة لا في الخليج وحده وإنما في الشرق الأوسط والعالم المنتج للنفط"!.
وكانت تلك غطرسة لا معنى لها لان أمريكا لم تنظر إلى الشاه إلا كشرطي يأتمر بأمرها ويخدم مصالحها وشجعته على زيادة نفقاته العسكرية من 6.1 مليار دولار عام 1973م إلى 12.4 مليار دولار عام 1974 لتبلغ 18 مليار دولار عام 1976م.
لقد كانت واشنطن على علم تام بنفسية الشاه وعقليته وكل العقليات المشابهة له، ولذلك فهي تغدق عليهم السلاح كالسيل الجارف ثم تسد الباب، ليتحول ذلك السلاح الى خردوات لا نفع منها بعد حين.
بجانب هذه السياسة وعدم فهم مبدأ توازن القوى في كافة المجالات، والاعتقاد بأن السلاح المستورد هو الفيصل لبروز أي دولة على سطح الأحداث، وفي نفس الوقت السير باتجاه التغريب الذي أوقع المجتمع الإيراني ذي الخصوصية الثقافية المتميزة في مشكلة البحث عن هوية جديدة كان أهم سماتها القلق وعدم الاستقرار.
إن تطابق المصالح الإيرانية الإسرائيلية في خمسينات وستينات القرن الماضي والذي أملته لعبة المصالح تحت مظلة الغرب الكبرى، لم يحافظ عليه الشاه واعتقد أن تلك المصالح بدأت تصطدم بأحلامه في السبعينات، مما أدى بأحد المسؤولين الإسرائيليين لأن يصرح "كانت تلك غلطة الشاه الكبيرة، كان مجنوناً، كان أخرق".
بدأت كل من إسرائيل وكذلك الولايات المتحدة تفقدان ثقتهما التدريجية بالشاه، خصوصاً بعدما بدأ يغازل الدول العربية ويعقد الاتفاقات معها فدفع عام 1974 850 مليون دولار لمصر و 7.4 مليون دولار للأردن و 30 مليون دولار للمغرب و 150 مليون دولار لسورية.
هذه الازدواجية الخفية في تصرفاته أكسبته كراهية العرب والمسلمين والإسرائيليين وقطاع كبير من شعبه وهي التي عملت على التعجيل بإزاحته والتخلص منه عندما بدأ الغرب يشعر بأن الاتحاد السوفيتي آنذاك وبعد احتلال أفغانستان عام 1978 وباتجاهه نحو المياه الدافئة للخليج، قد يجد أعواناً من الحزب الشيوعي الإيراني "توده" ومن مجاهدي خلق من يساعده في مهمته هذه، مما جعل الغرب يفكر جدياً بالتخلص منه قبل استفحال الأمور!.
هذه بعض جوانب قصة سقوط الشاه من زاوية معينة، اعتقد بأنه يلعبها بذكاء، ولكنه كان مخطئاً، فالشعوب المقهورة (المعارضة) لا تهمها المطامع الخارجية بقدر ما تهمها مصالحها الداخلية من جوانب اقتصادية وإنسانية، والغرب دائماً يبقي هذه الورقة في حساباته، فعندما تحين ساعة الطغاة، يظهر نفسه بمظهر المدافع عن الشعوب وحرياتها، ليركب الموجة من جديد.
وأخيراً فإن جنون العظمة وشهوة السلطة، وأحلام الماضي التليد عندما تطغي على تعليم الناس وتربيتهم على حب الوطن والإخلاص له فإنها تصبح كوارث مدمرة تدفع ثمنها الشعوب ومن يقودهم إلى هذه المتاهات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق