ارتأت مجلة (الحوار) ضمن الملف الذي أعدّته عن (تطبيق الشريعة)،
توجيه عدد من الأسئلة إلى (الدكتور محسن عبدالحميد)، المفكر الإسلامي المعروف،
والذي أجاب عليها - مشكوراً - وكالتالي:
د. محسن عبدالحميد: الشريعة في القرآن الكريم تعني الإسلام الموحّد الذي جاءَ به
الأنبياءُ والمرسَلون وَحْياً قاطِعاً من الله سبحانه وتعالى، لا سيّما أولو العزم
مِنَ الرّسُل، وهي أصولُ العقائِد وأصول الأحكام وأصول السلوك، أو هو توحيدُ الله
تعالى وطاعاته والإيمان بكتبهِ ورُسلهِ واليوم الآخر وسائِر ما يكون العبدُ بهِ
مؤمناً، ودليل ذلك قوله تعالى: [شَرَعَ لَكُمْ مِنْ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ
نُوحًا وَالّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ
وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ](الشورى:13).
أمّا فروع الأحكام المتنوِّعة، والمتغيِّرة حسبَ الظروفِ والأحوال، التي تمثِّل
مصالِح الأُمم في كُلِّ دورةٍ نبويّة جديدة، فقد ورد الحديثُ عنها في قولهِ تعالى:
[لِكُلّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا](المائدة:48). فكلُّ شِرْعةٍ،
عدا الأُصول المتّحدة المشتركة، فإنها يُعملُ بها في زمانِها، وتُنسخ كليّاً أو
جزئيّاً في شِرْعةِ النب يّ الذي يأتي بعد النب يّ السّابق. عدا شِرْعة خاتم
الأنبياء والمرسَلين نبيّنا محمّد (صلّى الله عليه وسلّم)، فأحكامُها القليلة
القاطِعة تبقى إلى يومِ القيامة، وغير القاطِعة الكثيرة تتعرّضُ للاجتهاداتِ
الدائمة، حسب تغيُّر الظرُوف والأحوالِ إلى يومِ القيامة.
ومن هُنا،
واعتماداً على الآيتين السّابقتينِ، حصلَ الخلافُ في تعريفِ الشّريعة، هل الأصُول
والفرُوع والاجتهادات كلّها تندرِجُ تحت مفهوم الشريعة، أم الشريعةُ تعني الأُصول؟
والاجتهادات في تأويلِ فرُوع العقائِد والأحكام الظنيّة غير القاطِعة، لا تدخلُ في
مفهومِ الشريعة، وإنما هي المذاهِبُ الاجتهاديّة الفقهيّة، التي يُمكن أن يُعاد
النظرُ فيها في كُلِّ عصر حسب الأعراف والعوائِد، وتغيُّر حركة الحياة في
الاتجاهاتِ كُلِّها؟
والحقّ أن الرأيَ
الذي يقولُ بأنّ الشريعةَ هي الأصولُ المشتركة بين جميعِ الأديان، وهي (دينُ
الإسلام) عند الجميع، والتي لا تشملُ التفرُّق والاختلاف في الفرُوع، لأنّها ليست
من الأصولِ، وإنما اجتهاداتٌ في فهمِ الفرُوع غير القاطِعة، هو الرّاجِح الصحيح،
إن شاءَ الله تعالى.
وعلماءُ الأُمّة الذين يدعُون إلى تطبيقِ الشريعة، يقصدُون هذا
المعنى، ولا أحدَ يعتقدُ أن الاجتهاداتِ الفقهيّةَ ملزمةٌ للمسلمين، لا في عصرِنا،
ولا في العصُورِ القادِمة، لأنَّ لِكُلِّ عصرٍ اجتهاداتهِ الجديدة، المستنبطة مِنَ
الأصُول القاطِعة التي شرعها الله تعالى لأُمّة الإسلام إلى يومِ الدين، في دائرةِ
أصُولِها وقواعدِها ومقاصدِها ومآلاتِ تنفيذِ الأحكامِ فيها.
* ما هو مفهوم تطبيق الشريعة
لديكم؟ وما هي عوائق تطبيقها اليوم في مجتمعات المسلمين؟
د. محسن عبدالحميد: مفهوم تطبيق الشريعة عندي، وعند جميع عُلماءِ الأُمّة
المتنوِّرينَ الرّاسخينَ في فهم الدينِ والدُّنيا، هو تطبيقُ الأصول في العقائدِ
والأحكام والسلوك، لأنه لا يمكن توصيف أي مجتمع بأنهُ مجتمعٌ إسلاميّ إلاّ بهذا،
فهو محورٌ وأساس لا يمكن التفرّق فيه، وإلاّ خرجَ المجتمع عن وصفِ الإسلام.. وأما
عوائق تطبيق الشريعة، فكثيرة ومتنوِّعة، من أهمِّها:
أ/ ابتعادُ
المجتمعاتِ عن فهمِ تلك الأصول، وحكمة تطبيقها، لتحقيقِ مصالِح الخَلْق، ومقاصِد
الحقّ.
ب/ غزو الفلسفات
الماديّة والعَلمانيّة والإباحيّة لمجتمعاتِنا الإسلاميّة الحديثة، وتغلغلها في
حياتِنا الفكريّة والثقافيّة والإعلاميّة والاجتماعيّة وغيرها، والتي ترفضُ الأصول
قبل الفرُوع، وتدعُو إلى بناءِ الحياةِ على أسس جديدة لا عَلاقةَ لها بأُصولِ دينِ
الإسلام. وهذا كان نتاجاً طبيعيّاً لتخلّفِ مجتمعاتِنا، بسبب انفصالِ مدارسِنا
الفقهيّة والروحيّة وغيرها عن حركةِ الحياةِ المعاصرة، وتمكّن الاستبداد السياسيّ
والظلم الاجتماعيّ، باسمِ الدين، من مجتمعاتِنا، لأزمانٍ طويلة.
ج / استعمار الدول
الطاغوتيّة لمجتمعاتِنا، ونشرها لثقافتها وقوانينها، وإلغاء القوانين الإسلاميّة
من محاكِمنا، والدعاية الواسِعة، في مؤسّساتِ المجتمع الثقافيّة والتعليميّة، ضِدّ
قيمِ الإسلام، ومحاولة تكوينِ جيلٍ جديد، يقطعُ صلته بأصُولِ دينهِ، وأحكامِ
شريعته، وقيمهِ الفاضلة.
د/ ظهور ادعاءات، في أكثر من مجتمعٍ إسلاميّ، بتطبيق الشريعة، من
خلالِ جهلٍ كبير بمبادئ الشريعةِ، وحركة تغيّر الحياة، وعدم التفريق بين الأُصول
والاجتهادات، وفرض الاجتهادات القديمة على النّاس بالقوّة وسفكِ الدِّماء، بحيث
أعطت نماذج سيِّئة، أساءَت إلى الشريعةِ الإسلاميّة إساءةً بالِغة، وتُحرج اليومَ
إحراجاً بالِغاً كل من يريدُ أن يقودَ المجتمع - ولو تدريجاً - إلى دنيا الشريعة
الرحبة، وعدالتها الحكيمة، وقيمها الفاضِلة، وعقيدتها التوحيديّة الخالِصة. وتطبيق
الشريعة، من خلالِ فهمٍ عميق لمبادئها، وخبرةٍ واسِعة بتطوُّر الحياة، وتفريق
متميِّز بينَ أصولها وفروعها، يمكن جدّاً في ظلِّ الدولةِ الحديثة، التي تؤكِّد
المواطنة والعدالة، فضلاً عن تثبيتِ حقوقِ الإنسان، لا سيّما حقوق المرأة،
الإسلاميّة والإنسانيّة. ولا بُدّ أن يؤمنَ علماءُ الإسلامِ ودعاةُ تطبيقِ
الشريعة، أن الغرضَ السطحيّ الجاهِل غير ممكن، وإنّما يحتاجُ الأمرُ إلى الوعي
والصبر والتدرُّج والإقناع والتسامح، فمقاصِد الشريعة ومبادئها الكليّة وقيمها الإنسانيّة،
قريبة جدّاً في تحقيقِ دولة إسلاميّة مدنيّة مُعاصرة، تكون أنموذجاً للبشريّة،
لإنقاذِها مِنَ الانحرافاتِ العقديّة والسلوكيّة والسياسات العدوانيّة على الشعُوب
الفقيرة والمستضعفين في الأرض.
* كيف يمكن تطبيق الشريعة في ظل
الدولة الحديثة؟
د. محسن عبدالحميد: القوانين الوضعيّة، فيما لا يُخالِف قطعيّات الشريعةِ وأُصولها،
يُمكن العملُ بها، لأنها إمّا قوانين نتجت عن تجارِب البشريّة الطويلة، وإمّا
قوانين تعتمِدُ على المبادئ الطبيعيّة الفطريّة المتفق عليها بين البشر، وإمّا هي
متأثِّرة بمبادئ الأديان وقيمها المتتابعة عبر التاريخ.
وأمّا في إطارِ معرفتي بالشريعةِ الإسلاميّة، التي جاءَتْ لتحقيقِ
مصالِح البشريّة في الحفاظِ على الضروريّات الخمس، وهي: الدينُ، والعقلُ، والمالُ،
والنسل، والنفس، أؤمِنُ أنها لا تصطدِمُ مع كثيرٍ مِنَ القوانين البشريّة، التي
تحافِظُ على هذهِ الضروريّات المشتركة بين بني البشر. وما يُخالِف في القوانين
الوضعيّة، أُصولِ الأحكامِ الشرعيّة، فإن الحقّ - عند البحثِ الدقيق- يكونُ مع
الشريعة. وحينئذٍ يُمكن أن تعالَج هذهِ المخالَفات، وهي ليست كثيرة. والمذاهِبُ
الفقهيّة الإسلاميّة فيها الكثير مِنَ المعالَجات الحكيمة، والمبادئ القانونيّة
الكُليّة والجُزئيّة، التي اعترفتْ بها المجامِع الغربيّة، ودعتْ إلى الاستفادةِ
منها في صياغةِ القوانينِ الصّادرة من المجتمع، فضلاً عن الاجتهاداتِ الجديدة
المستنبطة من النصُوصِ الشرعيّة، التي يُمكن أن تتلاءَم مع التغيّراتِ البشريّة
التي تحقِّقُ مصالِح البشر في العصرِ الحديث.
* لكن هل يمكن الاحتكام إلى
قوانين وضعية في ظل دولة مسلمة؟
د. محسن عبدالحميد: لا شكَ أن مصادِرَ الشرائِع يُمكن أن تتعدَّدَ في ظِلِّ دولةٍ
مُسلِمة، على ألاّ تصطدِمَ مع المصدرِ الأوّل الأساس، الذي هو أُصول العقائِد،
وأُصول الأحكام، وأُصول السلوك والأخلاق. ولأن النصُوص القاطِعة محدُودة، وحوادِث
حركة الحياة غير محدُودة، فلا بُدَّ من إيجادِ الحلُول المناسِبة لها في كُلِّ
عصر. والفقه الدنيويّ الواسِع، ومذاهبه، سيشكِّل مصدراً ثانياً لتشريعٍ هائِل
يضبطُ حركة الدنيا، دون الخرُوج على المصدرِ الأساس.
وأمّا المصدرُ
الثالِث وهو التشريعُ العقليُّ الطبيعيُّ الفطريُّ، الناتِج عن حركةِ البشريّة عبر
تاريخها، والتي ترفدُ المجتمعَ الإسلاميَّ البشريَّ بكُلِّ جديد، وهذا المصدرُ
مهمٌّ جدّاً لرفدِ الاجتهاد في الفقه الإسلاميّ، لا سيّما في عصرِنا، لأنَّ
اختصاصاتِ المعارِف والعلُوم توسّعت وتعمّقت جدّاً، فلا يُمكن الاستغناءُ عنها،
ومجرّد الاستغناء عنها سيخرجُ المجتمع الإسلاميّ عن حركةِ التاريخ، ويتخلّف في
كُلِّ مضامير الحياة. وهذهِ الحركةُ في إطارِ الأُصولِ العامّة القاطِعة، هي التي
تُسَمّى بالسياسةِ الشرعيّة، التي يعرّفها الفقيه الحنبليّ الكبير (ابن عقيل)
بأنّها "ما كان فِعْلاً يكونُ معهُ النّاسُ أقرب إلى الصلاح، وأبعد عنِ
الفساد، وإن لم يضعْه الرسُول، ولا نزل به الوحي"(الطرق الحكميّة، لابن
القيم: 13- 18).
وعلى الرّغم من أن المرجعَ الأساسَ، هو أحكامُ الشريعةِ الثابتة،
لكنّها هي نفسُها قد تكون متغيِّرة عند التطبيع، بسبب تغيُّر الظرُوف، أو اختلاف
الأحوال، والدليلُ اجتهاداتُ الخلفاء الرّاشدين، لا سيّما أمير المؤمنين (عمر بن
الخطّاب) (رض) عندما أوقفَ مؤقتاً تطبيق النصُوص القاطِعة، نظراً للظرُوف
الطارِئة. وأمّا مفهومُ المواطنة داخِل هذهِ الدولة المتعدِّدة الشرائِع، فمفهومٌ
عادِل، فللمواطنين حقوقهم الإنسانيّة والدينيّة كاملةً، كما أقرّها الرسولُ الأعظم
(عليه الصّلاة والسّلام) في وثيقةِ المدينة، وهم يشترِكُون مع الأغلبيّة المسلِمة
في بناءِ الدولةِ والأُمّة حسب كفاءاتِهم، لا يُظلمون ولا يُعتدى عليهم، وأحكامهم
مفصّلة في دراساتٍ عميقة عند الفقهاءِ قديماً وحديثاً (أحكام الذميين- د.
عبدالكريم زيدان)، ومختصرها قاعدة: "لهم ما لنا، وعليهم ما علينا".
* هل يمكن أن تتعدد مصادر التشريع
في ظل دولة مسلمة؟ وإذا تعددت، فأيّ الشرائع تكون مرجعاً؟ وما مفهوم المواطنة داخل
هذه الدولة المتعددة الشرائع؟
د. محسن عبدالحميد: هنالِكَ
مساحةٌ مهمّةٌ من أحكامِ الشريعةِ، تنفيذها من مسؤوليّاتِ الدولةِ الأساسيّة،
كتطبيق القصاص والحدُود، والمحافظة على حُريّة المجتمع والأفراد، وضبط حركةِ
الأخلاق والسلُوك، والإشراف على خُططِ التنمية والتقدُّم، بل وتحقيق العدل والأمن
لجميع رعاياها، وأمور أُخرى كثيرة. والمسلِمُون جميعاً مسؤولُون أمامَ الله في عدم
إيجادِ دولةٍ عادِلة واعية، تحقِّقُ أهدافَ الشريعةِ في القضاءِ على الاستبدادِ
السياسيّ، والظلم الاجتماعيّ، وتتبّع طرُق الشورى الملزمة، للحفاظ على حقُوقِ
النّاس، وقوّة المجتمع. وممارسات الدول الإسلاميّة، والانحرافاتِ - أحياناً - عن
أهدافِ الإسلام، عبر التاريخ، فهذهِ نعترفُ بوقوعها، وليست ملزمة لنا، والمفرُوض
على الأُمّة، في زمانِنا، ألاّ تسمح بتكرار نواحي الاستبداد والظلم والانحراف،
وهذا يعتمدُ على وعيها الشامِل في الوقوف أمام عدم تكرار الممارسات السّابقة،
وإسقاط كُلّ حاكِم، أو نظام، لا يلتزِم بتحقيق الشورى، والعدالة، وحقوق الأُمّة،
في كُلِّ نواحي الحياة.
* ما
مدى احتياج الشريعة إلى الدولة لتطبيقها؟.. وهل كانت الدولة حارسة للشريعة في
تاريخ المسلمين؟
د. محسن عبدالحميد: تقنينُ الشريعةِ ضرورةٌ، بدأ التفكيرُ فيها منذ أواخِر الدولةِ
العثمانيّة، ولكن لا بُدَّ ألاّ يُبْنَى هذا التقنينُ على مذهبٍ واحِد، وإنّما على
جميعِ المذاهِب الفقهيّة الصحيحة الأُصول، مع مُراعاة تغيّرات العصر، وإدخال
اجتهاداتٍ جديدة، صادرة من مجامِع الفقه الإسلاميّ المعاصِر. وهذهِ العمليّة
التقنينيّة ليست عمليّة دينيّة لاهوتيّة، وإنّما هي عمليّة تقنينيّة دنيويّة، لضبط
حركةِ الحياة وتوجيهها.
وهذهِ العمليّة قانونيّة
بحتة، لا تعطي أيّ قداسةٍ لرئيس الدولة. لأن رئيسَ الدولة - في الشريعة- مُنتخب من
قبل الشعب، ويحكمُ باسمه، لا باسم الله. وحياةُ الخلفاءِ الرّاشدين شاهِدةٌ على
ذلك في الوثائِق التي صدرتْ منهم.
وما وقعَ في
التاريخ من نظامِ الوراثة، واغتصاب الحكم، والتحدّث باسم الله، في نظريّة (ظلّ
الله في الأرض)، كان انحرافاً واضِحاً عن حقائِق الشريعة، لا يجوزُ أن يتكرَّر في
زمانِنا، الذي وَعَتْ فيهِ الشعُوب، وتريدُ أن تسترجِعَ حقُوقَها كامِلةً غير
منقوصةٍ. والشعُوب الإسلاميّة عليها ألاّ ترضى بحكم الطواغيت المنحرفينَ، سواء في
حُكْمِ الأحزاب الشمُوليّة الطاغوتيّة، أو حُكْمِ الانقلابات العسكريّة المغتصبة،
أو حُكْمِ الوراثة الأُسريّة المتخلِّفة، حُكْمِ الطائفيينَ المتعصّبينَ، أو
المذهبيينَ الجاهليينَ، الذين ينقلون الصراعاتِ الدمويّة السّابقة إلى مجتمعاتِنا
المعاصِرة. فهؤلاءِ جميعاً لا يُمثِّلون الإسلامَ، وشريعتَه، في شيء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق