02‏/11‏/2015

حديث مقتضب عن العلمانية والدين

سعد سعيد الديوه جي
مما لا شك فيه بأنه من أصعب الأمور في المداولات الإنسانية الصرفة، مسألة المفاهيم ووضعها في مصطلحات محددة، حيث تتضاءل كثيراً هذه المسألة في العلوم الطبيعية والتطبيقية إلى حد كبير، كالطب والهندسة والفيزياء، وغيرها من مجالات الحياة.
ومن هذه المصطلحات، المتداولة بشكل واسع وكبير: مصطلح العلمانية، والذي يعتقد كثير من المثقفين بأنه مشتق من (العلم)، وهو غير ذلك تماماً.
فالمصطلح مشتق من العالمية، أو (العالم) secularity))، والذي يفضل البعض تسميته بالدنيوية، نسبةً إلى الدنيا. ولكن التسمية الأولى طغت، وأخذت مكانتها في المداولات الثقافية والكتب والمقالات والمجلات. ففي الإنكليزية يعرف المصطلح بكلمة (secularism)، والذي تكون ترجمته الحرفية بكلمة (دنيوية)،
المشتقة من الدنيا أو العالم أو الزمان.
 وأما كلمة (العلم)، في الإنكليزية، فهي science، والمذهب العلمي يسمّى scientism، والنسبة للعلم: scientific، وهكذا فالتشابه اللفظي بين المصطلحين هو الذي أحدث هذا الارتباك.
والعَلمانية ليست لها شروط، أو أسس، تلتزم بها. وهي طريقة لاستنباط القوانين الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، قابلة للتعديل والتطوير، وتتكيّف حسب البيئة التي هي فيها، والمجتمع الذي تتواجد فيه.
وعليه فالعلماني ليس شخصاً لا دينياً بالضرورة، وقد يكون كذلك، ولكنه يعتقد أن التشريعات الدينية غير قادرة على مواكبة كل متطلبات العصر بما تقتضيه من قوانين جديدة، وذلك لمواكبة التطورات الاجتماعية والعلمية، في مجالات حياتيّة شتّى، وهي التي سماها المرحوم (عبدالوهاب المسيري) بـ(العلمانية الجزئية). أي أنها، من الوجهة السياسية، هي فك ارتباط الهيئات السياسية والتنفيذية عن السلطة الدينية. والبعض الآخر يفسِّر العَلمانية بفصل الدين عن حياة الإنسان قاطبةً، ومواكبة تغيّر الحياة حسب مقتضيات الزمان والمكان والعقل، وهي العلمانية الشاملة اللادينية .
وأما دائرة المعارف البريطانية، فإنها تعرِّفها بكونها حركة اجتماعية تتجه نحو الاهتمام بالشؤون الدنيوية، بدلاً من الاهتمام بالشؤون الأُخروية، والتي سادت منذ عصر النهضة، لإعلاء شأن الإنسان. وكان أهم المنادين بها الفيلسوف (سبينوزا)، الذي عاش في (هولندا)، في القرن الثامن عشر الميلادي، إذ قال إن الدين يحوِّل قوانين الدولة إلى مجرّد إجراءات تأديبية، وإن الدولة كيان متطوّر، وتحتاج للتحديث الدائمي، وعليه فهي في حالة تصادُم مع قوانين الشريعة، إذا كانت ثابتة.
وقد فصّل كثيراً من هذه الأمور في كتابه الشهير (بين السياسة واللاهوت)، ثم حدث الطلاق الفعلي بين السياسة والدين، بعد نجاح الثورة الفرنسية عام 1798م، حيث تمّ تحييد سلطة الكنيسة الكاثوليكية، وكان الأمر طبيعيّاً إلى حدٍّ كبير، فالمسيحيّة، كما هي دين بلا شريعة، فالموت المجاني للمسيح على الصليب، والذي يعتقد به المسيحيون، قد جعله يحمل خطيئة البشر منذ آدم، وحتى القيامة. وهو ما سهّل المسألة إلى حدٍّ كبير، فلا خطيئة في المسيحية يحاسب بها الناس على أُسس شرعية، والشريعة الموسوية قد عطلها (بولص) الرسول، على الرغم من وجود اختلافاتٍ في الموضوع، خارجة عن سياق الموضوع الحالي. وعليه، فالعَلمانية لا يمكن أن تفهم بأنها ضد المسيحية، لأنها لا تفرض مبادئها على من لا يريد الالتزام بها، أي أنها ليست أيديولوجية، أو عقيدة، بقَدْر ما هي طريقة للحكم، وإدارة مناحي الحياة المختلفة، حسب رؤى معيّنة. وهي علاقة جدليّة بين العَلمانية والليبرالية (التحررية)، حيث أن الأخيرة تحتوي الأولى من ناحية فصل جميع المعتقدات - سواء أكانت دينية أو غير دينية- عن الدولة، وتجعل الإنسان كائناً لا قيود عليه، سوى قوانين المجتمع.
أما علاقة العَلمانية بالديمقراطية، فهي علاقةٌ متباينة، فقد تكون الدولة علمانية ديمقراطية (حكم الأغلبية)، أو لا تكون. فألمانيا النازية كانت علمانية، والدول الشيوعية علمانية، وكثيرٌ من الديكتاتوريات علمانية. إن هذه المفاهيم يصعب عكسها على المجتمعات الإسلامية بالقَدْر نفسِه، والشمولية عينها، ففي الإسلام لا يوجد مفهوم كنسي، كما تفهمه المسيحية، والحاكم ليس ظل الله على الأرض، ولا يوجد في الإسلام سلم كهنوتي، كما في المسيحية. ناهيك عن ذلك: أن الشريعة الإسلامية هي العمود الفقري للدين، حيث من الصعب التخلي عنها، ويمكن لكل مسلم أن يطبقها، بدون وصايةٍ من أحد.
والحقيقة أن كل الأحزاب والهيئات العَلمانية، في العالمين العربي والإسلامي، التي حاولت أن تقلِّد الأنموذج الغربي - المسيحي، قد فشلت، لأنها لم تأخذ بنظر الاعتبار الخصوصية الإسلامية، وأن الرسول (صلّى الله عليه وسلّم) إلى جانب تأكيده على الشريعة، قد قال للمسلمين: (أنتم أعلم بأمور دنياكم).
ومُصطلح العلمانية اكتسب في العالم الإسلامي سمعة عدائية، ذات دلالة سيئة، خصوصاً بعد سقوط آخر خلافة عام 1924م، على يد (مصطفى كمال أتاتورك)، الذي فسّر العلمانية بأنها حرب شعواء ضد الدين، ويجب تقليد الغرب في كل شيء، مما ولّد كراهية لهذا المصطلح، الذي ارتبط، في أذهان الكثيرين، بالكفر، وهو ليس كذلك في الأمور الدنيوية المستجدة، ولقد تبنى البعض جهاراً فصل الدين عن الدولة، بعد سقوط الدولة العثمانية، مثل: (علي عبد الرازق)، في كتابه (الإسلام و أصول الحكم)، الذي صدر في مصر عام 1925م، وكانت نظريته تقوم أصلاً بأنه لا ترابط بين السياسة والدين، منذ الأيام الأولى لقيام الدولة الإسلامية، وأنه لا توجد نصوص صريحة بوجوب الخلافة. وقد أثار كتابه موجة عارمة من السخط، لا يزال النقاش حولها جارياً، خصوصاً بعد صعود التيارات التكفيرية. وسيبقى الحديث عن العَلمانية، وعلاقتها بالسياسة، قائماً، في البلاد العربية والإسلامية، طالما أن المتمسِّكين بالعَلمانية يرفضون الدين تماماً، والمتمسِّكون بالدين يرفضون العَلمانية تماماً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق