تعد محلة الكوازين من المناطق السكنية القديمة في الموصل، وهي المحلة التي توجد فيها بقايا أحد أقدم مساجد الموصل وهو المسجد الأموي الذي لم يتبقّ منه سوى جزء من المئذنة، ويعود سبب تسمية هذه المحلة بهذا الاسم إلى مهنة عدد كبير من سكانها الذين يعملون بصناعة التنور الطيني الشعبي الذي يستخدم في صناعة الخبز الشعبي منذ القدم، مجلة (الحوار) زارت هذا الحي لتطلع على هذه المهنة والعاملين فيها، ففي ظل التطور في صناعة ادوات صناعة الخبز التي يعتمد بعضها على الكهرباء والبعض الآخر على الغاز الطبيعي، ثمة تساؤل يطرح: هل لازال للتنور الطيني الذي يعتمد على الخشب والوقود العضوي رواده؟ هل ثمة من يتمسك بالموروث الشعبي التقليدي في صناعة الخبز رغم انه يكلف الكثير من الجهد والوقت بالقياس إلى الادوات المعاصرة الاسرع والاقل كلفة؟.
في محلة الكوازين يسكن السيد خالد محمد فتحي العبيدي الذي ما يزال يعمل بهذه المهنة التي ورثها عن أبيه الذي ورثها بدوره عن جده، كان لنا معه هذا الحوار..
الحوارـ منذ متى وأنت تعمل بهذه المهنة؟.
-أنا أعمل بهذه المهنة منذ أن كان عمري 6 سنوات، فلقد كنت أساعد والدي (رحمه الله)، وخاصة في العطلة الصيفية، وكذلك تتلمذت بشكل دقيق في فنون هذه الحرفة على يد أخي الكبير أبو سيف الذي تسلم العمل بشكل كامل من والدي في فترة التسعينيات(فترة الحصار)، فكان من الكوازين الذين يعدون على أصابع اليد الواحدة في الموصل، وأنا الآن تسلمت هذه المهنة الجميلة لكي تبقى من خلالي في العائلة، وأنا على استعداد لتسليمها إلى الجيل القادم في العائلة.
الحوارـ هل لك أن تحدثنا عن مراحل العمل في صناعة تنور الطين؟.
-في البداية نأتي بالمادة الأولية ألا وهي الطين الأحمر النقي، وهو موجود في مناطق عديدة خارج المدينة، وتحديدا نحن نحبذ طين منطقة الشلالات لأنه خالٍ من الحجارة وغيرها من الشوائب التي قد تؤثر في جودة التنور فيما بعد.
بعدها نقوم بخلط هذا الطين بالماء والملح ليتم عجنه بالقدمين جيداً، وبعد ذلك نضيف إليه القش(التبن) وهي سيقان سنابل الحنطة والشعير، ويعمل القش عمل حديد التسليح في الإسمنت والكونكريت.
بعد أن تكتمل لدينا العجينة نغطيها ونتركها لليوم التالي لتختمر، بعد ذلك نأخذ قطعة كبيرة من الطين ونقوم بعمل شريط منها لنصنع بعد ذلك من هذا الشريط حلقة تكون أساساً للتنور، وباستخدام آلة حديدية بسيطة نقوم بتنعيم وصقل الأساس، وريثما يتماسك الأساس نقوم بعمل أساسٍ لتنور ثانٍ، بعد ذلك نقوم بصنع أخدود في الأساس لنضع فوقه الشريط الثاني وكذلك نقوم بصقل وتنعيم القطعتين معاً ليتم تماسكهما معاً لتصبحان قطعة واحدة، وهكذا الشريط الثالث ثم شريطاً أخيراً؛ الشريط الرابع وهو خاص بفتحة فم التنور، وبعد ذلك نقوم بعمل فتحة للتنفيس في أسفل التنور ونسميها بـ(الغواج).
كما ونستعمل عيوننا بـ(اللمح) لنراقب أي تحدب أو تقعر على جسم التنور فنعالجه قبل جفاف التنور بواسطة القطعة المعدنية التي أشرت إليها مسبقاً والتي نسميها في مصطلح المهنة بـ(القطاف) وهي قطعة معدنية رقيقة بل وحادة كالشفرة من كلا الجانبين، أحد جانبيها محدب والآخر مستقيم، فالطرف المحدب يستخدم لصقل التنور من الداخل، أما الجانب المستقيم فهو لصقل الخارج؛ وبهذا يكتمل العمل.
الحوارـ هل هناك أنواع من التنور؟.
-هناك نوعان أساسيان من التنور؛ الأول للمخابز التجارية، وهذا التنور يكون كبير الحجم، فقد يترواح قطره بحدود المتر الواحد وارتفاعه بحدود المتر والنصف، وهناك أحجام أخرى أكبر، وذلك يتحدد بحسب الطلب.
أما النوع الثاني، فهو للمنازل وهذا النوع كذلك يكون بأحجام متنوعة تتراوح ارتفاعاتها مابين 60 سنتيمتراً والمتر الواحد، وكما يقال في الموروث الشعبي، (بحسب شطارة المرأة).، أما التنور المستخدم في المدن الشمالية فنحن نصنعه ولكن بشكل خاص وبحسب التوصية لأنه يكون على عكس التنور العادي المستخدم عندنا في الموصل، فهم يدفنون التنور في الأرض، أما في مناطقنا هنا فنحن نبنيه فوق الأرض.
الحوارـ من المعلوم بأن التنور الطيني يتطلب الكثير من الجهد و(المهارة) في العمل، كذلك ينتج عنه الكثير من الدخان المزعج، فكيف ترى الإقبال على التنور الطيني اليوم؟.
-البعض من الناس ما يزالون يحبذون تناول الخبز الحار الخارج من التنور الطيني الذي تخبزه النساء في المنزل، وهذا الحال ليس في المدينة وحسب بل غالبية إنتاجنا من التنانير هي للقرى والأرياف وإنتاجنا للقرى يعود لسبب واحد وهو أن القرويين لا يستطيعون إنتاج التنور بالجودة التي هي عليه معنا وذلك يعود للمهارة التي نتمتع بها في هذه المهنة.
ولذلك فنحن ولله الحمد نصنع التنور الطيني للمنطقة الواقعة مابين أقضية ونواحي جنوب الموصل وحتى مدينة زاخو، لذا ما يزال الإقبال على التنور الطيني موجوداً ولله الحمد.
الحوارـ من هم أشهر الكوازين الموصليين الباقين في العمل حتى الآن؟.
-عُرفت هذه المنطقة بأنها تضم أمهر وأشهر الكوازين الموصليين (صناع التنور الطيني) على مدى مئات السنين؛ أما الذين سمعت عنهم من والدي وشقيقي الأكبر، فَهُم جدي(فتحي) وأنا رأيته في أواخر الستينيات وكان في أيامه الأخيرة شيخا كبيرا أبيض الشعر كان ما يزال يعمل في هذه المهنة بروح الشباب وبخبرة الشيوخ، ومن ثم والدي الذي ورث المهنة عن جدي، ونحن الأخوة عمل خمسٌ منا في هذه المهنة، ولكن وللأسف لم يبقَ سواي أنا وأخي حسام في هذه المهنة محافظين على مهنة العائلة والمنطقة بكاملها، كذلك كانت هناك أسر أخرى اشتهرت بهذه المهنة وهم كل من، آل عباوي وأحمد رش وعلي الشهير بـ (عللاتي)، ولكن كل أولئك لم يستمر أبناؤهم بهذه المهنة، للأسف.
توجهنا بالسؤال إلى الأخ الأكبر للسيد خالد (أبو سيف) وهو من أشهر الكوازين في فترة التسعينيات:
الحوارـ ما العدد الذي يستطيع الكواز الماهر إنتاجه من التنانير في اليوم الواحد؟.
-في فترة الحصار (التسعينيات)، أذكر أنني ذات يومٍ أنجزت بناء أكثر من عشرين تنوراً في يوم واحد، وذلك بسبب الطلب المتزايد على التنور آنذاك، وبحسب مهارة الكواز يكون الإنجاز، وبصراحة، (كذلك بحسب المزاج الذي يكون عليه الإنسان) يكون الإنتاج جيدا وكبيرا كذلك. هناك من كان ينتج عشرة تنانير وأكثر، ولكن الرقم الذي بلغته من حيث العدد والجودة معا أكاد أكون صاحب الرقم الذي لا ينافسني فيه أحد.
عدنا ثانية إلى السيد خالد لنتم معه الحديث حول الموضوع.
الحوارـ هل واجهتك أية مواقف لا تنسى في عملك؟.
-هناك موقفان لا يمكنني نسيانهما، الأول كان في فترة الحصار على العراق في فترة التسعينيات حين جاءنا ذات يوم رجل يعرض علينا تبديل تنور معدني كان معه بآخر طيني من عندنا وذلك بسبب سأمه من خبز التنور المعدني وحنينه لخبز التنور الطيني؛ والثاني (وهو مضحك) حيث كنـّا معتادين على الذهاب للنهر ظهيرة كل يوم، وفي ظهيرة أحد الأيام جاء أحد أصدقائي ليستعجلني في العمل كي نذهب للنهر، ولكنني كنت مشغولاً بتنور أعمله فقام يساعدني بسرعة، ومن فرط عجلته قام بفتح (غواج) لهذا التنور ولم ينتبه إلى أنني عملت قبله الـ(الغواج) فصار لدينا تنور بـ (غواجين) اثنين، فتعالت هنا ضحكاتنا مما حدث، فقمنا بإصلاح الخلل ما أخرّنا في النزول إلى النهر أكثر مما لو أنجزت التنور لوحدي.
تركنا السيد خالد مع تنانيره بعد ذاك الحديث الشيق، لنرى حال التنور في المخابز، فتوجهنا إلى أحد المخابز فالتقينا بالخباز محمد.
الحوارـ كيف تتعاملون مع التنور منذ البداية؟.
-في البداية يتم بناء التنور بشكل مائل إلى الأمام قليلاً ليتسنى لنا العمل عليه، ومن بعد ذلك نقوم بفخر التنور من خلال إيقاد النار فيه لفترة مناسبة ليكتسب التصلب المناسب، وبعد ذلك يكون جاهزاً لإنتاج الخبز الشهي.
الحوارـ بوجود أفران أوتوماتيكية ومتطورة، كيف ترى إقبال الناس على الخبز المنتج بالتنور الطيني؟.
-مهما يحدث من تطور، ومهما تأتي به الصناعة من أفران أوتوماتيكية وغازية وليزرية حتى، فإن الكثير من الناس ما زالوا يتلذذون بهذا الخبز ولن يبدلوا به غيره؛ هذا غير الخبز الذي ينتج في البيوت، وكذلك فإن بعض الأسر الموصلية ما تزال تخبز الـ(الكليجة) في التنور، كذلك بعض الأكلات الأخرى مثل الـ(العروق) والـ(البرمة)، وغيرها.
الحوارـ هل هناك من مخاطر تواجهكم في هذا العمل؟.
- بالطبع لا يوجد عمل خالٍ من الخطورة إذا لم يتم إتخاذ الأساليب السليمة في العمل، فتعاملنا هو مع النار، وكفى بها خطراً، ولكننا مع ذلك نستمتع بالعمل لأننا نشعر بأننا نخدم الناس في لقمة العيش.
أخيرا؛ فإن منظر أرغفة الخبز وهي تنتفخ في التنور لتخرج ساخنة بعد ذلك يبين لنا مدى الجهد الكبير المبذول من قبل الآخرين كي نحصل على رغيف الخبز الذي نتناوله كل يوم، فالكواز الذي يصنع التنور، والخباز في المخبز، والأم في البيت، كل تلك الجهود المتضافرة والتي تعمل على توفير لقمة الخبز الشهي، تعمل في الوقت ذاته على الحفاظ على الموروث الشعبي الموصلي في جانب مهم من جوانبه الكثيرة والعديدة، إذ أن الحفاظ على الموروث الشعبي واجب الجميع.
السلام عليكم
ردحذفاريد ان اضبف بأن يوجد في محلة الكوازين اقدم جامعين في الموصل وهم يعرفون اليوم بأسم مسجد الكوازين وبالقرب منه جامع المصفي الذي أنشأ في سنة16 هجرية في السنةالتى فتحت فيها الموصل في خلافة امير المومنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه
أسرة الكواز هذه من الأسر العبيدية الموصلية العريقة وقد أنجبت جيلا يفخر به من الموظفين والضباط والمحامين وفيما يلي نسبها الكريم:
ردحذفآل الكوّاز – هم أبناء فتحي بن أحمد الكواز من محلّة رأس الكور، منهم الكوازين فتحي أحمد الكواز ومحمد فتحي الكواز وعبد الله فتحي الكواز وخالد محمد فتحي العبيدي وحسام محمد فتحي العبيدي والشهيد الطيار غانم محمود خليل الكواز وأحمد محمود خليل الكواز والدكتور مضر محمود الكواز والدكتور سعد محمود الكواز والمحامي محمد يونس العبيدي والدكتور علاء غانم الكواز والدكتور عدي غانم الكواز.