02‏/11‏/2015

عبق الكلمات/ الاستدراج إلى الشنآن

عبد الباقي يوسف
لعل ما يحدث الآن من أعمال استفزازية، تعزّز ردّ الفعل بالنسبة للبعض، فيردّوا على الظلم بالظلم، وبذلك يكونوا قد خرجوا من العدل إلى الظلم، ويكون الظالم قد أفلح في استدراج إنسان عادل إلى ممارسة الظلم والطغيان. وقد جاء التنبيه مع الحذر الشديد في قوله تعالى: [وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَن الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ] المائدة/ 2.
تؤسس هذه العبارة لقاعدة تربوية وأخلاقية وإنسانية في منهج الإنسان المسلم، بحيث يكون على حذر كي لا يُصبح معتدياً، نتيجة ما يصدر من بعض الأشخاص من أقوال أو أفعال. فـ {لاَ} تسمحوا لهؤلاء أن
يدفعوكم إلى حالة العداوة، لتصبحوا مثلهم في ممارسة الاعتداء. والكلمة مشتقة من الجريمة: {لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ}. فـ{لاَ}: احذروا، أن{يَجْرِ}: يسحب، من الجرّ. فلا تدعوهم  يجرّوكم بشنآنهم، لأن ذلك يؤدي بهذا الشنآن أن {يَجْرِمَنَّكُمْ}، يوقعنّكم في الجرم، فتصبحون مثلهم مجرمين، لأنهم  مصدر الجريمة. فلا يُسرّب {شَنَآنُ قَوْمٍ}، نزعة الجرم إلى نفوسكم. والـ {شَنَآنُ} هو البغض. فهؤلاء يكنّون لكم البغضاء والشحناء، {أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، تعرّضوا لكم في ذهابكم إلى {الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}. وكان ذلك عندما فتح المسلمون (مكة)، فصدّهم بعض الذين حاربوهم من (قريش)، عن دخول {الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}. فلا تلتفتوا إليهم، ولا تستجيبوا لمكيدتهم، فهم يبتغون {أَن تَعْتَدُواْ}. والاعتداء هنا هو تجاوز لِما أمر الله بالدفاع وفق حدود الله. فـلا {تَعْتَدُواْ}: لا تتجاوزوا حدود الله، إن أصبحتم في حالة قتال مع الذين يقاتلونكم، ولا تنجرّوا خلف ردود الأفعال، ولا يأخذكم  الانفعال إزاء {شَنَآنُ} هِمْ، فيجعلكم هذا الانفعال مُعتَدين. ففي ذلك تأجيج للخلاف، حيث تصبحون شركاء فيه.
فلا يجوز لك أن تقابل الخيانة بالخيانة، لأن ذلك سيجعلك خائناً، ويكون الخائن قد استدرجك لتكون خائناً مثله. عن أنس أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما". قيل: يا رسول الله، هذا نصرته مظلوما، فكيف أنصره ظالما؟ قال: "تمنعه من الظلم، فذاك نصرك إياه".
[وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ]، ثم وجّه إلى مرجعية التقوى، لتجاوز حالة الانفعال إزاء {شَنَآنُ}هِمْ، فقال: {وَاتَّقُواْ اللّهَ}. ثم ذكّرهم بـ{إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}، إن واجهوا {شَنَآنُ قَوْمٍ} بالاعتداء، فعندئذ يعرّضون أنفسهم لعقاب شديد من الله، لأنهم سيكونوا قد خالفوا أمر الله بـ اللا اعتداء. 
كذلك يأتي الشنآن في قوله جلّ ثناؤه: [وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ] المائدة/ 8.
لا يجعلنكم {شَنَآنُ} حِقْدُ {قَوْمٍ} يكنّون لكم الغل {عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ} أن تحيدوا عن العدل، فيجعلكم {شَنَآنُ قَوْمٍ} - {شُهَدَاء}- بالجَوْر، بدل {شُهَدَاء بِالْقِسْطِ}، فتقوموا على الـ {شَنَآنُ}، بدل أن تـ {كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ}. فالـ {شَنَآنُ} هو استدراج من العدل إلى الجور، ومن الوفاء بالعهد إلى النقض به. ثم بيّن للمؤمنين به: {اعْدِلُواْ}بأن تكونوا-{شُهَدَاء بِالْقِسْطِ} – فذلك {أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}، وذلك يعني أنكم إذا رضختم لـ {شَنَآنُ قَوْمٍ}، فهو أبعد {لِلتَّقْوَى}.
فالعدل هو سلوك إنساني، ولذلك جاء أمر الله بـ {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ }، أي: لا يُخرجنَّكم شنآنهم من العدل، الذي أمر به الله، فتجنحوا إلى الظلم. إن الظلم الإنساني، الذي يتجرد فيه الإنسان من مشاعره الإنسانية، مهما تمظهر بمظهر القوة، فإنه مبني على هشيم. والعدل المبني على مشاعر الأخوة الإنسانية، والتكاتف الإنساني، مهما تمظهر بمظهر الوهن، فإنه مبني على أسس لا تزحزحها أعتى الرياح. ‏يقول النبـي (صلى الله عليه وسلم): "من ابتلي بالقضاء بين الناس، فليعدل بينهم في لفظه وإشارته ومقعده ومجلسه، ولا يرفعن صوته على أحد الخصمين ما لا يرفعه على الآخر".
بعد النهي عن ذلك، يقول الله: {وَ}على ما تبيّن لكم {اتَّقُواْ اللّهَ}في إيمانكم به [إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ]. والخبير هو الذي يخبر دقائق الأمور، وتفاصيلها، مهما بلغت من الدقة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق