محمود
حسانين
إذا
سألك سائل: كيف تكتب، أو: لماذا تكتب؟
ستكون
إجابتك بكل تلقائية: إن الكتابة هي إفراز طبيعي
لما تستنشقه خلايا العقل من قراءات شتى، يطوف من خلالها العقل على ثقافات متعددة. كما
أن الثقافة المختزنة في العقل، نابعة من معين القراءة الذي لا ينفد. وإن أردنا إدراك
السؤال، لكي نعي جيداً إلى أين يكون مصير هذا المخزون، علينا بداية أن نطوف عبر الخلايا
والأنسجة داخل عقل الكاتب.
فعقل
الكاتب يكون كالنحلة التي تبحث عن رحيق يستألفها بين ألوان الزهور وأريجها، وبعد رحلة
التنقل بين الزهور، تكون نتيجة هذه الرحلة الإفراز.
وتأتي
مرحلة النضج الكتابي، عندما تقرأ كتابات عمالقة الأدب: فـ(نجيب محفوظ، ذلك الذي ينزف
الواقع من قلمه. نجيب سرور، وهذا الحس الشعري وتلك المعاناة، وقهر البوح. دان براون،
هذا السحر المغامر في كتاباته. باترك سوسكيند، نجد براح الخيال الجامح، وحساسية الحرفيين،
طيات مؤلفاته. ألكسندر دوماس، من صوّر الصراع النفسي، وأنتج عبر القلم الدراما الإنسانية.
ستيفان زفايج، رهافة الحرف، ورومانسية الدراما الاجتماعية)
بعد
كل هؤلاء، ماذا عساك أن تفعل، غير أن تمسك بالقلم، وتكتب أول (ألف باء) الكتابة. فالإبداع
متحرر بطبعه.
وكما
جاء في كتاب (التدين والإبداع)، للدكتور (عبد الباسط عبد العاطي)، عدة تساؤلات منها:
كيف
يبدع الناس؟ ولماذا؟ وما هي أهم صيغ ومجالات إبداعهم، الفردية والجماعية؟ وما علاقة
هذا بمستويات وعيهم؟ ولماذا أخفقت بعض المحاولات العلمية، ونجحت أخرى، في إبراز ما
قبله الناس في فترات تاريخية سابقة، وما قاوموه، أو أعادوا إنتاجه، ليكون أكثر قدرة
على تيسير تفاعلهم مع إرث الماضي، ومخاطر الحاضر، وتحديات المستقبل؟
وكلها
تساؤلات تعبر عن مهموم بهذا الفن الساحر، الذي يطرح بين أيدينا مقروءاً، يستدعي الخيال،
وينشط الذاكرة، باستمرار. حيث ارتباطها بتحديات المستقبل، يأتي الدور الذي يتراءى لأي
مثقف، وهو مواجهة التكاثر المتزايد للكتابات التي تتزاحم لحشو عقل القارئ، الكثير منها
كالطبل الأجوف، والقليل منها مثمر معطاء، كالنخيل.
إن
أهم ما يميز المبدع الحقيقي، أنه يكتب النص تارة، ويكتبه النص تارة أخرى، في محاولة
للتعايش مع ما يكتب. فنجد النص يزخر بلغة الكاتب، ومهارته، وأيضاً سيرته الذاتية، في
بعض الأحيان. فالمبدع الحقيقي بارع ومحنك في تنقية النصوص من كل العوالق التي قد تلحق
بها، كما أن المبدع ناقد لأوضاع الحياة المحيطة به. فتاريخ الإبداع يربط بين واقع الأحداث،
والمتغيرات لدى الأشخاص.
ولهذا
نجد الكثير من كتاب جيل العقد الأخير من القرن العشرين، قد تاهت خطواته، وهو يلتمس
النشر في الدور الخاصة، وقد ترهقه التكلفة، ولكن ما من محيص أمامه غير ذلك. فلجأ إلى:
إما الانطواء، أو تحمل تكلفة ما خطته يداه، فيكون بذلك أفنى عمره في القراءة، ثم أرهق
جسده بالسهر والكتابة، ثم المطلوب منه إنتاج هذه السلعة، ليأتي قارئ يسلي بها وقته.
أصبحت
الكتابة حضوراً غريباً، منافية
للذائقة، وانحساراً رهيباً في القيمة، حتى أصبحت علاقة المبدعين،
وارتباطهم برسالة الإبداع، (موضة). مما أشعل داخلي سؤالاً يؤرقني، كلما جال بذهني،
وتنقل في رحلة تجواله بكياني، حين يصطدم بالإجابة، التي تفزعني، تروعني، تلقى بي في
دوامات الهلع: أين الأدباء، أصحاب الحق المهضوم، الذين توارت أعمالهم، وأفكارهم، خلف
عوالم الآخرة؟ لم يتبق منهم غير ما خطته أيديهم؟ من أين جاءت الأنامل الذهبية، التي
خطت السطور؟ من أقدر الناس على تصوير ما لا يمكن وصفه؟
كلها أسئلة إجابتها الصريحة مؤلمة. إن الأديب كالشمعة
تضيء لغيرها، ولكن هناك من يستغل هذا الضوء لأشياء غير الحقيقة، ويبقى الأديب يضيء
ويخبو، ويضيء ويخبو، ويخرج ثمار تجاربه، وعصارة عقله، التي لخصها من تأمّلٍ في الواقع،
وبين دفتي الكتب، وضوء عينيه الذي أخذ يخبو، حتى كاد أن يختفي، لكي يخرج لنا ما رأته
ورصدته عيناه، في سطور لها معان ومغزى. هذا الأديب الذي صور الحياة من مختلف الزوايا،
ورصد الأشياء من وراء الحجب، وكلم الأحجار، وجعل لها لغة، وصارت لغة لا يعيها إلا أصحاب
الألباب. إنه كالمحار داخله اللؤلؤ، الذي يبهر العيون، ولكن عندما نبحث عن الإجابة،
كان لا بد أن نسال المحار عن جمال ما أفرزه.
لو
أنه فقط يقرأ:
بعد
نزول الإسلام بأول كلمه تشق سكون الجهل، وظلمات الأمية: (إقرأ)، نجد أن القراءة تساوي
سباقاً مع الزمن إلى المستقبل، فنحن نعيش الحاضر، ونقرأ الماضي. لذلك نجد أن القراءة
تساوي المستقبل. أما الثقافة، فهي تغذي الروح، وتهذب النفس، وتشبع العقل بالأفكار.
ولذلك نجد أن القراءة والثقافة، شيئان لا بد منهما. فالتعرف على الثقافة، يكون من خلال
اختلاف الثقافات، فلا يجدر بنا أن نقف أمام نوع معين من الثقافة، عربية كانت أو غربية.
ثم
نجد نماذج كثيرة في مجتمعنا: هذا الذي يلبس عباءة المثقف، ويتكلم بلسان العلماني، ويفكر
بأسلوب المتصوف، ويبتسم بروح الصديق، ويكن في نفسه بمكر وخبث، لعرقلة الحراك الثقافي،
الذي يحتاج إلى المقومات التي تساعد على النهوض
بدور المثقف، للتوازن بين نقل الثقافات الأخرى. المفترض أن يكون المثقف الحقيقي له
السبق في ذلك، من خلال إنتاجه، والذي يقذف به في وجه القارئ. وليت الأمر يقتصر على
ذلك، فهناك من لا يهتم بما يحدث من تدهور للثقافة، وهو مشغول فعلاً بالشاشات والمتابعات،
ويجلس جنباً إلى جنب للمشاهد بلا حراك، ثم يخرج لنا على صفحات (الفيس)، ويحلل البرامج،
ويحرم الأفعال، ويجرم الردود، ..إلخ.
لم
يتساءل أحد: هل حقاً ثقافة الإنسان تقف عند حاجز معين..؟ بعدما اتسعت الحوارات الفكرية
باندماجها على مواقع التواصل بالشبكة العنكبوتية.
انقسمت
الثقافة إلى عدة شعب مختلفة، كل منها يبلور فلسفة الآخر، وقد تسهل على البعض استيعابها،
وقد تكون بمثابة طلاسم ورموز في عقول البعض الآخر.
والتواصل
مع أفراد المجتمعات هو نتاج ثمار ما خطته أيديهم،
ليرتقي كل فرد بمجتمعه دون غيره، من خلال الترجمات، وغيرها. فمثلاً عندما افتتحت
(مي زيادة) صالونها الأدبي الشهير، قبل قرن من الزمان، استقطبت وقتها قادة الفكر والثقافة
والنهضة المصرية آنذاك، مثل: (أحمد لطفي السيد، والمنفلوطي، والعقاد، وطه حسين، وغيرهم).
وكانت تعتبر منبراَ ثقافياً، كما أنها كانت لخدمة الأدباء والمبدعين والمفكرين. وأتت
بعدها فكرة (الورش الأدبية)، وبعدها (المنتديات الإلكترونية)، و(المواقع الثقافية)،
وغيرها على شبكة (الانترنت)، والتي أتاحت الفرصة لمشاركة المهتمين، وأعطتهم مساحة خصبة،
لإنبات أفكارهم في عالم المعرفة.
وعندما ترك الجميع التواصل على أرض الواقع، تدهورت
الهيئات الثقافية، وانحدر بهم الوضع إلى هوة عميقة من التشتت، فلا ندوات، ولا مؤتمرات،
حقيقية، لربط التواصل على أرض الواقع.
فهل
الثقافة تقتصر على الاطلاع والمعرفة فقط؟
إننا
لا نقرأ لأهداف مثل: حدث، أو للتسلية، أو لنخرج موضوعاً معيناً، فالقراءة تساوي سباقاً
مع الزمن إلى المستقبل. حيث إننا لم نسمع بأي مشاريع في التنمية الثقافية، بعدما حلت
علينا غيوم الحروب الباردة، والحروب الأهلية. فلم يعد غير معارض الكتب العربية، والمهرجانات
الثقافية، والجوائز، وحفلات التكريم، التي أصبحت(شو)، و(إتيكيت) ثقافي، أمام غزو (best
seller - البست سيللر)، فقد أصبح القارئ يجد صعوبة في
التمييز بين الصالح والطالح. كما أنه وقع في شراك العناوين، فكثير منها يتناص مع عناوين
جادة لكبار الكتاب، وأخرى مع عناوين مبهرة، سطعت مع ظهور الكم الرهيب من الكتاب الشباب.
لقد ذهبت الذائقة العامة إلى الساحة، وما تعرضه في قوائم (bestseller - البست سيللر)، التي تعلن عنها كبرى المكتبات، فأصبحت الذائقة العامة
للأعلى مبيعاً، وليس الأعلى قيمة وفناً.
وعدنا
إلى حيث البداية، فالكثير من الكتاب يلجأ إلى الطبع على نفقته، للحاق بسباق العصر الجديد،
واللحاق بركب قوائم معارض الكتب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق