ترجمة: عمر جاسم محمد
"تحدث ملوك الإمبراطورية الآشورية الحديثة كما يتحدث ناي إلى وتر"
يليق ذلك بهم، فقد وصلت هذه الإمبراطورية في القرن السابع قبل الميلاد أوج عظمتها، فرضت سلطتها على نصف الأرض من القوقاز إلى مصر، ونقلت قرى كاملة بأهلها من فلسطين إلى شمال بلاد ما بين النهرين، حيث أكبر وأرقى مدن العالم آنذاك، لا غرو، فإن سنحاريب ذلك الملك الذي اعتاد هواية الصيد التي تتطلب صبراً لا مثيل له، قد أسس أول نظام تحكّم بقنوات الري التي تغذي حدائق العاصمة الخلابة. وكان صنو أبيه سرجون الثاني، الذي أخبر الأجيال اللاحقة عن انجازاته التي حفرها التاريخ على جدران القصر، فقال: "أنا الذي اخترق الجبال والوديان لأشق مساراً للمياه"، كما أعلن: "من غيري عبّد الطرق فسواها مناراً للسالكين".
في مكتبه في الطابق العلوي من متحف (بيبودي) في جامعة (هارفارد)، الأستاذ جيسون أور، الأستاذ المشارك في العلوم الاجتماعية والمراكز الآثارية، والمتخصص في الشرق الأدنى القديم، يحيي هذه الشجاعة بهدوء حذر.
يقول الأستاذ أور: "النقوش الملكية هي المشتبه به فعلياً"، ويضيف: "فالملوك يكذبون، الأباطرة يكذبون، كنا حريصين جداً على قراءة النقوش على ظاهرها، لكنها كانت نقوشاً دعائية بشكل كبير ومصممة لتعزيز أيديولوجية معينة للملك".
بسط الأستاذ أور صوراً فوتوغرافية كبيرة على طاولة المؤتمر، هي صور جوية بالأسود والأبيض لمناظر طبيعية لمساحة تبلغ حوالي خمسين كم2، نهري دجلة والفرات يظهران بشكل جلي، وجسد المدينة الممتد مع مساحات أخرى، وتلال ترتفع عند حافة الصورة.
هذا هو سهل أربيل، الذي كان فيما مضى قلب آشور، والآن القلب النابض لكردستان "مزاعم سنحاريب عن قنوات الري لا تصدق، نقل الماء من جميع أنحاء الإمبراطورية باتجاه نينوى، لا يمكن تصديقها أبداً"، هذه الأشياء تتطلب كماً لا يحصى من السيطرة والعمل - من البشر والحمير - لذلك، فإنني أحاول هنا أن ألقي نظرة لمحاولة الكشف عن أدلة للعثور على هذه القناة.
بتفحص دقيق لصورة جوية، وظلال رماية تكشف عن فروق دقيقة وانقطاعات تظهر وكأنها لتدريب العيون على النظر، ويستمر أور بسرد الأمثلة: "يصبح من الواضح جداً أن الريف الأربيلي، بعيداً عن المدينة القديمة، مليء بالمواطن التي تستدعي التحقيق العاجل".
"هل ترون النقطة البيضاء"؟ إنها بكل تأكيد تلة، وأستطيع أن أقول إنها انعكاس للرطوبة، لأن الرطوبة تعكس اللون الأبيض، وأنا متأكد بنسبة 99% من أن هذا موقع أثري، "يحرك أور أصابعه على جسد الخريطة ويستمر"، هذه هنا قناة عميقة، يمكنها أن تكون مساراً للتصريف الطبيعي، وبالتالي فإن الفرضية الممكنة القبول، تقول إن هذه إحدى أنظمة الري الواسعة التي ادّعاها الملوك.
لكن هذه ليست صورة آثارية، إنها صورة تم الكشف عنها مؤخراً، التقطها قمر تجسس أمريكي ورفعت عنها السرية في أواخر الستينيات، وما تثيره هذه الصورة من تلميحات، تجعل الحقبة التاريخية لهذه البقعة غير واضحة، وبعد مسح الصورة، يشير أور، عن علامات المستوطنات والقنوات، والممرات المائية تحت الأرض المعروفة باسم (كاريز)، والتي تظهر على شكل خطوط منقطة وتبدو كرماح، ومع إجراء بعض التعديلات على الصورة، بالامكان إرجاعها إلى العصر البرونزي، إلى ما قبل سنحارب، وقد يقول البعض إنها تعود للعصور الوسطى.
"أستطيع أن أحدد هذه الخصائص وأنسج حولها الفرضيات عن المجتمع الريفي الذي تبرزه الصور، ولكن أنا بحاجة إلى الوصول إلى الأرض نفسها، وأجزئ هذه المناظر الطبيعية على حقب زمنية متعاقبة، ويضيف أور: "هناك حدود لما يمكنك القيام به استناداً إلى الصور الفضائية فقط". كان أور قد قاد المسح الأثري لأربيل منذ عام 2012 ضمن (EPAS) المشروع الدولي الذي عمل على جرد 1200 موقع أثري، للمنطقة التي تمتد على 3200 كلم مربع، وتقع أربيل عاصمة إقليم كردستان في الوسط منها. وكان الفريق يزور كل موقع لتحديد قيمته، وجمع الأدلة، وارجاع كل أثر مكتشف إلى حقبته التاريخية، من العصر الحجري الحديث حتى الوقت الحالي، وسيقوم الفريق بإنتاج خرائط للطرق وقنوات الري والمصارف المائية وانماط الاستيطان في هذه الأراضي.
كشفت هذه المخططات والصور عن أنموذج رائع للعمل في هذه المناطق، إضافة إلى وجود تغيرات واضحة على مر التاريخ، استجابة للعوامل السياسية والديموغرافية والاقتصادية، وتكشف على سبيل المثال، أن القنوات التي انشأها سنحاريب، أوسع بكثير مما كان متوقعاً، وهي تشمل العديد من المناطق الريفية، وليس نينوى فحسب، مما يدل على وجود سياسية زراعية على نطاق واسع.
إن هذه المبادرة، التي موّلتها مؤسسة العلوم الوطنية (NSF)، والجمعية الجغرافية الوطنية (NGS)، ودمبارتون اوكس، قدمت - بالاتفاق مع اتفاقية الشراكة الاقتصادية الخمسية (EPAS) - قاعدة بيانات ستكون أهم أداة للعلماء الآثاريين والمؤسسات الآثارية المحلية في العراق، إذ تهدف، إضافة إلى المعلومات الوفيرة عن المواقع الأثرية، تقديم معلومات وافية عن المناطق غير المستكشفة بعد.
عوداً على سهل أربيل، فحسب الأستاذ أور، إن هذه المنطقة تعج بالمناطق الآثارية أكثر من أي مكان آخر شملته الدراسات في بلاد ما بين النهرين، إنها بيئة غنية بشكل لا يصدق، وما زلنا نجهل الكثير عنها، فمعظم مناطق العراق تم التنقيب فيها بشكل جيد، لكن هذا المكان، لم يتسنه شيء بعد، فقد همشت الأنظمة العراقية المتعاقبة المجتمع الكردي، وكان ذلك مدعاة لتثبيط المشاريع البحثية في هذه المنطقة، وكان النظام البعثي يركز على الجنوب: سومر القديمة، بابل، أما آشور فلم يكن لها نصيب من نظام الدولة ولا حتى الالتفات إليها.
ولما تولى صدام حسين الحكم واستخدم نظاماً دكتاتورياً، حدث ما هو أسوء، فقد بلغت ذروة القمع في تهجير السكان الكرد من الريف وهجمات بالأسلحة الكيميائية عام 1988، ولا داعي للقول إنه في ذلك الحين، كان علماء الآثار الأجانب غير مرحب بهم.
ويكرر الاستاذ أور: "هناك فجوة حقيقية في معرفة تاريخ المنطقة الكردية"، فإذا أراد السكان المحليون كتابة تاريخهم - الذي اعتقد أنه ينبغي أن يكون الجميع قادرين على تولي مهامه - فهم بحاجة لمعرفة أين تقع هذه الأماكن التي سيكتبون عنها.
وما يجعل عودة التنقيب ممكنة الآن، هو الهدوء الذي يسود المنطقة، صحيح أن السياسية العراقية والأمن في الجنوب لا يزال مضطرباً، لكن المنطقة الكردية المتمتعة بالحكم الذاتي مستقرة وآمنة، والعلماء الغربيون، وخاصة الأمريكيين هم موضع ترحيب هناك، وجدير بالذكر أن ازدهار الاستثمار النفطي في كردستان، أدى إلى نشوء السياحة بشكل ملفت، فقد بتنا نسمع عن رحلات مباشرة من فيينا واسطنبول ودبي إلى أربيل، متجاوزين بذلك بغداد كلياً، ومن أهم مفاتيح قيام هذه التنقيبات هي الصور الجوية التي تسمح لفريق أور بتحديد المواقع بغية زيارتها ومعرفتها بشكل مسبق. يبلغ عدد هذه الصور من المجموعة النادرة حوالي 800.000 صورة التقطها قمر التجسس الأمريكي كورونا عام 1960، وقد رفعت عنها السرية، إضافة إلى مجموعة أخرى من برنامج يدعى KH-7 بدأ من العام 1995، صار متاحاً للباحثين.
"إنه لإنجاز عظيم للحكومة التي تتبع سياسة الانفتاح"، ولكم أتمنى - يضيف أور- أن أتمكن من أخذ هذه الصور لأريها لزملائنا العراقيين للعمل معهم، وليس مهماً تحديد التوقيت الزمني للصور، لأنها تساعد على معرفة المشهد عن كثب قبل حدوث الاضطرابات بعقود قليلة، التي شهدت تنمية وتطوراً، وإن الجمع بينها وبين الأدوات المعاصرة مثل جوجل ايرث وجي بي اس، سيفتح آفاقاً لا حدود لها.
لقد نمى وازدهر الاقليم - كردستان - وبات من الممكن طرح أسئلة فردية، والقدرة على الذهاب إلى هناك والمباشرة بالتنقيب، وصار من الممكن البحث عن أصول المدن والدول وآليات تطورها، وإن التنقيب في بلاد ما بين النهرين، قد أعطى - والعالم كله يعترف - أدوات النهضة للعالم كله.
كان التوقيت ملائماً جداً لأور (اسمه الأخير هنغاري، وليس له أية علاقة مع اور المدينة السومرية، لكنه لا يرفض أن يحال اسمه إليها)، إذ بدأ دراسة الدكتوراه في علم الآثار في جامعة شيكاغو قبل أن تصبح صور كورونا متاحة، فأستاذه - عالم الآثار توني ويلكنسون، الذي يعمل حالياً في جامعة دورهام في انكلترا - أدرك قيمة صور الأقمار الصناعية والرسوم البيانية، وحث طلابه على استخدامها، فقد اشتراها من المصدر، ويضيف أور: وقد وضع توني الصور بطريقة تمكن طلابه من الاستفادة منها باستخدام الأدوات التقنية الحديثة لتطوير مجال الاستكشافات الجغرافية والآثارية.
إن تلك النقوش التي تحدثنا عنها سابقاً، نقوش الملوك، تمنحنا فرصة كبيرة لاستكشاف جزء بسيط من حياة القدماء، لكن هذه الصور التي نتحدث عنها الآن، هي الفرصة الأمثل لمعرفة كيف بنى الناس مدنهم، كيف تحولوا من البربرية إلى التمدن والحضارة، لنصحح مسار التاريخ، لنكتب التاريخ كما هو.
لم تعد معرفتنا مقتصرة على ما أظهرته الحفر، التي لا تقدم سوى 1% من المعلومات، إننا اليوم بتنا نعرف عن كل ركن وزاوية مظلمة في القصور الآشورية بطريقة قد ترعب الملوك أنفسهم، لكننا في المقابل لا نعرف سوى القليل عن بقية سكان نينوى، ناهيك عن القرى التي تحيط بها، إن النهج الجديد سيتيح لنا رسم صورة جغرافية واجتماعية واقتصادية، لنحصل في نهاية المطاف على لوحة شاملة كاملة عن المجتمع في هذه الدولة في وقت مبكر من الحضارة.
على الأرض، حيث العمل الشاق، لأسابيع طويلة، ينضم كل صيف فريق يضم علماء وطلاب دراسات عليا من الولايات المتحدة وكندا وهولندا وفرنسا، بتخصصات مختلفة لفترات مختلفة عن تاريخ المنطقة، لاستكشاف المواقع الآثارية، وسبر غور ذلك التاريخ، وكما يقول جون كليندانييل أحد طلاب الدكتوراه في جامعة هارفارد، والذي من المرجح أن يشرف عليه الأستاذ أور، يقول إننا نستيقظ من الساعة الرابعة فجر كل يوم لننطلق إلى المواقع، لا هم لنا سوى استكشاف تلك الآثار، نحن لا نبحث عن عمل، بل نبحث عن الفخار، المعادن، وقد وجدنا العام الماضي رقماً طينية كثيرة ووجدنا ما لا يصدق من الآثار.
عمل شاق يتطلب تفسير كل صغيرة وكبيرة للسكان القرويين الذين نروم اختراق حقولهم وبساتينهم، وعلينا أن نسترضي الكلاب العدوانية التي تحوم حولنا، وقبول عروض الشاي منهم، فبعض المناطق التي ظهرت على صور القمر الصناعي في الستينيات، باتت الآن قرى ومستوطنات مأهولة بالسكان، وبعض الأحيان يتحول عملنا إلى أشبه بعمل علماء الأنثروبولوجيا، ففي كثير من الأحيان لا يدرك السكان أهمية وجود التل في قريتهم، فنبذل قصارى جهدنا لنشرح لهم أنهم يسكنون في أرض لها شأن تاريخي قد يغير معالم حياتهم.
وإن أبرز التحديات التي تواجه عمليات التنقيب، هو النمو السريع لأربيل، حيث الاستقرار الأمني، والطفرة النفطية، واستقطاب العمال والاستثمارات الخارجية في كردستان، وظهور أحياء جديدة تنمو فوق المواقع الآثارية التي لا يعرفون وجودها، إن أربيل تنام فوق كنوز من الآثار، لكنهم لا يدركون حقيقة أن البناء السريع قد يلحق الأضرار الجسيمة بتلك الآثار لا سيما شق الطرق واقامة الخراسانات التي يصعب معها التنقيب، وهذا ما يجعلنا ننطلق بسرعة الصاروخ تجاه المناطق الأكثر عرضة للتخريب بسبب العمران المستمر، ونسعى جاهدين لتدريب عناصر محلية لأن الاعتماد الكلي على الفريق الأجنبي سيؤثر على سير العمل، في مدينة يقطن فيها مليون إنسان، والعدد يتزايد.
والضغط يتضاعف ويزيد من تعقيد المشروع والعمل، فنضطر إلى التعامل مع ضرورة بناء القدرات البحثية المحلية وإدارة العلاقات مع المسؤولين الأكراد والسلطات المركزية (الباردة) في بغداد، وقد أثرت الحرب الأهلية السورية على العمل، إذ فقد الكثير من زملاء أور عملهم ولجأوا إلى أربيل، ونحن نسعى لإيجاد سبل لإشراكهم في المشروع.
أحد الأهداف التي ينشدها أور هو إحياء البحث العلمي في كردستان العراق، وإن مشروعه - الأول كان بقيادة أمريكية - يمكن أن يغرس البذور، ويختم أور قوله: في نهاية المطاف، أنا أعرف كل المواقع الآثارية المهمة، واستطيع أن أعطي إحداثيات دقيقة لها، والواجب الآن هو أن نقدم العمل الصحيح لجزء من العالم لم يتعرف عليه أحد بعد، هناك الكثير من الأسباب التي تدفع للقول بأن هذه الأرض هي المدينة المفقودة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق