د. سعد سعيد الديوه جي
الكثير من المنظرين في مجال الثقافة والرافعين للواء الحداثة لم يُعَّرفوا لنا مفهوم الحداثة الذي يريدونه، إذ يذكروننا بأرقام التخلف التي تجتاح العالم العربي، مثل نسبة الأمية في بلداننا التي تبلغ 40%، وأن ملايين الأطفال لا تسمح ظروفهم للإلتحاق بالمدارس، وأن نسبة الكتاب/ ألفه نسمة هي من النسب المتدنية عالمياً، وأن 90% أو أكثر لا يجيدون إستخدام الانترنيت، إلى آخر تلك القائمة المحزنة التي نقر ونعترف بها وكلها تصب في خانة تعزيز مكانة الأمية وغياب الثقافة بصورة عامة.
ولكن تعالوا لنقرأ بعض الإحصاءات الموثوقة الصادرة عن اكبر دولة في العالم إقتصادياً وعلمياً وعسكرياً، وحسبما جاء في كتاب (زبيغنيو بريجنسكي) المعنون "الفرصة الثانية"، علماً أن السيد بريجنسكي يُعد واحداً من أهم ساسة الولايات المتحدة في أواخر القرن الماضي، وكان مستشاراً للأمن القومي الأمريكي في زمن الرئيس الأسبق كارتر، وهذا الكتاب ليس قديماً، فكل الأرقام التي فيه تعود لزمن حديث، حيث أن صدور الكتاب كان في عام 2007م.
يقول السيد بريجنسكي في ص207 وبالنص: "وقد وجدت دراسة أجرتها الجمعية الجغرافية الوطنية في سنة 2002 أن 85% من الشبان الأمريكيين لا يمكنهم تحديد العراق أو أفغانستان على الخريطة، ولم يستطع 60% منهم العثور على بريطانيا العظمى على الخارطة، ولم يستطع 29% الإشارة إلى المحيط الأطلسي" والجهل الشعبي الذي يسهل تعزيزه بالخوف، يخلق الشروط غير المواتية لأي بحث جدي لما تحتاج أمريكا إلى عمله لكي تلعب دوراً بناءاً في العالم، والتي سماها السيد بريجنسكي "بالجهل الشعبي"، وهي تسمية ذكية وواقعية لأرقى مجتمع صناعي في العالم لا يعرف 60% من خريج جامعاته مكان بريطانيا العظمى على الخريطة، وعليه فما هو شأن باقي الناس الذين لم يدخلوا الجامعات ولم يدرسوا فيها، علماً أن بريطانيا من الوجهة التاريخية هي أم الولايات المتحدة الأمريكية، ومعظم المهاجرين كانوا منها.
وهنا يجب أن نقف قليلاً لنسأل سؤالاً بسيطاً وهو: أين تذهب النسب العالية من التعليم وإختفاء الأمية عندما لا تعرف هذه النخب المتعلمة ما لا يعرفه الأميون في بلادنا؟.
وما هو الفارق بين الفئتين من الناحية الثقافية العامة؟ وما أثر ذلك على مجمل الحياة السياسية والإجتماعية؟ فإذا كان من السهل تخيل مجتمعاتنا بأنها غير مثقفة، فأين أثر التعلم في ثقافة الغرب؟.
والسؤال الأهم لماذا هذا التخلف الثقافي عند النخب المتعلمة سواءاً في أمريكا أو الغرب قاطبة، رغم انتشار الإنترنيت وهو أسهل أداة فعالة لنشر الثقافة؟.
والجواب البسيط والذي يغطي مساحة كبيرة من هذه الأسئلة، هو طغيان ثقافة "الفم والفرج"، والباقي يأتي بمستويات متدنية، ولو قرأنا هذه الإحصاءات البسيطة لأدركنا واقعية الأمر.
وبدل أن يكون الإنترنيت أداة فعالة في نشر الثقافة، فقد أصبح مع الأسف ركناً لنشر الإباحة، فيقول أحد التقارير عن إحدى المدمنات على الجات، بأنها تبدأ حياتها صباحاً بإذاعة وقائع حياتها الخاصة على الإنترنيت من غسل اسنانها في الصباح الى تصوير علاقاتها الحميمية مساءاً!.
فشركات إنتاج المواد الإباحية تربح المليارات سنوياً من جراء نشر الإباحيات على شكل كُتب ومجلات دورية وأفلام ...الخ، ولن تقضي عليها توصيات مؤتمر أو قرار حكومي أو برنامج تقني.
وكمثال على ذلك فإن لوس أنجلس تنتج أكثر من 150000 فلماً إباحياً سنوياً، وأن عدد الصفحات الإباحية على الإنترنيت قد زاد من 260 مليون صفحة في عام 2004م إلى 425 مليون صفحة عام 2007م سنة صدور كتاب السيد بريجنسكي.
وفي عام 2006 بلغت أرباح إنتاج المواد الإباحية في الولايات المتحدة 2,8 مليار دولار من أصل 13,3 مليار دولار هو دخل الولايات المتحدة من تجارة الجنس بكل أشكالها!.
وقد دلت إحصاءات أخرى أن المستخدم العالمي ينفق 3075 دولار كل ثانية على المواد الإباحية، كما وصلت نسبة الملفات التي يتم تحميلها عبر الإنترنيت إلى 35% من جملة ما يتم تحميله!.
ورغم أن الولايات المتحدة تعد مركزاً لأكبر منظمات محاربة الإباحية فإنها تنتج 89% من إجمالي المواد المنتجة على مستوى العالم.
وتفيد إحصاءات المباحث الفيدرالية الأمريكية (FBI) بأن تجارة الدعارة هي ثالث أكبر مصدر للجريمة المنظمة بعد المخدرات والقمار.
وتشير إحصاءات أخرى إلى وجود 150 مجلة إباحية في أمريكا و 900 دار سينما إباحية وأكثر من 15000 مكتبة ومحل فيديو تتاجر بأفلام ومجلات إباحية.
وعليه فكل هذه الأرقام تصب في مجرى الشباب المتعلم مع المواد الداعمة لها كالمخدرات والمسكرات، وهو مجال هش ورخو إلى حد كبير، فتذهب طاقات الشباب لتصب فيه بعد أن أخذ قسطاً وافراً من أشكال التعلم التقني وغيره، ولكن طاقاته الثقافية تكاد تكون معدومة، وهكذا نرى حالة الإنفصام الفعلي بين التعليم وما تعنيه الثقافة التي يحملها الإنسان ليكون اللبنة الأساسية في مجتمع متحضر.
حيث تقول إحصائيات أخرى بأن نصف المراهقين الذين يقل عمرهم عن 18 سنة لا يقرأون وأن 51% بين سن 18-24 لا يقرأون غير كتب الدراسة بينما يتبادلون 100 رسالة على هواتفهم المحمولة في اليوم الواحد، وأن نسبة القراءة في الابتدائية صفر، و30% من طلاب الجامعة يقرأون ساعة واحدة في الاسبوع.
إن هذه الأرقام جعلت نفسية الشباب الغربي متذبذبة بين مستويات علمية وتقنية مرتفعة جداً ومستويات ثقافية محصورة بماديات الجنس، وتم تصوير الأمر من قبل بعض القوى الفاعلة والخفية على أن ذلك هو جزء من الحرية المزعومة أو ما يسمى بحقوق الإنسان، حيث تشير إحدى الإحصاءات بأن 20% من الأمريكيين يعانون من إنهيار عصبي أو على حافته، فأختفى الحياء تماماً وسقط من قاموس المصطلحات ودخلت مصطلحات أخرى كالزواج المثلي والذي يشكل الطامة الكبرى في المسيرة الإنسانية إجمالاً، ذلك أن الأمر لا تمارسه حتى الحيوانات ولكن في العرف الإنساني صار حقاً مشروعاً يتم الدفاع عنه بشتى الوسائل، وانحصر مفهوم السعادة باللذة الجنسية ولا غير، فبلغ عدد نزلاء مستشفيات الأمراض النفسية في الولايات المتحدة يشكل 50% من نسبة إجمالي النزلاء.
لقد وضعوا هذه الممارسات في قالب الحداثة وصوروا الحداثة على أنها التطور نحو الأحسن في كل شيء، وهو تمويه زائف، فالحداثة في العلوم التقنية هي ليست الحداثة في الإنسانيات، فإذا كان كل جديد يعني في خانة الحداثة، فالنازية والصهيونية والفاشية والشيوعية هي من إنتاج الحداثة، وتفكك المجتمعات هو من نتاج الحداثة!.
ففي عام 2009م تم سحب اللقب من ملكة جمال كاليفورنيا "كاري بريكان"، لأنها وصفت نفسها بأنها مسيحية ملتزمة وانتقدت الزواج المثلي وعبرت عن اعتقادها بأن الزواج يجب أن يكون بين رجل وإمرأة، ولم تشفع لها نشر صورها عارية على الإنترنيت لان الأمر صار من الحداثة الماضية التي أكل عليها الزمان وشرب!.
وإذا إنتقلنا إلى بعض البلدان الأوروبية كهولندا فنرى الحداثة الجنسية قد وصلت إلى المدارك السفلى، حيث شارك أفراد من القوات العسكرية الهولندية في عقد قران خمسة أزواج مثليين في صيف عام 2009م، في سابقة من "الحداثة الإجتماعية" على مستوى تاريخ البشرية فوق مستوى الخيال، بحيث تحتفل الجيوش بالزواج المثلي، وماذا يعني هذا الأمر، ومن خطط له وماذا تعني، أسئلة من الصعب أن يجاوب عليها ونحن في مجتمع غير مثقف!.
والحقيقة أن المجتمع المتعلم والغارق في الماديات ينتحر ثقافياً تحت وطأة غريزتي الجنس والرفاهية المفرطة، وقد أنتبه لذلك المرحوم علي عزت بيجوفيتش، فيقول: بأن روما هي النموذج لحضارة قوية محرومة من الثقافة، ولم يبني رأيه هذا من الخيال بل من إحصاءات لفتت انتباهه أواسط سبعينات القرن الماضي.
فحوالي 35% من الفرنسيين لم يقرءوا كتاباً واحداً في حياتهم، وأن 78% من الفرنسيين يجدون أن الوسيلة الثقافية هي التلفزيون، ونفس الأرقام تنطبق على اليابان تقريباً، ومع الإنترنيت فلا شك بأن هذه الأرقام قد إرتفعت كثيراً.
لقد احتجبت روح الإنسان خلف الثقافة الظلامية والإباحية مع الأسف الشديد، وتؤكد إحدى الدراسات أن الطفل الأمريكي يشاهد أكثر من 18 ألف جريمة قتل على التلفزيون قبل أن ينهي دراسته الإعدادية!.
وكذلك فالسويد مثلاً تنفرد بالرقم القياسي في الإنتحار، ومدمني المخدرات والأمراض العقلية، بينما تقف على رأس العالم من حيث الدخل القومي وفي الإلمام بالقراءة والكتابة والعمالة وفي الضمان الإجتماعي، إن هذه الظاهرة تتوازى مع التصنيع والتحضر وانهيار الأسرة وغياب الحياة الروحية!.
ويشير المرحوم بيجوفيتش الى إحدى الزوايا المهمة بالموضوع وبلمحة ذكية، حيث يذكر إحصاءاَ عن حالات الإنتحار في الجامعات البريطانية بأنها أكبر ست مرات عن المتوسط القومي، بينما حالات الإنتحار في جامعة "كمبريدج" وهي واحدة من أشهر وأرقى الجامعات في العالم، فإن هذه النسبة ترتفع الى اكبر عشر مرات من عدد حالات الإنتحار بين الشباب البريطاني من السن نفسه.
وعليه فإذا كانت الأمية قرينة التخلف التقني، ولكنها ليست قرينة التعاسة والتفكك الإجتماعي، وإذا كان غياب الثقافة مقروناً بالتقدم العلمي والتقني وبالحداثة المبنية على ركام هدم الأسرة وغياب للعلاقات الإجتماعية، فإننا أمام مشهدين لا رابط بينهما إلا بمحاربة الأمية، ومحاربة كل ما يهدم العلاقات الأسرية والإجتماعية، عندها يكون للتقدم العلمي والتقني والحداثة المبنية عليه طعم آخر مع ثقافة متوازنة لا تقوم على إشباع الغرائز فقط، ولكن في المنظور القريب لا يبدو أننا أمام مشهد يبشر بمستقبل تنعم فيه البشرية بتقدمها العلمي والتقني، ولكننا أمام حداثة مشوهة تقوم على آلام الناس والمجتمعات وكثرة الحروب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق