06‏/05‏/2014

التأصيل الحضاري لأسس الحوار الديني

أ.م. د فارس عزيز المدرس
الحوار لغة: حديث يجْري بين شخصَيْن أو أكثر، وهو كلام هادئ خالٍ من الانفعال. والحِوار: اسم. وجذره: حاوَرَ، ومصدره: تحاور، واسم فاعله: مُحاوِر. وحاورَ فلانًا: جاوَبه، وبادله الكلامَ. وفي سورة الكهف(37) [قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ...]. جاء في تفسير الطبري: "وهو يحاوره": أي يُخَاطِبهُ وَيُكَلِّمهُ.
والحوار اصطلاحاً: عملية تبادلٍ للآراء والأفكار بين فرد وفرد، أو بين جماعات، يختلفون نسبياً في الآراء والاعتقادات والثقافات. ولا يُسمى حواراً إنْ كان سرداً يصدر مِن طرف دون آخر، أو غلب عليه التشنج والانفعال. وميزة الحوار جريانُه على سبيل الحجج المنطقية والعلمية. 

أهداف الحوار:
1- إعمالُ العقل والمنطق والأدلة - بمختلف أنواعها - لأجل التفاهم بخصوص موضوع معين. 
2- شرح مواقف طرفٍ ما، لطرفٍ آخر، بغية الإقناع بفكرةٍ أو حالة، يشوبها الغموضُ والنقص لدى الطرف الآخر.
3- وسيلة لتجاوز الاختلافات العالقة بين الأطراف، وصولاً إلى حدود مشتركة يقفون عندها. 
4- طريقة للتفاوض والتقارب، وصولاً إلى حالة مِن عدم التنازع والتصادم في الأفكار والمواقف والسلوكيات.
5- إشاعة روح التسامح بين الناس، ونشر الحسنى بينهم، بحدود المقبول اعتقاداً وشرعاً، بهدف التلاقي ونبذ الشقاق والفرقة. 

أسس الحوار العلمي ومقوماته:
أ- احترام المحاور، وعدم إهماله، من خلال صرف النظر عنه، أو مقاطعته، أو التشويش عليه. 
ب - حق الإصغاء إلى المتكلم بعناية واهتمام، عنوان الحوار العلمي البناء.
ج – مراعاة زمن الأدوار المتوالية، لأطراف الحوار، انتظامٌ لا بد منه للخروج بحوار ذي جدوى. 
د - استبعاد الحرص على الكلام دون الاستماع إلى الآخر.
هـ – امتلاك الآلة اللغوية الملائمة لنقل الأفكار، مِن غير إيغال في الغموض أو التعريض. 
و – اللين والبشاشة وعدم الانفعال والغلظة قوة للمحاور، ووسيلة ناجحة لكسب القلوب ثم العقول. 
ز – المعرفة بالموضوع المتحاوَر فيه، ضرورةٌ وواجب لازم لأطراف الحوار.

في حوار الأديان:
يُعد مفهوم "حوار الأديان" مفهوماً قديماً، قِدم الأديان نفسِها، ولكنه اكتسب زخماً أكبر في العقود الأخيرة، بسبب الأزمات السياسية والعسكرية والقِِيمية، وانتشار وسائل الاتصال بين المجتمعات. وفي الإسلام يعد حوار الأديان وسيلة من وسائل الدعوة والجدل الإيجابي المفضي إلى الحق. وجوازُه من أسس الدعوة إلى الإسلام. وفسر المفسرون معناه مِن خلال مفهوم الدعوة. ومما يذكره (الحسين بن مسعود البغوي) في تفسيره: [أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن، إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله، وهو أعلم بالمهتدين] (125 سورة النحل)¬¬¬¬: الموعظة الحسنة هي الدعاء إلى الله بالترغيب والترهيب. وقيل: هو القول اللين الرقيق، من غير غلظة ولا تعنيف.
[وجادلهم بالتي هي أحسن]، أي خاصمهم وناظرهم بالتي هي أحسن، أي: أعرض عن أذاهم، ولا تقصر في تبليغ الرسالة والدعاء إلى الحق، نسختها آية القتال (ص:53).
اتخذ (حوار الأديان) في الآونة الأخيرة مظاهرَ مختلفةٍ ومستويات متنوعة، ففيه علماء دين، وفيه أكاديميون متخصصون، وناشطون في العمل الخيري، أو مهتمين بتعظيم دور الأديان في نواحي الحياة المختلفة، ممن يهدفون إلى تحقيق السلم العالمي، وانتشال الإنسان من الهبوط في مستنقع الانحراف الأخلاقي والفكري والتصوري والنفسي.
وأهداف الحوار، التي عددناها آنفاً، تختلف مِن حيث قصديتها، فهناك حواراتٌ تبحث عن تفاهمٍ متبادل، وتعارف أعمق، واستكشاف، وهناك حوارٌ يبحث عن قِيم متفق عليها، وهو يختلف عن، ويتقاطع مع حوار ذي أغراض سياسية، يتخذ من موضوع الدين وسيلة لاحتواء الآخر، أو امتصاص ردود أفعاله، أو تشكيكه في مقومات عقيدته.

التحفظات الواردة حول حوار الأديان:
ثمةَ تحفظات بشأن حوار الأديان، وأغلب التحفظات مبنية على مآخذ ومواقف وهواجس مختلفة، ينبع أغلبها مِن ركاكة الثقة بالآخر، ومن عدم جديته في الأهداف الإيجابية للحوار، واندساس بعض توجهات الحوار في أهداف سياسية.
ومن هنا لا يرى البعضُ جدوى من حوار الأديان، فهم ينظرون مثلاً إلى الغربيين بوصفهم "أهل الكتاب" الذين تحدث عنهم القرآن الكريم في مواضع كثيرة، واصفاً عداوتهم للمسلمين، وأن الإسلام لا يحتاج إلى حوارٍ مع أهل الباطل إلا إذا اعترفوا به، وسلموا له. وهذا منطق يتجاهل آيات كثيرة تدعو إلى الجدل بالحسنى، وصولاً إلى الإقناع، بوصفه المبدأ الأول في نشر الإسلام وتعاليمه، ومع أن الإسلام لم يعمم هذا الحكم في أهل الكتاب، لكن رأي هؤلاء أحادي، يتصور أن الحوار يتضمن دعوة الآخرين إلى الإسلام فحسب، أو مهادنتهم على حساب الثابت من الدين بالضرورة، بينما دوافع الحوار ومبرراته أوسع. 
وهناك ملاحظةٌ مفادها: إن الحوار الديني لا يقتصر على موضوع العقائد والخوض في قضايا إلهية، بل يطال أموراً اجتماعية وأخلاقية ونفسية، ويتصدى لأفكار وفلسفات، تتفق الأديان السماوية على بطلانها، وضرورة الحد مِن تفشيها. 
ثم هناك ملايين من البشر - شرقاً وغرباً - في حركة دائبة للبحث والمراجعة، ورغبة في النقاش، وهي تتلمس في الأديان خلاصاً وحلولاً، لا سيما بعد الخواء الأخلاقي والاجتماعي والانغماس في المادية، وهم يبحثون عن خلاصٍ في الفنون، أو علوم النفس، أو الغيبيات، وطقوس عبادية يظنون بأنها تريحهم من عناء المادية التي تسحقهم سحقاً، ويبحثون عن اجتماعٍ مع آخرين على حدودٍ من القيم والمعالم الأخلاقية والسلوكية، والترابط الاجتماعي. وكثير من هؤلاء يريدون استكشاف الإسلام، لذلك نشهد كثيرين منهم يدخلون فيه بعد حوارات مع مسلمين تصدوا للحوار معهم، فلا يصح أن نصف كل نشاط لحوار الأديان بأنه يصدر عن نية لا يؤتمن عقباها. 
إن أحد ثمار الحوار المنطلِق من أسس اعتقادية وأداتية ناجحة، وسيلةٌ تفضي إلى منع من يجهل حقيقة الإسلام من أن يصطف ضده، بسبب الجهل، أو بتعميمه للأخطاء التي يراها لدى مسلمين.
ومن باب آخر، هل من الحكمة ترك الباب مفتوحاً لذوي النوايا غير السليمة يحتكرون الحوار، وينفردون في الساحة مستهدفين الناس، أم أن الحكمة والشرع يقضيان بسد الذرائع، والقيام بمحاورات حقيقية، لنصل إلى ما هو خير، خدمةً للحقيقة، ومقاومة لانحراف المنحرفين.
ثم أن حالة الفوبيا من الإسلام تبتغي النيل من حقيقة الإسلام، لذلك يقتضي الواجب الانفتاح على الناس، وتصحيح ما علُق في أفهامهم من أخطاء، بسبب التضليل أو الجهل. 

إرث الحروب الصليبية ودوره في تعطيل الحوار الهادف:
"منذ أن كفَّ المسلمون عن استخدام لفظة "فرنجة"، وتبنوا المصطلح الغربي "الحروب الصليبية The Crusade Wars" تكونت ثقافة متحفظة تجاه المسيحيين، لا تميز كثيراً بين المسيحية الشرقية وبين الصليبيين"، وأدى ذلك إلى إهمال بعض مظاهر تلك الحروب، وهي أن المسيحية الشرقية كانت ضحيتها الأولى.
"والذين يعتقدون بأن المسيحية هي التي شنت تلك الحروب على الإسلام، لا تسعفهم ذاكرتهم بأن يلتفتوا إلى معاناة المسيحية الشرقية في حروب الفرنجة، وبالتالي لم يسمح ذلك الظن بتوظيف المعاناة المسيحية والإسلامية المشتركة، المتأتية من تلك الحروب، في بلورة هوية قائمة على قاعدة المصير المشترك.
ووجدت ثقافة الاستخدام الاستعماري للأقليات ما يحفزها، من خلال أدبيات تفتقر إلى الدراية التاريخية، حتى تكونت شعارات مثل: أمة الكفر واحدة. وهو شعار يفضي إعمامه إلى قطع الطريق أمام أي محاولة لفك الارتباط في الثقافة الإسلامية والمسيحية الشرقية"(1). ومما ساعد في ذلك، إعادة استحضار الإرث الذي رسخته الحروب الصليبية في الأذهان،"وبذلك فإن العداء الصليبي التاريخي أخذ يتسلل إلى البحوث العلمية، وإلى منافذ الثقافة والإعلام شرقاً وغرباً، وبقي هذا الخليج، الذي حفره التاريخ بين أوروبا والعالم الإسلامي، منذ الحروب الصليبية، غير معقودة فوقه بجسر"(2). 
والحوار المتسلح بالعلم يقتضي إعادة النظر في إرث الحروب الصليبية، ومعرفة دوافعها وإسقاطاتها على الواقع الحالي، فضلاً عن الدراية بخطورة ترويجها، بهدف ديمومة العداء والتحفز بين المسلمين وبين المسيحيين، لتستفيدَ من ذلك أطرافٌ لا يهمها لا إسلام ولا مسيحية، بل هدفها استثمار الوضع القلق وغياب الثقة وحضور الكراهية، كحالة من حالات الصيد في الماء العكر.
"كانت السنوات العشر التي سبقت الدعوة إلى الحملة الصليبية الأولى سنة 1095، صعبة على أوروبا، إذ شهدت سلسلة متصلة من الفيضانات والمجاعات، والوباء،الذي ما ضرب مدينةً إلا وحصدها بمنجل الموت، فكان رد فعل البسطاء التعلقُ بأهداب الدين، محاولةً منهم التكفير عن الذنوب، والتجمع حول الناسكين، بحثاً عن الخلاص. لذا وجدت الدعوة التي دعاها البابا (إربان الثاني)، لشن حرب صليبية ضد المسلمين، تربةً خصبة نمت وترعرعت فيها"(3). 
فالعامل الاقتصادي، متمثلاً بالإقطاع، والمجاعة، والفيضانات، وعدم كفاية عنصر الزراعة في سد احتياجات الناس، وانتشار الأوبئة، السبب الأولي لشن تلك الحروب(4)، وبالتالي تسويغها بغطاء الدين وتفعيل معنى الكراهية ضد الآخر (الشرقي)، لا سيما أن ذلك العصر انتشرت فيه الخرافة والإيمان المطلق بالخوارق(5)، التي بدا تحقيقها، وصولاً إلى الخلاصِ، ممكنا، من خلال حملات حربية تحقق مكاسب دنيوية. 
ولقد عملت السياسة على تعميق الطابع التحريضي، وعلى طمس حقيقة الشرق بفعل عقدة النقص التي كان الغرب يعانيها إبَّان الحروب الصليبية الأولى، وما انتهت إليه من إخفاقات. فكثير من الصور المشوهة للإسلام ترسخت في الثقافة الغربية كعقد نفسية، "وهذه العقدة التي ظهرت بفعل صدمة فتوحات الخلافة الإسلامية الأولى، وتجددت وقويت بظهور العثمانيين، الذين حققوا في 1453 ما فشل الأمويون في تحقيقه، أي السيطرة على القسطنطينية 669-674"(6). 
كان حال الشرق الأوروبي البيزنطي لا يؤمن بتشريع الحروب وصولاً إلى الخلاص، فالقديس الكبادوكي عدَّ الجندي المسيحي هو من يموت متسلحاً بالإيمان، وليس مَن يُقتل في الحرب. ثم أقدم القديس أوغسطين (354 - 430 م) على توفير الغطاء الكنسي لفكرة الحرب، داعياً إلى أن (الرب) هو الآمر بالحرب التي تشن بهدف فرض السلام!
ومع هذا، فإن (أوغسطين) اشترط أن تكون الحرب عن طريق حاكمٍ شرعي، وأن تكون الحرب الوسيلة الأخيرة، وتحت وصاية كنسية، وذات شرط أخلاقي. لكن على الرغم من هذه الاشتراطات التي حددها، فإنها شرعنت مفهوم الحرب الدينية، ومن هنا قام البابا طريطوري لاحقاً (590- 603م) بعسكرة الكنيسة، وقام بالتحريض على محاربة أعداء الكنيسة، بحسب وصفه. أما البابا (ليو الرابع) (847 - 855م)، فقد ربط بين الحروب الصليبية وبين مفهوم الخلاص، ووعد من يموت في القتال من الجنود بمكافأة ملكوتية(7). 
إن العزل بين الانتماء المسيحي وبين الحروب الصليبية، والفصل بين الإرث التاريخي للكنيسة الشرقية، عن أدبيات الحروب الصليبية، يحتاج إلى وعي وحوار مستجد، يخدم الفهم الحقيقي للحادثة التاريخية، وهذا الأمر لا يقتصر على المسلمين وحدهم، بل يحتاج إليه مسيحيو الشرق، فضلا عن مسيحيي الغرب، ممن يناهضون الشِقاق ذا الطابع الصليبي. وهنا يدخل الحوار أداةً لمنع التحريض الخارجي، وإحباط محاولاته في تفكيك أمن البلدان الإسلامية، التي تضم المسلمين وغير المسلمين.

مِن حوار الهوية إلى حوار الذات الإنسانية:
وفي الإطار التصوري يمكن أن نرى "الهوية" كحالة متحركة دينامية لا تكف عن التشكل والتبلور، والتداخل والتشابك، والانكماش والتمدد. والهوية كائن حي ينمو ويزدهر، ويكتسب خبرةً بالتفاعل والتنوع، ويختنق بالانغلاق والتضييق. ومفهوم الهوية محتوى بعيد المعنى، غرضه تمييز الناس طِبقاً لاتجاهاتهم، لا لأنسابهم. قال تعالى: [يا أيها الناس إنا خلقناكم مِن ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير]. قال البغوي في تفسير الآية: "لِتَعَارَفُوا: لِيَعْرِف بعضكم بعضا في قرب النسب وبُعْدِه، لا لِيَتَفَاخَرُوا". والدليل على أن تصنيفَ الناس بين شعوبٍ وقبائل هو لأجل التمييز، ومعرفة الانتماء، لا للتفاخر، قولُه تعالى: إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ليصرف التفاضل بالأنساب ويقصرها على التقوى. قال ابن كثير: [إن أكرمكم عند الله أتقاكم]، إنما تتفاضلون عند الله بالتقوى لا بالأحساب. وقد وردت الأحاديث بذلك عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "كلكم بنو آدم. وآدم خلق من تراب، ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان"(8).
إن المرجعية إلى آدم (عليه السلام) مرجعية خلْقية، ويختلف الناس قرباً وبعداً عن خالقهم بأفعالهم وإيمانهم، ولا شيء يجرِّدهم من انتمائهم الإنساني. وهذه صلة جامعة لا ينفيها إلا التقاطع فيما بين الناس، بحسب أفعالهم، حينها يكون تقاطعهم تقاطع اعتقاد، لكنه لا يبرر التعادي والاحتراب والكراهية، ما لم يتحول إلى أفعال موغلة في الشر، والتصريح العمد بالكفر. وإن اختلاف الهوية لا يعني إلغاءَ الشراكة الإنسانية، ولا يعني الإخلال بالحق والعدل.
ولم يكتف الإسلام باحترام إنسانية الإنسان، بل نرى النبي (صلى الله عليه وسلم) يحترم النفس البشرية، أيما كانت، ويأمرنا بذلك. ففي (صحيح البخاري) بسندٍ عن جابر، قال: "مرّت بنا جنازة، فقام لها النبي، وقمنا به، فقلنا: يا رسول الله، إنها جنازة يهودي! قال: "إذا رأيتم الجنازة فقوموا".
وفي حديث آخر، إن النبي (صلى الله عليه وسلم) مرّت به جنازة فقام، فقيل له: إنها جنازة يهودي، فقال: "أليست نفساً". وبهذا الأسلوب، وهذه التربية، نجح الإسلام في تحقيق التوازن والتعادل في نفس الإنسان، بين ثقته المطلقة بأحقية دينه، وبين احترام الأديان السماوية، وأصحابها.
وقد تحدث (غوستاف لوبون) عن هذه الميزة للإسلام، بقوله: "إن الإسلام هو الذي علم الإنسانية كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين، وقد كان يُظنّ أنهما لا يجتمعان".
كما أشار (هاملتون جب) إلى ذلك قائلاً: "المسلمون أول من ألفوا في الملل والنحل، لأنهم كانوا واسعي الصدر تجاه العقائد الأخرى، وحاولوا أن يفهموها ويدحضوها بالبرهان، واعترفوا بما أتى قبل الإسلام من ديانات توحيدية. وكتب (البيروني) في أديان الهند في القرن الخامس من الهجرة، دون تحقير وتجن. وفي كتاب (طبقات الأطباء) لابن أبي أصيبعة، و(طبقات الأدباء) لياقوت، و(الوافي بالوفيات) للصفدي، أمثلة لهذا التسامح. فالقاسم البشري المشترك له مكانته في الأديان السماوية، ويختصره قول الإمام علي: "الناس صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق".

حوار الأديان من الاعتقاد إلى الواقع:
لكلِ اعتقاد أصولٌ يتجاوز بعضُها النقاش العقلي إلى الإيمان الغيبي. ولكل اعتقاد تجلياتُه في سلوك الناس وأفعالهم وأقوالهم. والعلم بالاعتقادات عن كثبٍ ورسوخ، هو الذي يُمكننا من عقد مقارنة، أو مقابلة، بين الأديان، على أسس علمية. ومناقشة الاعتقادات تلزم المتحاورين بالدرايةِ بهذه المعتقدات، والتخصص فيها، لأنها من القضايا العليا التي لا يُبرر معها الجهل. 
وهذا المفكر الروسي (نيقولاي دانيليفسكي) (1822-1885) يقول: "ليس هناك حضارة واحدة في العالم، وإنمّا هناك طُرز من الحضارات، لكلّ منها خصائصها ومميِّزاتها. والتاريخ البشريّ في مجموعه، لا يسير في خطّ مستقيم، يتّبع اتّجاهاً واحداً، وإنّما مكوّن من حركات مختلفة الاتّجاهات، تتبع خطوطاً متباينة، وتكشف عن وجهات أو قيم كثيرة خلال الطرز المختلفة من الحضارات"(9).
ومن هنا يمكننا التحاور مع الآخر حول الأمور السلوكية والأخلاقية والنفسية، التي لها لديهم قبولاً، قد نلتقي معها في توجيهها إلى فعل الخير، ونشر السلام والأمن والحياة الكريمة بين الناس، ضد الانحرافات الفكرية والعادات والتقاليد المنحرفة.
وهنا تكمن إضافة الدين للحياة وواقع الناس، فالناس قد يعيشون شركاء في بيئة واحدة، أو وطن معين، مما يستلزم تفاهماً وتلاقياً نحو أمور تسيِّر اجتماعهم وعيشهم في بيئة مشتركة.
وهناك الكثير من الجهود تحاول طرح مسائل الاعتقاد للنقاش والمقارنة، وهذا شأن المهتمين والمتخصصين، وهو يصلح لدراسات الأديان المقارنة في الجامعات، وفي دوائر الحوار، التي تضم ناشطين في مؤسسات المجتمع، حين تكون لهم الأهلية المعرفية والدراية بأساليب الحوار وأهدافه. 

حوار الأديان من النخب إلى القواعد:
إن الحوار الذي يقوم به ذوو الاختصاص، على مستوى المجتمع، غالباً ما يكون ذا طابع احتفالي، ولا يكفي وحده للتغلغل في نسيج المجتمع، لإعطاء الحوار بعداً إيجابياً، فالمجتمع بحاجة إلى مَن ينزل إليه، وهذا المستوى الجماهيري أشد أثراً وحيوية في إنجاح أهداف الحوار والتفاهم.
وعند انتقال الحوار إلى قطاعات الناس، يظهر جلياً الدور الفاعل "لعلماء الدين" ليكون جسراً بين ثقافة النخب الناشطة في ميدان الحوار الفكري النخبوي، ووعي الناس.
ولا أحد مثل علماء الدين، في المساجد، والكنائس، والمدارس، والأسواق، له دور في الوصول إلى نتائج جدية، في إشاعة روح الحوار والتفاهم، لأنه بالأساس موجِّه ومعلم وداعية، وفي الإسلام لا ينحصر واجبه في المجال الاعتقادي والعبادي، بل ينغمس في أمور دنياهم، ليكون جسرَ تواصلَ فيما بينهم. 

الطريق إلى استقطاب قِوى الخير: 
يظن البعض أن الغرب كله - شعوباً وحكومات - له ذات التوجه السياسي والعقدي، بينما الحقيقة أن المعارضين للتوجهات الدينية والسياسية المتطرفة كثيرون هناك. وقد تكون معارضتهم تلك نابعة من دوافع إنسانية بحتة، أو من رفضٍ الاستبداد، أو هم يعرفون شيئاً عن حقيقة الإسلام، ومطلعون على حجم الغبن المسلط عليهم في قضاياهم المصيرية، وما يعانونه من أحوال سياسية، تضطرهم إلى أن يكونوا متوجسين أو صارمين في مواقفهم تجاه الآخر المخالف.
لذلك، فإن الشريحة التي تبدي تفهماً وتعاطفاً، أو على الأقل حياداً، في عالم الغرب، بحاجة شديدة منا إلى مزيد من الفهم والاستيعاب لأحوالنا وحقوقنا، وفهم طبيعة ديننا ومبادئنا.
والحوار الهادف يجعلهم يقفون في صفنا لنتعايش معهم بسلام، مستثمرين مواقفهم الإيجابية، بدل أن ننفرهم ونتركهم يتخذون مواقف متشنجة سلبية من قضايانا.
وهنا نستشهد بقول الأبوين (جوزف كوك/ j.Cuoq) و(لويس غارديه/ L.Gardet) في كتابٍ لهما صدر سنة (1962-1965): "يجب علينا كمسيحيين، ونحن نخاطب المسلمين، أن نفكر قبل كل شيء في صعوبات وعوائق الحوار (مع المسلمين)، والتي تتعلق بنا إلى حد كبير، وإلى الظلم والجور الذي أحاط به الغرب، واقترف ذنوباً وآثاماً عديدة بحقهم. ويجب أن نأخذ في اعتبارنا أن العصور الماضية، كالسنوات الحالية، قد تركت في الأذهان والأفكار، وخاصة في بعض المناطق، مرارة عميقة حيال الغرب .... إن المسيحيين أوقفوا، بل حطموا انطلاقهم الحضاري نتيجة الحروب الصليبية، التي أسهمت بوضع حد لأكثر الأوقات ازدهاراً في التاريخ الإسلامي. يضاف إلى هذا الاستعمار... الذي حال دون نهضتهم، التي بدأت بشائرها تظهر في القرن التاسع عشر... علينا أن نعترف بكل أمانة وصدق بالمظالم التي ارتكبها الغرب، وأن نعطي الدليل على أننا نتخلى عن تضامننا مع التفكير والذهنية اللتين سادتا الماضي، ومع بعض التصرفات في الوقت الحاضر، لنتحرر من أفكارنا المسبقة "(10).
إن التركيز على نشر الدين المتسامح، قوة فاعلة في المجتمعات، وهو خطاب فكري وأخلاقي بنَّاء، ومن السهل جعله وسيلة لاستقطاب قوى الخير في شتى الحضارات المختلفة. وإن مثل هكذا حوار، يتيح لنا معرفة عناصر النفع والخير لدى الآخرين، واستثمارها في بناء الصلات الهادفة. 
ومِن جهةٍ أخرى، فإن (الآخر) مرآةٌ قد نرى من خلالها عيوبنا وتقصيراتِنا تجاه أنفسنا وتجاه العالم، فالخطأ والتقصير سمةٌ بشرية، ونحن لسنا جميعاً على صلةٍ واحدة متينة بأواصر ديننا، ولسنا كلنا نمتلك ذات التضحية والسلوك والمطاولة والخبرة في نشره بين الناس، لذلك فالخلل والتقصير والتفريط أمورٌ واردة في سلوك الكثير من الناس، مع أنهم يدعون أنهم متمسكون بتعاليم الدين.
وهذه الفئة، التي تختلف معنا في الدين، قد تحمل القابلية على التلاقي في نقاط مشتركة، وتكون نافذةً مفيدة لنا على إيصال أصواتنا وتصوراتنا بشكل سليم إلى مجتمعاتها. ويتم ذلك من خلال الحوار معهم، والسماع لهم، وحملهم على تمثُّل حقيقة حضارتنا وديننا وتاريخنا المشحون بالخير والنفع للعالم أجمع. وهذا يقتضي معرفةً بأسس ديننا وتاريخنا وطبيعة حضارتنا ومعالمها. حينها سندرك مدى الخلل والتقصير في الجانب المعرفي في هذه الأمور، وحاجتنا القصوى إلى فن الحوار الناجز. كما أن الجهل بأدوات الخطاب، تفضي إلى عجزٍ عن إيصال خطابنا إلى الآخر.
لذلك، فعلى الناشطين في مجال الحوار، أن يتسلحوا بالمعرفة، ليكونوا عناصرَ فاعلة، لها القابلية على نقل الحقيقة للآخر، وإفهامهم ما أشكل عليه، لا الاكتفاء بالشعارات والآمال وتعظيم الذات. 

الحوار ورد الشبهات:
هناك على الدوام شبهات تُثار حول الإسلام، تاريخاً وحضارة، وهذه الشبهات منها ما هو نابعٌ من سوء الفهم، ومنها ما هو ناتجٌ عن قصديةٍ سيئة، وتطرف، ونفي للآخر. والحوار العلمي، سواء من خلال المناظرات، أو الكتب، يفضي إلى مد جسور التلاقي، والحد من نشاط المغرضين ضد الحقيقة.
ومتى ما كان الأمر يسير على منوال علمي، يشوبه الاحترام، وقوة الحجة، وسلاسة الخطاب والأسلوب، يؤدي الحوار دوره خدمة للإسلام، وخدمة للآخر، الذي يهمه تصحيح تصوراته، ونزع الرواسب التي علُقت في ذهنه، بسبب سوء المعرفة، والتحريض من لدن أطراف خفية، أو معلنة، لا تريد به ولا بنا خيراً.
ولقد كان لكثير من المفكرين والدعاة والإعلاميين باع طويل في هذا المجال، لكنهم تفاوتوا في القدرة على التواصل والدقة في الطرح، فضلاً عن اختلاف في مستوى الهدوء النفسي، والابتعاد عن الشد والتشنج.
ومن جهة أخرى، كان لمفكرين غربيين جهود مضنية في هذا المجال، قُبالة آخرين مسيئين، أو جهّال، من أبناء جلدتهم، انصب همهم على نشر الافتراءات والشبهات، التي تنال من حقيقة الإسلام.
ونورد هنا نموذجاً متحاملاً مدلساً، لنرى الفرق بينه وبين أشخاص معتدلين منصفين، كي نرى كم نحن بحاجة إلى حوار وتواصل مع المنصفين، لمقاومة مدّ انحراف المنحرفين من بني جلدتهم.
فهذا المؤرخ الألماني (هارتويك هرشفيلد) يقول: "إن الصورة الصحيحة لانتشار الإسلام لم تكن سوى "السيف والخنجر"، فهما اللذان هيمنا، وليس الانتشار السلمي للإسلام"، وإن ما عمله الإسلام هو أنه اضطهد الشعوب والقبائل الخاضعة له(11)، وهذا كلام متحاملٌ محرِّضٌ، يتعارض مع الحادثة التاريخية، ومع ألوف الشهادات التاريخية، التي تثبت عكس هذا الادعاء تماماً، لذلك سنستشهد على النقيض منه بأقوال المنصفين وأصحاء العلماء الغربيين. فهذا المستشرق البريطاني Sir Thomas Arnold قد تصدى وبقوة في كتابه "الدعوة إلى الإسلام" للكثير من مثل هكذا أوهام وافتراءات، مُركزاً على قضية روح التسامح والقوة المعنوية والاعتقادية في الإسلام، وأنه لم ينتشر ويتسع بسبب استخدام القوة، وأن الانحراف الكنسي عن الروح المسيحية، والإغراق في الرموز، واتباع القسر والشدة، هو الذي أدى إلى تراجع المسيحية أمام الإسلام. يقول: "أما في الإسلام، فإن عدم وجود أي لون من ألوان الكهنوت، قد جعل نشاط الدعوة عند المسلمين يتجلى في صور مختلفة تمام الاختلاف عن تلك التي تظهر في تاريخ البعوث التبشيرية المسيحية. فليس هنالك جمعيات للدعوة، ولا موكَّلون مدبرون لهذا الغرض"(12).
حاول (آرنولد) من خلال حواراته انتقاء بعض الشخصيات الإسلامية، التي عُرفت بمبدأ التسامح الديني في التاريخ، مثل الخليفة (عمر بن الخطاب) (رضي الله عنه)، وسياسته تجاه النصارى وأصحاب الديانات الأخرى، ويشير إلى أن التسامح الديني لديه بلغ حداً أنه "أمر أن يعطى قوماً مجذومين من النصارى من الصدقات، وأن يجرى عليهم القوت" (13). وكذلك سياسته مع الأقباط بعد فتح مصر، وكيف "جلب الفتح الإسلامي إليهم حياةً تقوم على الحرية الدينية، التي لم ينعموا بها من قبل ذلك بقرن من الزمان"(14). 
واستشهد (آرنولد) بملاحظات المستشرق البريطاني (فيث Veth) التي أكدت على قلة عناية الجامعات البريطانية بدراسة الإسلام، "وعزا ذلك إلى التأثيرات التي مارسها رجال الدين... ومع أن بعض الجامعات البريطانية قامت بإنجاز بحوث عديدة لتبييض صورتها، لكن بقي عدد من الكتابات الإنكليزية، التي تناولت الإسلام بتعصب، متأثرة بأفكار رجال الدين أولئك"، مدللاً على حجم التعسف الذي وقع على المسلمين جرَّاء تلك المناهج، كما أن هنالك شواهد على عدم موضوعية السياسة والصحافة البريطانية، في تناول الإسلام(15). 
ومثال آخر يحمل ذات النزعة التصحيحية، والتي تنفع لأن تكون شواهد حوارية، ما تحدث عنه الفيلسوف البريطاني (برتراند رسل) (1872-1970) - وهو إلحادي النزعة - في بحثه عن عنصر التسامح في الإسلام، موضّحاً أن الإسلام انتشر بفعل "تسامح متحرر الفكر، حيث أظهر المسلمون تسامحاً في التعامل مع المسيحيين، وأن الفضل في سهولة فتوحاتهم يعود إلى هذا التسامح الذي يبدو بارزاً، إذا ما قورن بالحماسة التعسفية والاضطهادية التي عرفت عن الكنيسة الكاثوليكية" (16). 
إذن فالحوار الإيجابي الداعي إلى التلاقي على الخير والسلم العالمي، علاقةٌ أخلاقية وحضارية مفيدة في إشاعة والوئام والفهم، وطريق لسد منافذ الدعوات المغرضة، التي لا تستهدف الأديان فحسب، بل الإنسان،بما هو إنسان، والتي تأتي استجابة لنوزاع الأنانية والطمع والعقد الاعتقادية والنفسية. وهذا كله يستلزم التسلح بأفق الحوار ومعرفة أدواته وطرائقه وأجوائه ومنافذه الملائمة 

--------
المصادر:
1- المسلمون والمسيحيون في المجتمع المعاصر. صورة الآخر ومعنى المواطنة، المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية (الأردن: مؤسسة آل البيت، 1998)، ص 28. 
-2الإسلام على مفترق الطرق، ليبولد فايس (محمد أسد)، ترجمة: عمر فروخ (ط6، بيروت: دار العلم للملايين، 1965)، ص62.
-3موجز تاريخ الحروب الصليبية، مصطفى وهبة (دار الإيمان للطبع والنشر والتوزيع، 1997)، ص9.
4-The Pelican History of the Middle Ages, Maurice Keen, pp.123. 
5- The Awakening of Europe, Wolff p.202.
6-Western Views of Islam in Medieval and Early Modern Europe. David R. Blanks and Michael Frassetto.. Pp.210.
7-Views of Islam in the meddle ages. Southern. P. 35. London 1962
-8انظر: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير( لبنان: دار الجيل، 1988)،ج4 ، ص219.
-9 محمّد فتحي عثمان، مدخل إلى التاريخ الإسلاميّ، (ط1، بيروت: دار النفائس، 1992)،ص476.
-10صورة الإسلام في أوروبا في القرون الوسطى، ريتشارد سوذرن، ترجمة: رضوان السيد، دار المدار الإسلامي، 2006، ص 11-12.
11- H. Hirschfeld, Review of Thomas Arnold, The Preaching of Islam" Journal of the Royal Asiatic Society of Great Britain and Ireland, (Jul., 1899), pp. 682-683
-12 الدعوة إلى الإسلام، ترجمة: حسن إبراهيم حسن وآخرون (القاهرة: مكتبة النهضة المصرية،1971)، ص 449. 
-13المصدر نفسه، ص75.
-14المصدر نفسه، ص57.
15-The Study of Arabic. T. W. Arnold. Bulletin of the School of Oriental Studies, University of London, Vol. 1, No. 1. (1917), pp. 112-121.
16- برتراند رسل، السلطان، ترجمة: خيري حماد (ط1، بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر،1962)، ص165. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق