عبد الباقـي يوسف
إن ما يميز قراءة القرآن، أن كل قراءة تقدّم للقارئ علماً جديداً لم يكن يعلمه، كل قراءة تقدم إليه شعوراً جديداً لم يكن يشعره، كل قراءة تقدم له متعة قراءة جديدة لم يكن يدركها، تضيف إلى نفسه لمسات جمالية جديدة لم تكن لديه من قبل.
إن كل قراءة تجعله يشعر باتزان وهو يتأمل مجريات الحياة، ولذلك نرى المريض يلجأ إلى قراءة القرآن، ويشعر بأنه يتداوى به، والذي تصيبه مصيبة كبرى يلجأ إلى قراءة القرآن، فيجد متنفساً عن نفسه، والذي يبتغي ذكر ربه في السراء والضراء يلجأ إلى القرآن، فيشعر قلبه بطمأنينة ذكر الله.
هذه الأنوار، التي يكتسبها الإنسان من قراءة القرآن، لا تنتهي عند فراغه من القراءة، بل ينتفع بها في وقائع حياته اليومية، سواء مع نفسه، أو مع الآخرين، أو مع مقومات حياته.
هنا يمكننا أن نقول عن هذا الشخص بأنه قرأ القرآن جيداً، وترك القرآن أثره على سلوكه جيداً. إنه شخص يرتقي على مدارج الطيب، فيتحوّل بالقول والفعل إلى إنسان طيّب، تفوح من هيئته، ومن قوله، رائحة فضيلة إنسان طيّب.
يبيّن الله أن المراد من ضرب هذه الأمثال في القرآن الكريم، هو إحداث هذه التحولات الكبرى في حياة وسلوك الإنسان، وهو يرتقي في تلقيه للقرآن: [وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلاّ العالمون] العنكبوت/43.
إن هذا الشخص هو المقصد وهو الغاية من نزول القرآن، ونزول سائر الكتب والتوجيهات السماوية.
يمكننا أن نقول بأن القرآن جعله كائناً طيباً، كائناً ناضجاً، نستأنس بالجلوس معه، والتحدث إليه، نأمنه على سرّنا، وعرضنا، ومالنا.
إنّه شخصٌ مؤتمنٌ، على قدر تمتعه بتعاليم القرآن، شخص يخاف الله في كل أمر يصدر عنه، إن هذا الشخص بلغ، من خلال قراءته التدبرية التأملية التعبدية للقرآن، مرتبة متقدمة من مراتب مخافة الله، لأنه بلغ مرتبة متقدمة من مراتب الحكمة التي اكتسبها من القرآن، ومن تحليله للوقائع على ضوء قراءاته للقرآن، هذه الحكمة التي: رأسها مخافة الله، كما يقول المثل.
يتجه المثل إلى إنسان كي يعلم منه ما لا يعلم، سواء أكان هذا المثل من ضرب الله، أو من ضرب أهل الحكمة والعلم، ولله المثل الأعلى.
أمام هذه الوظيفة للمثل، فإن الله ينهى الإنسان - من مختلف مواقعه - أن يضرب المثل لربه، لأن المراد من ضرب المثل هو إبلاغ معرفة، وإرشاد إلى تأمل، وتفكر، وتعقل، وتدبر.
إن الله يعلم ما يعلمه الإنسان، وما لا يعلمه، والله هو مصدر العلوم جميعاً، إذ لا يملك طير أن يطير إلا بإذنه. يقول في ذلك: [فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون] النحل/74.
إذن، نحن نضرب الأمثال لبعضنا البعض، لأن بعضنا يعلم ما لا يعلمه بعضنا، وبعضنا لا يعلم ما يعلمه بعضنا.
لقاء ذلك، فإن الله يدعونا أن نتعرف إليه، وأسماء الله الحسنى الواردة في القرآن هي توجيه وإرشاد لتفعيل مخيلة الإنسان، وتنشيطها، كي يتعرف على صفاته (عز وجل)، ويتأمل هذه الصفات، لأن كل اسم من أسماء الله الحسنى يشير إلى صفة تتفرع منها صفات عديدة، لا يحصيها الإنسان، فمثلاً: القادر، تتفرع منه المقدرة على كل شيء يخطر في بال الإنسان.
لنتأمل في هذه الأسماء، التي تشير إلى صفات الله (عز وجل): الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكيم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور, العلي، الكبير، الحفيظ، المغيث، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي، المتعال، البر، التواب، المنتقم، العفو، الرؤوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور، ثم تمضي في قراءة القرآن، فترى الله يضرب بصفاته الأمثال، حتى ترى نفسك أمام تصورات تحرّك آفاق مخيلتك، مثال ذلك: [الله نور السموات والأرض].
تتخيّل هنا أن كل ما في السموات والأرض يستنير بنور الله، ثم تمضي في قول البارئ المصوّر: [مثل نوره كمشكاة فيها مصباح]، الآن تتخيّل مشكاة فيها مصباح، ثم تتخيل [المصباح في زجاجة]، ثم تتدّرج بك المخيلة، وأنت تستأنف وصف ربك لصفاته، وذكره للأمثال، التي تكون لك يسراً ومعيناً على منهج التعرف على صفاته المباركة، فتتخيل بعد كل تلك المقارنات والمشاهد: [الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة].
ها أنت تتخيّل كل تلك التشابيه، التي انطلقت بك لتعرفك على مثل نور ربك، في علاقة بالغة العذوبة بينك وبين جمالية لغة الخطاب القرآني، وأنت في ذروة محراب عبادة قراءة القرآن: [زيتونة لا شرقية ولا غربية، يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار]، ثم تأتي إلى قوله [نور على نور]، وفي خاتمة الوصف، وأنت تبلغ نهايات الآية، تنظر إلى علاقتك بما أكرمك الله به من معرفة، فتقرأ قول الله: [يهدي الله لنوره مَن يشاء]. هنا تدعو ربك - الذي يجيب دعوة الداعي إذا دعاه - أن يشملك بمشيئته في الهداية إلى نوره تبارك وتعالى، ثم تختتم قراءتك لهذه الآية بقوله: [وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون] العنكبوت/43.
الكلمة والشجرة
يشبّه الله الكلمة بالشجرة، ذلك أن الكلمة يمكن لها أن تسبب مسرّة، ويمكن لها أن تسبب جرحاً، ويمكن للشجرة أن تقدّم ورداً يؤدي إلى مسرّة، ويمكن لها أن تقدّم شوكاً يؤدي إلى جرح.
يدعو الله الناس إلى التنبه لمعنى قوله: [ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء].
إن الكلمة الطيبة تصدر من إنسان طيّب، كما أن الثمرة الطيبة تثمر من شجرة طيبة، والكلمة الطيبة يصغي إليها وينتشي بسماعها إنسان طيّب، كما أن الثمرة الطيبة يتناولها إنسان طيّب. وإذا اتجهت الكلمة إلى إنسان خبيث، لا يكون ذلك إلا لمحاولة منها كي تؤثر عليه، فيخفف من مساحة خبثه، ويجنح شطر رحابة الطيب، كذلك الثمرة الطيبة تقبل أن تذهب إلى إنسان خبيث، بإذن ربها، حتى تشعره بنكهة وجمالية ولذة الطيب، عساه أن يتخذ من ذلك مثلاً، فيجنح إلى الطيب.
على ذلك، فإن الكلمة الطيبة، التي أكرمها الله وشبهها بالشجرة الطيبة، وهنا يمكننا القول إن الكلمة الطيبة، والشجرة الطيبة معاً: [تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها].. الأُكل هو مدى التأثير الذي تتركه الكلمة الطيبة، ومدى التأثير الذي تتركه الشجرة الطيبة .. [ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون].
في لقاء ذلك تأتي الكلمة الند، وتأتي الشجرة الند، وما دامت الكلمة الطيبة شُبّهت - بالشجرة الطيبة، فإن الكلمة الخبيثة تُشبّه - للمثل أيضاً - بالشجرة الخبيثة، وهي أيضاً تؤدي وظيفة. الكلمة الخبيثة هنا تتجه إلى إنسان خبيث، لكنها إذا اتجهت إلى إنسان طيب، فإنها لا تزحزحه عن طيبه، بل تثبته في طيبه، وأضعف الإيمان فإنه يردد في نفسه لقائل الكلمة الخبيثة: الكلام صفة المتكلم. وكذلك فإنه عندما يرى ثمرة خبيثة، فإن الثمرة الطيبة تزداد في نفسه قيمة.
يقول الله تبارك وتعالى: [ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار].
بعد ذلك يبيّن الله لمتلقي القرآن الغاية من ضرب المثل، بقوله: [يثبّت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويضل الله الظالمين ويفعل ما يشاء].
وفق هذه القراءة يمكننا أن ننظر ونتأمل ونتدبر الآيات التي ضُربت فيها الأمثال، فنقف على ضفاف التأمل من المخيلة، ونحن نتلقى هذه التشابيه والأمثال التي تنشّط الذهن، فنعلم منه شيئاً جديداً لم نكن نعلمه من قبل.
الماء والحياة
يضرب الله المثل أيضاً للناس حتى يشكلوا مفهوماً عاماً عن الحياة، والعنصر الذي يتخذه الله للتشبيه والمقارنة في ضرب المثل هو الماء، فالماء مصدر الحياة، تقترن الحياة بالماء، ويقترن الماء بالحياة: [إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء].. سوف ينظر الإنسان إلى الماء، ويستعين مرة أخرى بمخيلته كي يجري المقارنة، ثم يقرأ قول ربه: [فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام].. ينظر أن الماء تسبب في وجود النبات، الذي يمنح طاقة الحياة للناس، وكذلك للأنعام، التي هي بدورها تقدّم طاقة تغذية للإنسان كي يعيش الحياة. هنا يبلغ الإنسان مبلغ القوة واللياقة البدنية والفكرية، كونه تناول غذاءً جيداً، والله يدعو الإنسان كي يتناول طيب الطعام، ويشرب لذيذ الشراب.
مع هذه القوة، التي بات يتمتع بها الإنسان، يتذكر بأن ذلك أتاه من الله، وبمقدور الله أن يعيده على وهنه، إنه مع ذلك يغتر بقوة بدنه، وصفاء ذهنه، وما يملك من ثمار وأنعام.
يرشده الله إلى الغاية من هذا المتاع المحدود الأجل، حتى لا يبطر الإنسان، ويظن بأنه قادر عليها، فينتبه إلى قول الله: [زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ] آل عمران/14.
إنها زينة، والزينة محدودة الأجل، إنها عملية ظاهرية فحسب، من مظاهر الحياة الدنيا التي لا تدوم لشخص، ولم يسبق لها أن دامت لإنسان، وإن كان الإنسان ينظر إلى أنه يقوى بها، فهي لا تكون ذلك بالنسبة لله الذي منحها للإنسان، فينبهه إلى ذلك في قوله: [حتى إذا أخذت الأرض زخرفها، وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها].. هنا سوف تعمل المخيلة، كي تقلّب الموازين، في محاولة تخييلية، وصاحبها يرفل في النعمة التي تتحول إلى حصيد: [أتاها أمرنا ليلا أو نهارا فجعلها حصيدا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون].
ويوجه الله النبي "صلى الله عليه وسلم" كي يضرب المثل للناس في تعريف الحياة الدنيا، بقوله: [وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً] الكهف/45، ويقول: [وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً ] الكهف/32، ويقول: [وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ] يس/13.
ثم يرى قارئ القرآن أن الله يضرب الأمثال كي يبين له بعض الحقائق، ومن ذلك ما قيل عن النبي عيسى "عليه السلام"، حيث شبه الله خلقه بخلق آدم "عليه السلام"، وأخبر الله عباده بخصوصية خلق عيسى "عليه السلام"، وضرب به مثلا آدم "عليه السلام": [إن مثل عيسى عندالله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون] آل عمران/59.
لقد أخبر الله الناس أن عيسى هو عبد الله، كما أن آدم هو عبد الله، خلقهما من تراب.
الصدقة والسنبلة
يضرب كذلك الله مثل المال بالسنبلة، حيث يقول: [ومثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم] البقرة/261، كون السنبلة أصلها حبة واحدة، والمال الذي ينفقه الله في سبيله يذهب إلى شخص، وهذا الشخص قد يأخذ به طعاما لعياله، وعندما يتناول الجائع طعاماً، فإن بدنه يقوى، فينهض ويقوم بعمل ما، وقد يأتي ضيف فيأكل من هذا الطعام، وقد يبتاع الشخص المحتاج دواء بهذا المال، الذي تلقاه من المتصدق في سبيل الله، فيشفى بإذن الله، ويكوّن عائلة، ويقوم بعمل الخير.
إن مال هذا الشخص يلبث صدقة جارية في هذا الشخص، وفي ذريته من بعده، وكلّما سنّ أحدهم سنة حسنة، أصاب منه أجر إلى المتصدّق الأول على جدّهم، الذي تلقى العلاج، أو التغذية، أو المال، الذي كان سبباً في اندفاعه نحو الحياة والعمل والعطاء، بعد أن كان مريضاً، أو سيء التغذية، أو فقيراً مدقعاً. يقول الله: [ومثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مئة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم] البقرة/261.
إن الصدقة مرتهنة بأن تكون خالصة في سبيل الله، وإذا ابتغى الإنسان منزلة، أو حاجة في نفسه، أو تعالياً، فإن صفة المتصدّق تزول عنه، وصفة الصدقة تقوم عن ماله، حتى لو تساوى مع المتصدّق الحق، في إعطاء العطية لعائل. يضرب الله المثل بهذه الصدقة، التي هي ليست خالصة لوجه الله، بقوله، وهو يبيّن أسباب زوال صفة الصدقة: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاء النَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَاللّهُ لاَ َيهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ] البقرة/264.
الصفوان هو الحجر الأملس الذي عليه تراب، وفي حال إصابته بوابل المطر، يزول التراب، ويبقى الحجر أملساً.
إن المطر لا ينفع هذا الحجر، ولا ينفع التراب الذي عليه، من أجل إخراج نبات، فمعلوم أن المطر عندما يختلط بالتراب، ينتج عن ذلك النبات، بيد أن ذلك لا يحدث في المثل الذي ضربه الله، حيث لا يتحول العطاء إلى صدقة، إذا اقترن بالأسباب التي بيّنها الله تعالى.
يتعلم الإنسان، من خلال هذا المثل، أن كل عمل نفع يقوم به، يمكن لفعل ما أن يبطل مفعوله. وإبطال المفعول يكون بالنسبة لمتلقي النفع أيضاً، وهو يقيّم العطاء الذي أعطي له، فهو لا يحترمه على عطائه، لأنه يدرك الغاية التي دفعته إلى ذلك، ولا يشكره بشكل جاد عليه، لأنه لا يستحق الشكر، فهو قد حصل على غايته من ذلك، سواء في الحصول على لقب، أو نيل منزلة، وهذا بذاته يسبب الأذى للذي حصل على ذاك العطاء، لأنه يتلقى المنّ الذي يسبب له كسر الخاطر، ويشعره بشيء من الحرج.
يقول الله عن الفئة التي تنفق ابتغاء إلحاق الأذى: [مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِـذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلَـكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] آل عمران/117.
يمكن قياس ذلك على عبادات أخرى، كمثل رؤيتنا لشخصين يصليان، أحدهما تُقبل صلاته، والآخر تعود عليه صلاته قائلة له: أضاعك الله مثلما أضعتني.
ونرى شخصين يصومان، أحدهما يُقبل صيامه، ولا يكون للثاني من صيامه غير الجوع والعطش. ونرى شخصين يقرآن القرآن، يرتقي أحدهما في درجات العبادة، وتبلغ منزلته عند آخر آية قرأها، في حين يقرأ الثاني القرآن، والقرآن يلعنه.
إن النية الصالحة هي التي تحقق الغاية من أي عبادة يؤديها الإنسان.
يقول الله: [مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ] إبراهيم/18
---------
ثبت المصادر والمراجع:
1- حمزة بن الحسن الأصفهاني، الدرة الفاخرة في الأمثال السائرة، تحقيق: عبد المجيد قطامش، دار المعارف، القاهرة.
2- أبو منصور الثعالبي، التمثيل والمحاضرة، تحقيق: عبد الفتاح محمد الحلو، دار إحياء الكتاب العربية، القاهرة، 1961.
3- جوزف نعوم حجار، المنجد في الأمثال والحكم والفرائد اللغوية، عربي - فرنسي، فرنسي- عربي، دار المشرق، بيروت، 1983.
4ـ ابن قيم الجوزية، الأمثال في القرآن الكريم، تحقيق: سعيد محمد نمر الخطيب، دار المعرفة، بيروت، 1981.
5 - شهاب الدين أبي الفتح محمد بن أحمد الأبشيهي، المستطرف من كل فن مستظرف، منشورات وزارة الثقافة السورية، دمشق، 2004.
6- ابن منظور، لسان العرب، مؤسسة التاريخ العربي، ط3، بيروت، 1993.
7 – الفيروزآبادي، القاموس المحيط، مادة: "مثل".
8 – وهب بن منبه، كتاب التيجان، وفيه يذكر بأنه: قرأت في حكمة لقمان أكثر من عشرة آلاف باب.
9 - أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، كتاب عيون الأخبار، تحقيق: الدكتور محمد الأسكندراني، دار الكتاب العربي، بيروت.
10 - أبو سلمى الكوفي الضبـي، الفاخر في الأمثال، تحقيق: قصي الحسين، دار ومكتبة الهلال، بيروت، 2003.
11 – أبو عبدالله ياقوت بن عبد الله الحموي، معجم البلدان، منشورات دار الفكر، بيروت.
12- جلال الدين محمد بن أحمد المحلي وجلال الدين عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي، تفسير الجلالين، ط1، دار الحديث، القاهرة.
13- عبد الرحمن بن علي بن محمد الجوزي، زاد المسير في علم التفسير، ط3، المكتب الإسلامي، بيروت، 1404.
14 – الزمخشري، أساس البلاغة، تحقيق: محمد أحمد قاسم، بيروت، 2003.
15 – الجوهري، تاج اللغة وصحاح العربية، تحقيق: أحمد عبد الغفور العطار، القاهرة، 1982.
16 - أبو عبيدة البكري، فصل المقال في شرح كتاب الأمثال، تحقيق: قصي الحسين، دار ومكتبة الهلال، بيروت، 2003.
17- أبو عبدالله سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، تفسير سفيان الثوري، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1403.
18- أبو عبدالله محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي، البرهان في علوم القرآن، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعرفة، بيروت، 1391.
19 – ابن قيم الجوزية، أعلام الموقعين عن رب العالمين، تعليق: محمد المعتصم بالله البغدادي، ط1، دار الكتاب العربي، بيروت، 2004.
20 - ودولف زلهايم، الأمثال العربية القديمة، ترجمة: رمضان عبد التواب، ط3، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1984.
21 - المفضل محمد الضبي، أمثال العرب، تحقيق: قصي الحسين، دار ومكتبة الهلال، بيروت، 2003.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق