المكان في القرآن الكريم (باللغة الكوردية) |
كامران محمد صابر
طالما أبهرتنِي المواطئُ المكانيَّةُ المبثوثة في ثنايا الذكر الحكيم. ولطالما أدهشتني المواقِع والأمكنة الجغرافيَّة المنشورة طُولاً وعرضاً عبر سورِ وآياتِ القرآن الكريم، ولشدّ ما جذبني المنطوقُ المكانيّ المغروز في بنية النصِّ القرآنيّ إلى مدلولهِ ومضمُونه، وقد اكتسبَ هذا الأمرُ لديَّ ديمومةً فائِقة استمرّتْ لعقُودٍ مِنَ السنين استشفّ خلالها الموقعَ المكانيَّ عبرَ القرآن مَنطُوقاً ومَلْفوظاً، قبل أن يفيضَ بي الأمرُ إلى مآلٍ لا أجدُ فيهِ بُدّاً من أن أضطلعَ بهذهِ المهمّة، وهي النبشُ في مكنونِ الثيمة المكانيّة، وتفحّصِ مواقعها في إطارِ النصِّ القرآني.
ويعودُ شغفي وولعي بالمكان والفضاء المكانيّ إلى أيّام الصِّبا، وإلى مرحلةٍ مُبكّرة من حياتي، فقد كنتُ أنزوي في رُكْنٍ قصيّ من بيتِنا الفسيح في مدينةِ كركوك إحساساً منِّي بثقل وإيحاءِ المكان، وقد شكّل عندي هذا النزوعُ دافعاً قويَّاً لاضطلعَ بهذهِ المهمّة الجليلة، ألا وهي البحثُ الجادّ عن الفحوى المكانيّ في آي الذكر الحكيم، والسعي إلى استخراجِ الموطئ المكانيّ وصياغته وقولبته في دراسةٍ دلاليّة تتناولُ هذهِ الثيمة، وقد تحقّق ليَ هذا المطمح، وقمتُ بإجراءِ دراسةٍ عامّة وشامِلة عن المكانِ في القرآنِ الكريم، تناولتُ فيها الثيمةَ المكانيّةَ بكافّة أبعادِها وتلاوينها، ودورها في إطارِ النصُوصِ القرآنيّة، ساعياً وبشَكْلٍ حثيث إلى صقلها وتجليتِها، وتسليطِ الضوء على مكنوناتها ودلالاتها، واستنباطِ ما غار من مضامينها، واستخراجِ أنماطِها بغيةَ استخلاصِ نظريّة مُستكملة العناصِر عنِ المكانِ في القرآنِ الكريم، وأنا لا أدَّعي أنّني وضعتُ يديَّ على نظريّةٍ شامِلة للمكانِ في آياتِ القرآن الكريم، فالوقتُ لا زالَ مُبكِّراً لذلك، نظراً لجدّة المباحِث المكانيّة، فبقيَ هذا المآل مُندرِجاً ضمن طموحاتي المستقبليَّة، والحقيقةُ التي لا يرقى إليها الشكّ أن التباطُؤَ كان سيِّدَ الموقِف في استخلاصِ النظريّةِ المكانيّة، والخمولُ كان طاغياً في التعامُلِ مع قضيّةِ المكان، فلربّما لم يَكُنْ هذا المحورُ قُطباً في رحى العلُوم التقليديَّة، ولا مداراً في عمُومِ القضايا العلميَّة والأدبيَّة المطرُوحة، فالبتُّ بالمبحث المكانيّ كعنصرٍ فكريّ وأدبيّ جاءَ مُتأخِّراً، ناهيكَ عن ندرتهِ وقِلّته في عمُومِ الدراساتِ العِلميَّة، فلو ألقيتَ نظرةً خاطِفة إلى مُجملِ الدراساتِ والبحُوث التي نسجت في هذا المجالِ، فلا يقعُ عينيكَ إلاّ على النزرِ اليسير مِنَ الكتبِ التي تتناولُ المدلُولَ المكانيَّ، فقليلةٌ هِيَ الكتبُ التي تبحثُ في موضُوعةِ المكان سواء في الأدب أو الشِّعر أو الرواية، ناهيكَ عن المكانِ في القرآنِ الكريم، والأمرُ يشملُ اللغة العربيَّة، والكورديَّة، والفارسيَّة، ورُبَّما لغاتٍ أُخرى، فبعدَ جهدٍ جهيد وضعتُ يديَّ على عددٍ مِنَ الدراساتِ في الشِّعر والأدب والرواية باللغةِ العربيَّة تعدّ مقارباتٍ أوليَّةً في حقلِ المكان، وهذهِ مشكلةٌ عويصة، يُعاني مَنْ يسعى إلى البتِّ في الثيمةِ المكانيَّة، وفي مِلّتي واعتقادِي أنَّ مكمن المشكلة يتمثَّلُ أساساً في أن الموقِعَ المكانيَّ لم يتحوَّلْ كعُنْصرٍ أدبيّ إلى قضيَّةٍ محوريّة في الأُطر الأدبيّة والفكريّة طوال التاريخ العربيّ والإسلاميّ، وهذا يُشَكِّلُ قصُوراً واضِحاً فاضِحاً في مجالِ الرؤيةِ الشّاملة، فالرؤيةُ الفكريّةُ المستكملة يجب أن تكون مقولبة ومنصوصة ومصبُوبة في نظريّةٍ جامِعة تتناولُ الثيمة، فإذا انتقصت منها فإنها ستصيبُ بخدشٍ كبير، كما هو الحال في الفكرِ الإسلاميّ المدوّن، فإنه لَمْ ينفذ إلى أعماقِ الفَحْوَى المكانيّ بوصفهِ عنصراً من عناصرهِ إلاّ نادِراً، وإذا تعرَّضَ هذا الفكرُ لهذا الفحوى، فستجدهُ يتناولهُ من وجهةِ نظرٍ جغرافيَّة بحتة دون مناوشة الثيمة وفق مدلولِها الأدبيّ والفكريّ. فالدراساتُ المكانيَّة قديماً تأخذ الموضُوع من أبعادِها الجغرافيّة، فتتحدَّثُ عن المقاييس والمسافات، وتخوضُ في تفاصيلِ الأجزاء، كالتضاريس والمرتفعات والأراضي الزراعيَّة والأنهار، أو رُبَّما يلوي هذا الفكرُ على الأطلال والديار بعدما هجرُوها أهلُها، وبالأخصّ الشعر الجاهليّ والمعلّقات السبع التي نالت الحظّ الأوفر في التبجيل والتقديس في فترةِ ما قبلَ الإسلام، وكانت الفترةُ الأُموية أيضاً امتداداً أدبيَّاً للشعرِ الجاهليّ من حيثُ الأبنيةُ الشعريّة، ومن حيثُ تناولُ المواضيع المختلفة مع فارِقٍ ضئيل، كالبُكاء على الأطلالِ والديار المهجُورة.
وعَوْداً على بَدْء فإن الثيمةَ المكانيَّةَ مغروزةٌ في مهادِ الفكرِ الإسلاميّ، وفي التاريخِ الإسلاميّ شواهِدُ على وجُودِ هذهِ الثيمة، فقد كان النبـيُّ (عليهِ الصلاةُ والسَّلام) يَلْتَجِئُ إلى غار (حِراء) مُتَبَتِّلاً، فقد كان هذا المكانُ محبّباً إلى نفسه قبلَ نزُولِ الوحي، وكان غار (ثور) مَلاذاً لهُ ولصاحبهِ أبي بكر (رضي الله عنه)، فالمكانُ حاضِرٌ وبقوّة في الفكرِ الإسلاميّ والتاريخ الإسلاميّ على حدٍّ سواء، وهو حضُورٌ مُترابِط ومُتَسَلْسِل يتوجَّهُ الحضورُ المكانيُّ الفاعِلُ في القرآنِ الكريم، والعنصرُ المكانيُّ موصُولٌ بالله سبحانه وتعالى، فالله هو خالِقُ المكان، والمكانُ مَخلُوقٌ من مخلُوقاتِ الله تعالى، [مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ](الملك:3-4). وأَدِمِ النَّظَرَ في الثيمةِ المكانيَّة المغرُوزة في النصِّ القرآنيّ، فسينقلِبُ إليكَ - وبلا شكّ - بصرُك خاسِئاً وهو حسير، ومن جهةٍ أُخرى أودُّ القَوْلَ إنَّ المكانَ قد شكّلَ عندي جزءاً مِنَ المساحةِ الفكريّة والذهنيَّة، وشغلَ ذاكرتي رَدْحاً مِنَ الزّمن قبلَ أن يتحوَّلَ إلى قضيَّةٍ ينسابُ بفحواها القلمُ، فقد كان (جامِعُ الإخوان) في كركُوك، شَكْلاً مُهيمناً مِنْ أشكالِ هذهِ المساحة الفكريّة، فقد كنتُ أتردَّدُ إلى هذا الجامِع القريب من بيتِنا في مدينةِ كركُوك، وقد كنتُ أذرُع باحَتَهُ جيئةً وذهاباً، مُستمتِعاً بفضائهِ المكانيِّ، وكنتُ أرنو إلى منارَتِه الشّاهِقة من على سطحِ بيتِنا القريب مِنَ الجامِع، أتلمّسُ شمُوعه الخضراء والصفراء والحمراء، فقد التصقتْ ذاكِرتي المكانيّة بالجامِع والمسجِد، كمفصل عبادي أتردّدُ إليه، واستشفُّ من إيحائهِ، واستظِلُّ بظلِّه الوارِف، وأشُمُّ عِطْرَهُ الفوّاح، فأوّلُ مكان أعجبني نمطُ تركيبتهِ، وطِرازهُ المعماريّ المبسّط، هو هذا الجامِع حيثُ يسقِطُ بسحرهِ على ذهني وروحي، ويغدِقُ صبابته عليَّ، ففي هذا الجامِع استنشقْتُ أُولى نسماتِ المكان التعبديّ، ولقد بقيتُ استنشِقُ عَبَقَ هذا المكان، واستشفّ فيضَ تجلّياته وسطَ امتدادِ الصحوة الإسلاميّة المباركة في أوائِل الثمانينيات، ولكن مع الأسفِ الأسيف آلتِ الأُمور إلى ما آلتْ إليهِ من جَفافٍ في ينابيع الصحوةِ وانكماشِها، وخصُوصاً في مدينةِ كركُوك التي فاتها قِطارُ الصحوةِ في النصفِ الثاني من ثمانينياتِ القرنِ المنصرِم، ولكن مع ذلك ظلّتْ صِلتي بهذا المكان (جامِع الإخوان) يزدادُ يوماً بعد يوم، فمع انقطاعي عن الوَصْلِ المباشِر، فقد باتَ هذا الجامِعُ وعاءً مُعبّئاً في ذاكرتي المكانيّة، وخيطاً موصُولاً إلى طيفٍ واسِع مِنَ الإيماءاتِ المكانيّة المغرُوزة في نفسي وذهني ورُوحي. وحقيق عليَّ هنا - كَيْ يتمتّع القارئ الكورديّ بهذا السّحر الفيّاض الذي نهلتُ منه في عالَمِ المكان، أن أُقدِّمَ بين يديهِ أَوّلَ دراسةٍ عنِ الأمكنةِ في القرآنِ الكريم، وباللغةِ الكورديّة، وقد صرفتُ في إنجازِها أكثر من سنتينِ من سني عمري، أعمل بكدٍ وتعب وجهدٍ جهيد من أجلِ استخراجِها بهذا الشّكْل، هذا، وتتضمّنُ الدراسةُ فصُولاً عِدّة صنّفْتُها حسبَ التقسيماتِ الموضُوعيّة للأمكنةِ الوارِدة في القرآنِ الكريم، كالأمكنةِ الطبيعيّة، والأمكنة الصناعيّة، والأمكنة الجسديّة، وقد قمتُ بشرحِ كلّ هذهِ الأمكنة من حيث مراميها المكانيّة ودلالاتها المتباينة، وأودُّ في هذه العجالة أن أنوّهَ إلى أهميّة مُناوشةِ موضُوعةِ المكان، فمِنَ الضروريّ جِدّاً أن يهتمَّ الباحِثُون بالمكانِ بوصفهِ عنصراً أدبيَّاً وفكريّاً، وبالأخصّ الأُدباء والمثقّفُون والكُتّاب، فأدعُو جميعَ مَنْ لهم قدرةٌ على الكِتابة في هذا المجال أن يُولّوا وجُوهَهُمْ شَطْرَ الأمكنةِ القرآنيّة، وحيثما كانوا فليولّوا وجُوهَهُمْ شَطْرَه، ومهما كانتْ مشارِبُهم ومصادرُ تلقِّيهم، وعلى اختلافِ توجّهاتِهم وآرائِهم ومواقفهم مِنَ النصِّ الدينيّ ومن القرآنِ الكريم، فليهتمّوا بالمكانِ القرآنيِّ، وليولّوا وجُوهَهُمْ شَطْرَ الثيمةِ المكانيّة المغرُوزة في آي الذكرِ الحكيم، فإنَّهُم لو فعلُوا ذلِكَ لوجدُوا العجبَ العُجاب، فالقرآنُ يمتلِكُ حمولةً كبيرةً في الفكرِ والمصطلحِ المكانيِّ، والنصُّ القرآنيُّ خزَّانٌ ضخمٌ مُمْتَلِئٌ بالمفرداتِ المكانيّة، والتي تشكِّلُ قاعدةً متينةً لإجراءِ الدراساتِ والبحوثِ المكانيَّة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق