أ.محمد رشدي عبيد
المرأة الموضوع القديم الجديد الذي كتب فيه المفكِّرون من كُلِّ الأثنيات والحضارات فصولاً متعدِّدة، وجمعت فيه ملفات كثيرة ووجهات نظر من زوايا مختلفة، بعضها تنظير فقهي، وبعضها رد لشبهات وطروحات تتسم بالعجالة والحماسة أحياناً.. وتتعلّق أكثرها بجانب التشريع، وفك الاختناقات التي تحدث في العلاقات الثنائية بين الجنسين.. ولا زال المتابع يطّلع على مقارباتٍ أخرى وردودٍ واستنتاجات من النصِّ الدينيّ ودلالاته الحافّة، ومن تراث الشعوب وتجارب الأمم ونتاج الفلسفات.. وفي سياق اهتمامي بالقضية، رأيتُ أن أُضيف صورةً تكميليَّة، لتنجلِيَ بعض التصورات التي قد تتَّسِمُ بشيءٍ من الضبابية وعدم الوضُوح..
مِنْ أبرز مَنْ كتبَ عن المرأة (قاسم أمين) من (مصر)، في خطابهِ المتسرِّع، وذلك في كتابيه: تحرير المرأة - 1900، والمرأة الجديدة – 1911. وما يُلحظ فيه رد الفعل قبالة الحضارة الغربية ومنطلقاتها الفكرية ورؤاها الاجتماعية.. وتجاه مبالغة الخطاب المحلّي في حجب المرأة وتقييد حريتها، بعد أن كان موقفه
يتسم بالمحافظة، حتى اتهمه (سلامة موسى) بالجنون، لغلوِّه وخروجه عن المألوف.. وفي الاتجاه نفسه، نحو الشكل والمظهر النسوي الشائع، دافعت (نظيرة زين الدين) من (لبنان)، عن السفور الذي كان في مواجهة الحجب المكاني للمرأة في المجتمعات الإسلامية، ولم يكن يعني التبرُّج في صورته المعاصرة. وتعاملت (د.نوال السعداوي) مع الذكورة بمنطق طبقي متمرِّد، يكاد يُقلِّل من أهمية القانون الطبيعي، المتمثِّل في حفظ البكارة في الصبا والشباب حتى يتيسَّر الزواج، ودافعت عمَّا سَمَّته بحريّة التصرُّف في الجسد.. و(الطاهر الحداد) في (تونس) ذهب إلى حدٍّ حداثي، وهو تاريخية النصّ المؤسس في المجال النسوي، وإلى أن المساواة بين الجنسين هي هدف الشريعة من وراء تشريعاتها.. بينما ركّز الكتاب الإسلاميُّون المحافظون على العدل، وتنوُّع الاختصاص الوظيفيّ.
يتسم بالمحافظة، حتى اتهمه (سلامة موسى) بالجنون، لغلوِّه وخروجه عن المألوف.. وفي الاتجاه نفسه، نحو الشكل والمظهر النسوي الشائع، دافعت (نظيرة زين الدين) من (لبنان)، عن السفور الذي كان في مواجهة الحجب المكاني للمرأة في المجتمعات الإسلامية، ولم يكن يعني التبرُّج في صورته المعاصرة. وتعاملت (د.نوال السعداوي) مع الذكورة بمنطق طبقي متمرِّد، يكاد يُقلِّل من أهمية القانون الطبيعي، المتمثِّل في حفظ البكارة في الصبا والشباب حتى يتيسَّر الزواج، ودافعت عمَّا سَمَّته بحريّة التصرُّف في الجسد.. و(الطاهر الحداد) في (تونس) ذهب إلى حدٍّ حداثي، وهو تاريخية النصّ المؤسس في المجال النسوي، وإلى أن المساواة بين الجنسين هي هدف الشريعة من وراء تشريعاتها.. بينما ركّز الكتاب الإسلاميُّون المحافظون على العدل، وتنوُّع الاختصاص الوظيفيّ.
ولا يخفى على المطّلع على نظرية (فرويد) في التحليل النفسي، مبالغته في الإعلاء من شأن الغريزة الجنسيَّة، وآلياتها في النشاط الإنساني، إلى حدِّ الأسطرة والمغالطات والتعميم الموضوعي لعينات مرضى (فيينا) العصابيين والموسوسين.. لكنه، على الرغم من ذلك، لم يقلِّلْ من أهمية التسامي والاستعلاء على الشهوات لبلوغ الإنجاز الحضاري، باستبدال الدوافع الشهوية بأخرى غير جنسيَّة.. كما ينقل عن (ماركس) حَصْرهُ لحاجاتِ الإنسان في توفير الغذاء والمسكن والإشباع الجنسي، دون تحديد لحدود هذا الإشباع في مجتمع مختلط ضاغط مليء بالإثارة أو مترع بالعطل الحضاريّ.. مع وجُود طبقاتٍ عمرية واجتماعية وثقافية ودينية، قد تبحر بعيداً في علاقاتها الأنثوية، مِمَّا يدلُّ على تعميم غير موضوعي ومُبتسر.. وكان للتخريجات الاجتماعيّة لنظرية (دارون) - التي لم تستقر إلى الآن، حول تطور الإنسان، في كتابه (أصل الأنواع) - أثرٌ ما في نظرةِ بعضهِم إلى حاجته الجنسيَّة نظرةً لا تحتاجُ إلى كثيرِ تأطيرٍ أو تقنين، وكذلك في تأصيلِ الصراع بين الجنسين، مع الإشارة إلى أن الأُنثى كانتْ هِيَ الأضعف، كما أشار (إسماعيل مظهر) ممثل الداروينية في الشرق العربي.. وقد أشار (ماركس) و(السعداوي) و(قطب) إلى الظروف القاهرة للخروج الكثيف للطبقات الفقيرة، ومنها النساء، إلى العمل المختلط، بدون مراعاة ضوابط عدم الاستغلال المادي والجنسي. وحتى (ستالين) وضع قيُوداً على الطلاق والإجهاض والطفل غير الشرعي، وحتى (مارثا)، زوجة فرويد، كانت ربّة بيت، ومصدراً للهدوء والأمان والرومانسية لـ(فرويد)، وكانت تسهمُ في تطوير نظرياته.. ولا ننسى دور الحكايا التي وردت في العهد القديم، ذات الطابع الجنسي المحرّم، منسوبة إلى أنبياء محترمين.. وما يشتمل عليه (سفر الإنشاد) من طابع غزلي مثير، في تأجيج وتطبيع الجنس، وشرعنته، ولو خارج إطار الزواج. لقد لمح (فوكو) إلى كتاب منسوب لـ(ديموستين)، يقرِّر فيه "أننا نتخذ العاهراتِ لِلذة، ونتخذ الخليلاتِ للعناية بصِحّة أجسامِنا اليوميَّة، ونتخذ الزوجاتِ لِيَلِدْن لنا الأبناء الشرعيين، ويعنين ببيوتنا عناية تنطوي على الأمانة والإخلاص".
وفي خضمِّ هذه السجالات كانت بعض النظريات تأخذ ذات اليمين والشمال في أدلجة التاريخ الحضاري، باعتباره نتاج النظام الأبوي البطريركي أو الأُمومي.. فزادتِ العلاقاتُ بين الجنسين صِراعاً وابتذالاً وسطحية وشهوية.. وظهرت اتجاهاتٌ شاذة ذكوريّة وإناثيّة، مهدّدة بسقوط الحضارة، باستغناء الجنسين عن بعضهما، وعن الأطفال، وأجواء العائلة، فكَثُرَت حوادثُ الإجهاض، والاغتصاب.. كما كَثُرَت الاتصالات غير المشروعة.. وابتُلِيَ الناس بأمراض السيلان والزهري، ثم الآيدز، الذي يهلك الجنس البشري ببطء.. حتى أن (فاطمة المرنيسي) أشارتْ إلى أن (شهرزاد) بطلة (ألف ليلة وليلة) قد رحلتْ إلى الغرب!! ومن الغريب أن يحتجَّ الرئيس (بوتين) على الدعاية للمثليين في أولمبياد 2014.. وأن يُلاقي امتعاضاً من رؤساء دول كبيرة. لقد أصبح المال، كما تقول (السعداوي)، يُشترى به كل شيء، بما في ذلك الضمير والحب والجنس والزواج والطلاق والأدب والفن والإعلام والفضائيات والأصوات في الانتخابات، وتشكيل الأحزاب والجمعيات والتكتلات.. وفي مواجهة ذلك ظهر مفهوم الجندر، ويكاد يتحوَّل إلى عقيدة أو مذهب تحليليّ، ووسيلة من وسائلِ تحدِّي الذكُورة، وأداة من أدوات الصراع، بناءً على تنامي تفكير عنصري نسوي، لا يقلّ في لغته وأذاه عن التمييز الذكُوري، الذي يغيب جوهر الرسالات الدينية، بل قوانين الطبيعة أيضاً.
أمَّا الشرق، فقد كان الأمر يختلفُ في ظلِّ أوضاع اجتماعية يسودُها العرف، ويفشو فيها الجهل، ويغدو المرء رَقْماً سهلاً، مع شيءٍ مِنَ القيم المتوارثة، التي لم تخل من نظرة دونية للمرأة، وتجاهُلٍ لوجُودها.. وبعد اتصال الشرق الإسلامي بالغرب، وإنجازاته الفكرية والثقافية، عن طريق الرحلات، والاستشراق، والاستعمار، أُعيد إنتاج نظرته لدينا، بشكلٍ أو بآخر، في بعض الرُؤى والأعمال الأدبية والدرامية والفلسفيّة، إذ صُوِّر الشرقُ بمنظارِ ألف ليلة وليلة الحالِم والشبقيّ. فقد كان شرقُنا يغطّ في سُباتٍ عميق وتوقّفٍ حضاريّ، لكن البعثات العلميّة، والعروض الجسديّة "الملاهي" التي جلبها الآخر، والمناهج الضعيفة والوضعيّة، وبيوت البغاء، ثم القنوات الفضائية، ومنها المشفّرة.. أثرها الفاعل، هذا، وقد أذهلته الرُؤى والمنجزات التنظيرية الغربية، فاندفع لتبنِّيها بآلياتٍ منبهرة، وتصوُّرات جماليّة يختلطُ فيها الوعيُ باللاوعي، والرغبة بالخيالات الجنسية، وأسقط ذلك على العلاقات الاجتماعيّة أحياناً، وحدث الفِصَام النَّكِد بين كينونة الإنسان، التي تضع لكُلِّ حاجةٍ سقفاً ودرجةً في سُلّمِ الإشباع، وبين الشهوات التي لم يقدر لها أن تعمل بهذا الزخم والإثارة، لأن ذلك سيكون مستقبلاً مِنْ عوامِلِ التشتُّت والإحباط والإشكاليات الاجتماعية والعطل واللاإنجاز الحضاريّ.
بينما نجدُ اتجاهاتٍ ليبراليّةً وعلمانيّةً ويساريّةً تنظرُ إلى الصورة من زاويةٍ أُخرى، زاوية تحرير الأُنثى مِمَّا عُلِّقَ بها وبشخصيتها من الإقصاء والتهميش، وإزدواجيّة المعايير، والنظرةِ الدونيّة، والحجب المفرط، والتعطيل المدني والثقافي، وقد يكون من أسبابِ ذلك شِدَّة الغَيْرة الذكوريّة، والعادات القبليّة، واستغلال ضعف الأُنثى، والتجاهل لدورها الحضاري، وغزو النمط العولميّ لها، والمهدّد لثوابِتَ استقرت عليها نظرةُ المجتمع الإسلاميّ، لكن ظروفاً فكريّة واجتماعية أنتجت نظرةً مُتطرِّفة، تأخذ من الحياة وجهَها الجماليّ فقط، ولم تأخذ من نصح مفكّرين حذَّرُوا من ذلك، مُبيِّنين -كما يقولُ عالم الجمال بارتليمي -: "إن اللذة الجماليّة ومتابعتها المفرطة تؤدِّي إلى تعاسةٍ لا حدَّ لها".
كما أن كثيراً من حَملةِ الثقافة الدينيّة التقليديّة لم يتعرَّضوا لفاعليّة المرأة، ودورها الحضاري، الذي يعزِّزه الخطاب القرآنيّ، وركّزوا فقط على المحدّدات والمنظّمات لحِراكها، مع أن هناك أهدافاً ضمنيّة - تبدو للمفكِّرين من هذا النص - تحدِّدُ دور المرأة، إضافةً إلى تلك المحدِّدات، وقد هدى إليها النص وأهملها العرف، مِمّا أدّى إلى أن يتعطّل الكثيرُ من طاقاتِ النساء الحيويّة وقابليّاتها الإنجازية ضِمْن هذا الدور. وهكذا بقيتِ المرأةُ تتناوشُها ضغوطُ الواقِع ونداءُ العقل، وأحياناً لم تكد تتبيّن رسالتها في هذا الخضم.
ففي الخطِّ العام لرؤية النص للنساء نجد أنهن يَقُمْن بمهامِ الحياة الناشِطة، وإن كان لا يأمرهن بتخصصات معيّنة في أداء الخلافة، لكنّه يشيرُ أحياناً إلى نماذِجَ تاريخيّة، العنصر الغالب في العمل فيها هم الرِّجال، لكن الضرورة الاجتماعية كانت تفرض أن تتولّى المرأة أيضاً جزءاً من هذا العمل بكُلِّ أُنوثتها متجنِّبةً الاحتكاك الماديّ، مع الحساسيّة مِنَ الاستغلال بكُلِّ أشكاله، أو تغطية خصوصيتها لمآرِبَ شتَّى لا عَلاقة لها بمسؤوليّتها المباشِرة ودورها الوظيفيّ.
قدَّم النصُّ الإسلاميُّ رؤيةً مُتقدِّمة للمرأة، كما تقولُ (د.نوال السعداوي)، وبيَّنتْ أن المشكلةَ ليستْ في الدين، بَلْ في استخدامه لقهرِ المجتمع، كما أَقرَّت في كتاب (د.نوال السعداوي في قفص الإتهام) أن الإسلام لو فُهم بجوهره ومعانيه، فإن ذلك سيحدث انطلاقةً كبيرةً للمرأة، ثم صُودر ذلك الحق تحت ضغوطِ النظرةِ الحسيَّة والمتعية وتَشْييء المرأة، وإهمال عقلها، وحجب فكرها ومواهبها، وقراءة لكتاب (تحرير المرأة في عصر الرسالة)، الذي قدّم له (الغزالي) و(القرضاوي)، يبيِّن بعض أبعاد ذلك التحرير.
أمَّا اللون القصصيّ النصيّ، فإنه قدَّم نماذِجَ تاريخيّة، تعكسُ أن النساء كُنّ يَعِشْنَ عصرَهُنَّ بكُلِّ ما فيه من تموُّجاتٍ فكريّة وأيديولوجيّة، وكُنَّ يتخذن مواقِفَ مُتناقضة من قضيّة الخير والشر. فامرأة كانتْ تحكمُ (سبأ)، خضعت للتصورات الأسطورية لقومها فعبدت الشمس، تتخذ موقفاً عقدياً مُعاكساً، وآثرت السلم على حربٍ مجهولة النتائج، ويُسدل الستار على نشاطها بعد ذلك، ويُترك المشهد بدون إضاءة جوانب مشاركتها لـ(سليمان)، إلاّ في انضوائها معه تحت مِظلّة السلطة. وهذا السرد يدل على تقدير حرية المرأة في اتخاذ القرار، والتخلِّي عن الأضواء لصالح فكرةٍ أكثر تجريداً وحداثة وعُمْقاً، فكرة التوحيد المتطوّرة.
وهذه امرأة "فرعون" تُؤْثِر حياةً قَلِقة، ومليئةً بالمغامرة، وغير محسوبة النتائج، على حياةٍ آمنةٍ في ظلِّ سُلطةٍ سياسيَّة أبوابها موصدة دون قضيّة التوحيد. أقدمتْ على ذلك حتى لا تتحمَّل أوزار خطابٍ يتذرّع بفلسفةِ الممانعة على الخطابِ الجديد، وما يترتَّب عليه، فصارتْ مثلاً للذين آمنُوا في الاحتدام والتطلّعِ إلى مواصفاتٍ معنويّة للحياة، ولو في ما وراء الحياة المخملية التي كانت تعيشها. وهكذا، وظّفتِ القصةُ الأُنثى مرَّةً أُخرى لصالحِ القضية المركزيّة نفسِها، وهِيَ التوحيدُ. وينقل الخطابُ القَصصيُّ قصةَ امرأتَيْنِ لم يؤثر فيهما الخطاب النبوي، على الرّغم من كونهما تحت مِظلّة البنية الفوقية لهذين النبيين الكريمين، مِمَّا يشي بحريَّةِ المرأة في اختيارِ نمطِ التفكير والنظرة إلى القيم، ويؤشِّر إلى حقائق عديدة، يأخذ كل منها ما يشاء من ألوان التأويل، منها: الإشكالية بين قطبين: نبوي محافظ، وأنثوي؛ لم يقدر السقف المعنوي للرسالة. أمَّا (قصة يوسف)، فهي تمثل مقاومة جنسيَّة منقطعة النظير لإثارة مشبوهة وتدخلٍ كونيّ لحَسْمِ الصراع، وقد أثرت هذه القصة فنياً وعلائقياً في تراث المسلمين، وزيدت عليها رتوش وبنى تاريخية شتى.
ولندخل العصر، ونطرح الموضوع طَرْحاً موضوعيّاً: ترى ما الحل للإشكالية الثائرة بين الحين والآخر بين الجنسين؟ وما هو الموقف من هذه الأزمة، حتى لا تدخل في طريق مسدود؟ هل علاجها بالوعظ فقط؟ أم بتأصيل حيثيّات النظرة التاريخية لهذه القضية، وبعضها ملفات غابتْ مع الزمن، وكانت استجابةً لإشكاليات ذلك العصر؟ أم بالاستمرار في لهجة الدفاع الذكوري والاشتداد الخطابيّ؟ أم بتأصيل جديد للقضية يُراعي تكوين الإنسان بشقيه، ولا يهمل دوافع أي منهما، ولا يُؤزِّم المجتمع ويجعله ماكثاً في عالم التفاعل والتوتر الذكوري والإناثي بين الرغبة والإرادة، والتراث والمعاصرة، والنص وآفاقه، والواقع وتجلياته، بين مجرّد اللقاء الجنسي، وبين ظل الأُسرة وحضنها الطفولي. تلك الأسرة التي ذهب (روسو) إلى أنه لا توجد حالة للطبيعة لا يفترض وجودها فيها، كما أشار (لوك) إلى أن الذكر ملزم برعاية نسله والإبقاء على الأنثى لذلك، مِمّا يقتضي ضرورة الأسرة، التي تكادُ تطيح بها الاتجاهات المفتوحة والشاذة. كما ذهب (روسو) إلى أن الاحتشامَ والخجل والحساسية، من بين صفات أُخرى للأنثى، سمات فطرية لها، ومدعاة للجاذبية، أكثر من التبرّج . كما أنها في نظره تعين الرجال على الوصول إلى النتائج، وتهيء له الجو لذلك. كما تنقل عنه (سوزان موللر) في كتابها (النساء في الفكر السياسي الغربي).
يبدو أن الحلَّ الأخيرَ هو الحل الموضوعي، وهذا الحل لا يستغني عن آخر الكشوفات العلمية في عالم الإنسان، دون تجاهل للفضاء الثقافي الذي يفرزها ويحتويها، وإلاّ قد يتأبد قلق الإنسان، وتكثر تجاربه المتعثرة، ويبقى البعض أسير اللحظي والآني، ويسيّره عالم متراكم من الأهواء، وبناءات قانونية وفكرية، لا تخلو من المقاربة غير المحايدة، وغير البريئة، الحائمة على الإشكالات، أو المحتكة بالنص، لمجرّد توظيفه وقراءته بعيداً عن سياقاته التاريخية ومقارباته الواقعية ودلالته المركزية والحافة.
البعض يُنكر خصوصيتنا، ويعتب على (الباحث) توجهه لاستجلاء أبعاد قطعية من نصوص محترمة، متهماً من يقارب ذلك باستئصال الرغبة الحسية، وقمع الشهوة، والقضاء على عاطفة الحب، ومصادرة حق التملك في الجسد، حتى وصل الأمر بإقرار شرعية الزنا إذا حدث بموافقة الطرفين، وكان العمر ما فوق الثمانية عشر، دون أن يقدم البديل المقنع لقضية المرجعية الثقافية والهوية، وعلاقتها بموقع المرأة في الحياة، وحجم وجودها في مؤسساتها. وهم يتنكرون للبداهة والحَدْس والإحصاء في تلمّس الخيوط الدقيقة، التي تشكل نسيج الخصوصية لكل من الرجل والمرأة، وهما ينجزان مهام البناء والتنمية في مجتمعاتنا الواعدة، وفي تبين المضاعفات الخطيرة لترك المجتمع نهبة للهوى وحب العاجلة، بحجّة عدم ثبات القيم وزحزحتها المستمرة، تحت تأثير التنظيرات الحداثية الجائرة.
إن آلية الدفاع عن رؤية الإسلام للمجتمع، والمكانة الأبوية، والنزوعات الأمومية، وتجذيراتها، ووضع كل ذلك في موقع غير متطرف، كان لكل ذلك فضل في إعادة بعض الثقة بأدبيات هذا الدين، إلا أنها كانت سجالاً لم يصل في خطابه إلى جميع فصائل النخبة، ولا إلى الجمهور، إلا في تأصيل بعض التشريعات: كاللباس، وقوانين الأحوال الشخصية، التي نالها التشكيك، لكنها بقيت تقاوم التفكيك، لتعلّقها بموروثات متأصلة وعريقة في اللاشعور الجمعي للأمة، والمؤسسات القانونية. ولما وصلت بعض آثار الحداثة إلينا، أُعيد قراءة النص الديني بشكل يقنن أكثر لحقوق المرأة السياسية والعلمية والاجتماعية، ومِمّن كتب في هذا الاتجاه الدفاعي (د.مصطفى السباعي) في كتابه "المرأة بين الفقه والقانون"، مُقارناً بينهما، ومشيراً إلى الجانب السلبـيّ للحضارة الغربية من قضية المرأة، و(البوطي) في (مشكلاتنا ومشكلاتهم)، و(البهي الخولي) في (المرأة بين البيت والمجتمع).
فهناك مثلاً قضايا عديدة تحتك بالفكر الإسلامي تنتظر الحسم المنهجي، منها فكرة المساواة بين الجنسين، والاختلاط. فقد نصّتْ الدساتيرُ على فكرة المساواة، ومنها دستور تونس ومصر والعراق. وبينما نجد كاتباً مثل (ألكسيس كاريل)، الحائز على جائزة نوبل، يرى أن كل خلية من خلايا المرأة تشهد على فرادتها وخصوصيتها، يذكر بعض الكتاب أن التركيب العقليّ للمرأة لا توجد فيه فواصل قاطعة بين عالم الفكر وعالم الحس وعالم العاطفة وعالم الحكم الأخلاقي والاجتماعي، وأن ذكاء المرأة أميل إلى التأليف والشمول لا التحليل، قائم على الحَدْس والإلهام، والفراسة السريعة والاستشفاف والاستبصار، وتحكّم على الموضوع حسب ما تشعر به من جاذبية أو نفور، وأن كثيراً من تركيزها يتوجّه نحو جسدها وجماليته، ويرى (جون استيوارت مل) أن ذلك لا يعني دونية المرأة.. كما يستشهد المعاصرون بكاتباتٍ مبدعات، وسياسيات تاريخيات، ومعاصرات، على تفوّق المرأة.
وأصبح الاختلاط، الذي لم يرد نصٌّ بتحريمه، بدلالة المقاربة في التعليم والعمل والعسكرة والسفر والرياضة والإعلام والفن والأعمال الدرامية، العرف الشائع الذي لا يكاد يستنكر، ويكتفي البعض بالدعوة إلى ضبطه أخلاقياً، ذلك الاختلاط الذي تأثر به في الغرب (الطهطاوي)، و(قاسم أمين)، لمجرّد أجوائه الجمالية، دون تحفظ على آثاره، وإثارته، ويتأفّف بعض الكتاب من أيّ تنظيرات لهذه القضية، كما وجدنا لكاتب مثل (نبيل فيّاض)، و(نوال السعداوي)، تحت وطأة موضوعة الحرية، وعدم تعطيل مواهب النساء، مِمّا يستدعي مِمّن يكتب في هذه القضية مزيداً من الحساسية، خاصة وأن هذين الكاتبين يُشيران إلى ذلك الاستغلال نفسهِ الذي تتعرّض له المرأة في خروجها الكثيف. ولا شك أن الاستشهاد بكُلِّ رواية تاريخية من عصر الرسالة، على كم الاختلاط ونوعه، لا يقومُ شاهِداً على موضوعيته وصوابه، بينما نجد (300) مدرسة في أمريكا إناثية غير مختلطة.
وحيث أن الأزمة الجنسية تشتدُّ أحياناً، ولوجود إجراءات يبالَغ فيها، ولتعقيد الحضارة والعولمة، ظهرت أنواع من الزواج، يقف منه بعضهم موقف المتحفظ، أو الموافق، كالمسيار الذي وقف منه بعض العلماء إيجابياً أو مع الكراهة، أو الزواج العرفي بذرائع اقتصادية، أو السفر، ويوثق بورقة عرفية، كما تثور (قضية المتعة) في خضم الإثارة الجنسية والاختلاط وتأخر الزواج وعولمة التجارة والعلاقات وكثرة الأسفار، وتتجدّد جدلية الخلاف بين السنة والشيعة حول شروطها وتأصيلاتها اللانهائية، ولا بُدَّ من وقفة متأنية، تعيد توازن الحلّ الإسلامي بعيداً عن الارتجال والمذهبية والتقليد، فإذا كان الزواج حقاً دستورياً وشرعياً، فلا بُدَّ من تهيئة أوضاع لتيسيره، وإلاّ دخل في المسارب.
كما أن هناك تصريحات نسوية واحصائيات وشهادات لنساء عاملات تشير إلى أن العائلة على فوهة بركان، بسبب الإشكاليات والتأزمات داخل نسيجها، وكَثُرت حالات الطلاق الرسمي والعاطفي، وحالات الانتحار، وقتل الشرف، وضياع الطفولة. هنا قد يكون من الطريف أن ننوه بالفصام بين دعوات فلاسفة غربيين للحرية، وبين جمود عواطفهم، فقد أودع (جان جاك روسو) أولاده الخمسة في ملجأ للأطفال!!
كما نجد عدداً كبيراً من الفتيات والعوانس والأرامل يكاد يفوتهن قطار الزواج ويعانين الكآبة والحصر. ومن أسباب هذه المزاوجة الغريبة أن كثيراً من الأزواج لا يبدون حرصاً كافياً على إغناء هذه المؤسسة، وتجميلها، وتلطيف أجوائها، ولقد بيّن النص أن المودة والرحمة يجب أن تنفجر بين الزوجين، وفي ذلك جذور وجودية عميقة في تركيبة الإنسان، إذ تُصرِف عوامل الكآبة واليأس والانقطاع الوجودي والقلق الزمني، ويخفف من وطأة العمل اليومي الرتيب وشدة العزلة والوحدة في هذا العصر، بدون ذلك قد يكون الخلل، أو يكون التسرب من هذا المورد العذب، حيث الإبداء والإهدار الذي يكاد يصبح سمة هذا العصر، كما أن من فلسفة الدين أن يكون هناك تساكن إلى المرأة، وينبغي أن يتخذ ذلك شكلاً منهجياً متوازناً مقنعاً، إذ تمتاز المرأة بأنها الطرف الأكثر حناناً ونعومة ولطفاً.
إن قانون الزوجية له معادلة قد تكون صعبة، وتحدث فيه اختناقات، لكنه قانون ضروري للمجتمعات والحضارات، ومعاكسته وتعويقه، تحت أي غطاء، ولأيّ موانع خارجية، يؤدِّي إلى مظاهر اللذة المنقطعة غير المسؤولة، كما أنه في بيئة غير حضارية قاحلة الطبيعة، أو كليلة الحضارة، أو خالية من الاهتمامات الإبداعية، أو كثيرة الفراغ، شديدة الرهبة من المجهول والمستقبل، يكون التصريف عن طريق الجنس سبباً للاستغراق في الشهوات، وكثرة التغزل والحومان على الأنثى، مِمّا ذكر في حديث يصور تلك المرحلة.
لقد غدا من الحديث المعاد أن نذكر أن من أسباب المشكلات الزوجية صعوبة توافر معرفة كافية عن الآخر قبل الزواج لأي سبب وجيه، فلا بُدَّ من إتمام التعرف، وقد أشار كاتب إسلامي هو (محمد قطب) إلى أن هذه التعارفات القبليّة يمكن أن تتغيّر مدياتها وأساليبها بتغير العصور والمجتمعات، ولا بُدَّ من المحافظة على وتيرة الحب والتودد والجمال، على الرغم من صعوبة التعبير أحياناً بعد تقدّم العمر. وكذلك تراكم الحاجات وتنوعها، إذ لا يمكن سدها جميعاً في سقف زمني واحد، فلا بُدَّ من وضع تنظيم وإبداعات في تحسين مستوى المعيشة وتنظيم للنسل. كما أن البعد عن المثيرات، وتحديد مستوى الاختلاط، والالتزام بتحديد دائرة المنظور، يحافظ على حيوية اللقاء وروائه وأَلقه. وتمثل الهدايا المادية والرمزية وروح المبادرة العاطفية، وتجنب الانفعالات الصاخبة، والتعاونية، علاج تصحر العلاقة في مجتمع مزدحم بالتحديات والتكاليف. ويمثل فن الاعتذار عن الخطأ، ومراجعة النفس، صمام أمان لضمان عدم تطور الخلافات إلى التأزم وبلوغ حافة السقوط والانهيار، وعدم تجاوز الخطوط الحمراء في قيم العَلاقة. ويكون التزين من الطرفين، في حدود المعقول، لبعضهما قاضياً على السآمة والملل. ويأتي تنظيم الوقت، في أول سلم الأولويات، لنفي الهدر والتخيلات الزائدة والحساسيات بين الطرفين. وليس العرف التقليدي، ولا الذوق الوافد، هو الحل العلاقاتي للجنسين، بل تجنب ما يؤدِّي إلى الخلل، ويحول دون بقاء الجو الرومانسي والشفافية.
ومن أسباب التأزم العلاقاتي بين شريكي الحياة، أخذ كل منهما رؤى وتصورات عرفية بدائية، تتخذ أساليبَ عنيفة أو فجة في التعامل، بمحاولة كل منهما فرض الرأي على أساس التمتع بالشخصية القوية وقول (لا) للآخر! وهذا يزيد المشاحنات، فلا بُدَّ من جمع الرؤى، وتوحيد المنطلقات، وتجنب الخصام لأتفه الأسباب، وترك قضايا في المرجعية المنهجية، والتصرف العقلاني، في مهب رياح السطحية في التفكير، والتصرف المؤصل المنهجي، الذي يؤثر على حياته وعلاقاته، لترى نتيجة ذلك زوجة تؤدِّي حق زوجها، وزوجاً معتدلاً بين الغيرة الشرعية المعقولة والضرورية لاستمرار البنية الأخلاقية للعَلاقة الزوجية، وبين حقِّ الزوجة الوجودي والمنطقي، وينقل (طه حسين) أن (سقراط) كانت له زوجة متسلطة، ويقترح حلولاً لامتصاص وقت مثل هذه الزوجة في الزيارات واللقاءات والمحاضرات، أي في نشاطات ثقافية وحضارية، تحول الوقت إلى منجزات بدلاً من إنفاقه في التوافه والملاحظات الانتقادية والصمت القاتل.
إن شتى التعليقات والتقليعات في عالم الأزياء والأصباغ والموديلات والطروحات الشاذة، تجعل المرأة بضاعة مزجاة وجسداً مختزلاً، ومع التركيز على التمكين للمرأة، وحمايتها من العنف، يجب أن تكون هناك دراسات حول أسباب العنف وجذوره الحضارية، وتحديد وظيفة المرأة داخل الأسرة، كما أن تشدد البنى الفوقية في التعامل مع مواطنيها، في بعض الدول، يدفع لمزيد من الهروب والبحث عن اللذة، مع سوء الظروف الاقتصادية، وجهل كثير من البيئات بالتربية الجنسية الشرعية، مع جعل الحياة الدنيوية غاية عليا، ولذة تمتص البعد الفكري والعقلي، وتدفع نحو مزيد من الشهوات، علماً أنه حتى (أبيقور) لم يذهب إلى إطلاق اللذات الحسية، وحتى (فرويد) وازن بين كسب اللذة، وبين تجنب الألم، الذي يحدثه التجاوز على بعض الممتنعات الخارجية، وسمّى ذلك بالتسامي أو الإعلاء الذي رآه ضرورياً لبناء الحضارة.
إننا نتعرّض لغزو حضاري ساحق من الجهات الأربع، وحصوننا مهددة من داخلها، كما يقول أحد الكتاب، وإذا لم يتصدّ المفكرون والعلماء والتيارات الدينية والمؤسسات الفقهية لهذا الغزو لا تتم نهضتنا الأصيلة، وبقينا ندور في حلقة مفرغة ومراوحة مضحكة، ومن الضرورة بمكان مراجعة الثقافة السائدة، وسيل الإعلاميات، بالتمحيص والنقد في حالة عدم القدرة على توفير بديل للعائلة والأولاد، حتى لا يتعرَّضُوا لعملية غسل الدماغ، وهو أقرب اصطلاح للنقد الذاتي والثقافي.
وهناك اتجاهات نسوية رافضة تؤجج العلاقة بين الجنسين، شعوراً بالنقص إزاء الجنس الآخر، علماً أن التقدّم الإنساني الحاصل في مختلف العلوم، وزوال الخلفية العلمية لأشكال التعصب الجنسي والعرقي، يقتضيان الكف عن هذه الميول الدونية، التي تدفع الجنس اللطيف، والجنس غير اللطيف أيضاً، إلى التمحور على الذات والشذوذ، كما أن النظرة المادية البحتة إلى فسلجة الجسد الأنثوي، جعلت من بعض المتاجرين أو الفاشلين في تقدير قيم الأنوثة، يُهوِّنون حتَّى من تعليم البنات كيفية المحافظة على عذريتها، بحجّةِ إطلاق الحرية الكاملة للأُنثى، كي لا تتوجّس من أيِّ شيء، وقد أثيرت قضية (ختان البنات)، تلك العادة القبلية التي لا سند قرآنياً لها، فاتهم الإسلام بالعنف الجسدي، فكتب الكتاب ذلك، فلم يسمعهم الكثيرون، وتوزع تحذيرهم من هذه الغلطة في أجواء من التشويش والحرب النفسية والإعلامية بين المتاجرين والمقلدين، ومن هنا انبرت بعض الكاتبات النسويات إلى نقد هذه الظاهرة.
سفر إلى المشهد الغربي:
وإذا نظرنا إلى المشهد الغربي وجدنا المسلمات هناك يعانين من إشكاليات كثيرة، فـ(نوال السعداوي) طرحت في جولاتها الغربية نظرة يسارية، وأولت بعض نصوص العهد القديم، وبعض المرويات التي يفهم منها البعض دونية المرأة، فاقدة الثقة بوجود حقائق مطلقة في عالم الأفكار، ومنها المجال الحيوي للنساء، وقد اكتسبت شخصية قلقة في شيخوختها، وظلّت تنافح عن المرأة، لكن بنظرة طبقية. وآخر كتبها: (نوال السعداوي والثورات العربية) فيه نفس النفس الثوري، لكنها تتشبث بأولوية المرأة حضارياً وعائلياً، وتمارس سياسة الفضح لخبرات الطفولة في مجتمع مصري وطبقات لم تتشرب حضارياً، وتقيس النص على الكتب السابقة، مع عدم تعرضه للتحريف، كالآفيستا، والتوراة، وغيرها.
وقد برزت كاتبات غردن خارج السرب الإسلامي، لأسباب وظروف شتى، فالكاتبة الهولندية الجنسية (أيان حرسي) تأثرت ببعض المقررات الفلسفية العَلمانية، وبالأحوال الإشكالية التي تعيشها النساء في بعض البلدان المتخلفة، فقاست الإسلام عليها، مِمّا حدا بوالدها أن يكتب إليها: "يُمكنك أن تناضلي في وجه اضطهاد النساء، لكن لا تربطي ذلك الاضطهاد بالإسلام!". وعلى الرغم من ذلك لم تفقد ثقتها بإسلام النبـي (عليه الصلاة والسلام) على الرغم من عيشها في أمريكا، فقالت: لن أسلم أن المساواة "الإنسانية" بين النساء والرجال، التي أثبتها القرآن، يمكن أن تكون استغلت من قبل النبـي! فّإذا كان هذا التناقض موجوداً، أختار أن أكون إلى جانب القرآن. إلا أنها وقعت في خطأ تصويب إمامة المرأة للصلاة، مع ما فيها من مظنة الشهوة، والشرود عن خشوع الصلاة، وتركيز التلاوة.
وكذلك تأثرت (تسليمة نسرين) بممارسات ورؤى غير إسلامية، كان المفروض بها أن لا تدفع بها نحو التطرُّف، لأنها لم تقرأ النص قراءة منهجية راسخة، فكانت لها بعض الاتهامات، فحكمت بدون روية ولا تأصيل، بل ببعض العينات المتخلفة ذات القيم الهابطة: أن الإسلام مُعادٍ للمرأة على طول الخط، فالدين لا يعارض تحرر فكر الأُنثى، ولا نيلها حقوقها المشروعة، ومساواتها الإنسانية بالرجل. تأثرت (نسرين) بالفكر الوضعي، وهي تنكر في قصائدها الإيمان بالله، وتدعو إلى تحويل أركان الإيمان إلى رماد، وهدم المعابد، كما تكشفت عن ظلم صارخ لها أدّى بها إلى الاحتداد والثورة، ولو كانت تلجأ إلى العقل والاجتهادات المنفتحة، لوجدت ضالتها.
و(نجلاء كيليك) التركية الأصل تثور لقسوة الوالد وتحكمه واضطرابه وعنفه وجهله، وتتزوّج ألمانياً يطلقها لأسباب مجهولة، فتذهب بعيداً في عالم راديكالي، مِمّا يشي بتقصير كبير، حضاري وإنساني، نحو المسلمين في العالم، يؤدِّي إلى الضياع الفكري والمادي، وزعزعة القيم تحت وطأة ما بعد الحداثة والتفكيك، وصعوبة الحياة والزواج وتربية العائلة على قيم متخلفة. وهكذا اندفعت هذه الكاتبة لتخفيف شعورها بالذنب، إلى إلحاح على الآخر أن ينساح ويتسرب خارج دائرة ثوابت القيم في كتبها!
والغريب أن أمثال هاته النساء لا يتعمّقْنَ قيم حضارتنا، ولا يفرقون بين المحكم والمتشابه، والمطلق والزمني، ولا يستشعرون المفارقة بين ما عليه مجتمعاتنا من بقايا دستورية وعرفية وشعائرية موروثة، ليس هو دين الله بالتمام والمطابقة، بل بعضه إنتاج ذهني، وتراكم لجهل سياسي، وغباره محلي، وقرونه بعيدة في عمق التاريخ، جعل كله ديناً يمنع رؤية وجه الدين العقلاني المتألق والمتفائل والعادل والتربوي، ومن مظاهره الزواج القسري من غير الكفء، والنظرة الحسية للجنس، حيث تثور بعده المشكلات، وأخيراً فإن لكل حضارة خصوصيتها في النظرة إلى الحياة، فإذا فرغت من ذلك توجهت الطاقات وجهةً شاذة أو منحرفة، ولا يكون الضحية إلا الإنسان، الذي ستتأذى فطرته، وتتصادم مكوناته بين غرائزه وأشواقه الإنسانية.
ولقد كان حفظ العرض من أساسيات علم الأصول الفقهية، لكن الاستبداد والجهل أديا إلى الإحباط، الذي قد يدفع صاحبه نحو محاولة النسيان في عالم الجنس والخمر والمخدرات، في الظل الكالح لعولمة الجنس وكثرة المنتجات الإعلامية غير المسؤولة أو الموجهة نحو تخريب البنية المعنوية للإنسان من قبل جهات مشبوهة، وعدم توظيف طاقات أفراد المجتمع توظيفاً نوعياً هادفاً، وغياب المناهج التي تنمي المواطن، وتلهمه المسؤولية، وتأمره ببرمجة عقله ورغباته، كُلُّ ذلك مع النمو الديموغرافي الهائل، وانتشار الأمية، خاصةً في مجال الجنس الأنثوي، وعدم استفادته من وقته، كما ينبغي في برامج حضارية ونشاطات ثقافية وإنسانية، مِمّا أدى إلى تساهل يبرر أحياناً بضعف الإنسان وجهله، وأنه لا يتحول ملكاً، علماً أن ذنوب الناس لا تستنسخ، بل يجب أن تعالج، وحين تكف الفاعلية الحضارية، وتقل القراءة والاهتمامات المنهجية والرسالية، يتحوّل البيت إلى سجن وضيق وظلام، وعلاج ذلك يكون بإعادة الهدفية للحياة، وتحويل البيت أيضاً إلى مأوى جمالي، ومستودع حضاري، ودائرة معارف، ومنطلق لبناء الإنسان وبرمجة فكره وتنميته، وإنها لمسؤولية كل المثقفين والعلماء والأدباء والساسة في أن لا يشعروا بالنقص من فرادتهم، وينظموا دفعة المادية وغياب الفكر العلمي وتراكم وتفاقم الإشكاليات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق