02‏/11‏/2015

بلادي وإن جارت عليّ عزيزة

رولا عبد الرؤوف حسينات
الأردن
ما ظل راسخا حتى يومنا هذا: "أن الأرض هي العرض".. صوّر التاريخ الكثيرين ممن قضوا وهم قابضون على حفنة التراب، يستصرخون: "أموت دونك.. يا أرضي وعرضي، وأنت عليّ أغلى من ولدي".
 أهي مجرد حفنات تراب تنقلها الريح إلى حيث تشاء؟ لكنها ما تستطيع أن تنقل منها إلى أبعد من بوصة، وإن تحالفت قوى الطبيعة على جرفها إلى قيعان موات، فإنها تتأبى على الحراك، بل تراها تناضل هنا، وتتسمر في مكانها هناك.. هي الأرض والبيت والحبيبة والأم، هي كل مفردات يمكن أن تتوشح في حبها حسناء، والحنين دوماً لأول منزل..
 الوطن لغةً: هو المكان الذي يسكنه الإنسان، ويقيم فيه. جاء في (مختار الصحاح). واصطلاحاً: هو البلد الذي تسكنه أمةٌ، تشعر المرء بارتباطه بها، وانتمائه إليها.
أو هو بقعة الأرض التي تولد عليها وتستقر
فيها جماعة ما، وتكوِّن هذه البقعة بيئة حاضنة دائمة لأفراد الجماعة: مستقلين، ومجتمعين. قال (ابن منظور) في (لسان العرب): الوطن: المنزل تقيم فيه، وهو موطن الإنسان، ومحله. يقال: وطن فلان أرض كذا، أي: اتخذها محلاً ومسكناً يقيم فيه.  
 وعند الرجوع إلى كتب المعاجم، والموسوعات، وخاصة السياسية منها، نجد أنها لا تختلف عن المعنى اللغوي.
) ففي (المعجم الفلسفي): الوطن - بالمعنى العام- منزل الإقامة. والوطن الأصلي: هو المكان الذي ولد فيه الإنسان، أو نشأ فيه.
) في (معجم المصطلحات السياسية الدولية): الوطن هو البلد الذي تسكنه أمة، يشعر المرء بارتباطه بها، وانتمائه إليها.
من هذا نجد تباين تعريف الوطن من منظور لآخر، لكنها جميعا في النهاية اشتركت: بأنه البقعة الجغرافية التي يمتد إليها انتماء الإنسان وجذوره. بيد أني أضيف إليه: أنه ليس من الضرورة التواجد المادي في الأرض، وإنما يكون الارتباط الروحي والمعنوي هو الأهم.
وفي هذا إنصاف معقول للذين شردوا من ديارهم، من الأجيال المنكوبة التي وجدت نفسها في بلاد وأراض، غير تلك التي دوّن مسماها في جوازات سفرهم.
أهو ثمن اغترابهم، أن نجردهم من حق التسمية، وحق الحنين، واللهفة، إلى تلك البقعة الصغيرة على الأرض، التي تشغل ملء أنفاسهم، ومشرئبة في حواسهم، وتسري في دمائهم، بل ينبض بها قلبهم الجريح؟!
فلسطين المغتصبة، بوعد مزعوم، لتمثيل حقيقي للوجود الصهيوني، بصفة حق مزيف. قد تجتمع عوامل عديدة في حرمان المرء من أرضه ووطنه، وليس بالضرورة أن تكون له الموافقة، أو الدراية، أو القوة، لمقاومة هذا الاغتصاب العلني للأرض، أو حق تقرير المصير. ولا بد من ربط هذا المفهوم بآخر قد انسلخ عن الوطن، وهو مفهوم المواطنة والوطنية..
فالوطنية تعبير قومي، يعني: حب الشخص، وإخلاصه، لوطنه. (الموسوعة العربية العالمية).
وتعرّف (الموسوعة العربية العالمية) المواطنة بأنها: "اصطلاح يشير إلى الانتماء إلى أمة، أو وطن" (1996م، ص 311). وفي (قاموس علم الاجتماع) تم تعريفها على أنها: مكانة، أو علاقة اجتماعية، تقوم بين فرد طبيعي ومجتمع سياسي (دولة)، ومن خلال هذه العلاقة يقدم الطرف الأول الولاء، ويتولى الطرف الثاني الحماية. وتتحدد هذه العلاقة بين الفرد والدولة عن طريق القانون" (غيث، 1995م، ص 56). وينظر إليها (فتحي هلال)، وآخرون، من منظور نفسي، بأنها: الشعور بالانتماء والولاء للوطن، وللقيادة السياسية، التي هي مصدر الإشباع للحاجات الأساسية، وحماية الذات من الأخطار المصيرية". (هلال، 2000م، ص 25).
أما التعريف الإسلامي للمواطنة، فينطلق من خلال القواعد والأسس، التي تنبني عليها الرؤية الإسلامية لعنصري المواطنة، وهما: الوطن، والمواطن. وبالتالي، فإن الشريعة الإسلامية ترى أن المواطنة هي: تعبير عن الصلة التي تربط بين المسلم، كفرد، وعناصر الأمة، وهم: الأفراد المسلمون، والحاكم (الإمام). وتُتوج هذه الصلات جميعاً، الصلة التي تجمع بين المسلمين وحكامهم، من جهة، وبين الأرض التي يقيمون عليها، من جهة أخرى.
وبمعنى آخر، فإن المواطنة هي: تعبير عن طبيعة وجوهر الصلات القائمة بين دار الإسلام، وهي: (وطن الإسلام)، وبين من يقيمون على هذا الوطن، أو هذه الدار، من المسلمين وغيرهم. (هويدي، 1995م، ص13).
إن مفهوم المواطنة يتضمن حقوقاً يتمتع بها جميع المواطنين، وهي في نفس الوقت واجبات على الدولة، والمجتمع. منها:
1- أن يحفظ لهم الدين.  
2- حفظ حقوقهم الخاصة.            
3- توفير التعليم. 
4 - تقديم الرعاية الصحية.           
5- تقديم الخدمات الأساسية.       
6- توفير الحياة الكريمة.  
7-العدل والمساواة.             
8- الحرية الشخصية، وتشمل: حرية التملك، وحرية العمل، وحرية الاعتقاد، وحرية الرأي.
وهذه الحقوق يجب أن يتمتع بها جميع المواطنين، بدون استثناء، سواء أكانوا مسلمين، أم أهل كتاب، أم غيرهم، في حدود التعاليم الإسلامية. أي: تلك الحرية المكفولة لكل مواطن، بغض النظر عن دينه أو عرقه أو لونه، بشرط ألا تتعدى إلى حريات الآخرين، أو الإساءة إلى الدين الإسلامي.     
3- الواجبـات:        
تختلف الدول عن بعضها البعض، في تحديد الواجبات المترتبة على المواطن، باختلاف الفلسفة التي تقوم عليها الدولة. فبعض الدول ترى أن المشاركة السياسية في الانتخابات واجب وطني، والبعض الآخر لا يراها كذلك. وكذلك: احترام النظام، والتصدي للشائعات المغرضة، وعدم خيانة الوطن، والدفاع عنه، وتنميته.  
إذاً هي مفاهيم أيديولوجية، اجتماعية، لا يمكن فصل عناصرها عن بعضها البعض، على الرغم من اختلاف التيارات والتوجهات والأيدلوجيات، لأنها تشترك بالشروط والرغبات المشكلة للعناصر الأساسية لتشكيل الوطن والمواطنة.
أم هي، حسب المتغيرات الجديدة، والصراعات، والتهجير القسري، التي قد غيرت مفهومها؟! حيث أصبح الوطن: هو مكان العمل، والمال، وهو هوية الولاء والانتماء.
أم أن الفقر والجهل في الوطن أصبح غربة، بحضور المادية، وغياب الثقافة التقليدية، وتلاشي معنى الأرض، على اعتبارها الوطن، تبعاً للمتغيرات المعاصرة؟!
وعلى مر العصور عانى كل من وجهي العملة، لمد وجزر، وقبول ورفض، متمثل بالثورات والنزاعات. ويمكننا أن نعزي هذا نتيجة للخلل الذي أفرزه العجز الاقتصادي في الوطن، ضمن بقعته الجغرافية، التي يفترض أن توفر أدنى مستويات المستوى المعيشي للفرد، نتيجة تشغيل الأيدي العاملة، بكافة مستوياتها، في العملية الإنتاجية. والتي بدورها هي استغلال للموارد الأساسية، من العوامل المشكلة للاقتصاد، من: رأس المال، والمواد الخام، والتكنولوجيا، والوفرة في الأيدي العاملة، والوقت، والقدرة التشغيلية في التصنيع. وإيجاد مشاريع أممية، لتشغيل المقدرات الاقتصادية الأساسية، التي تشترك فيها الدولة كاملة، بجميع مؤسساتها، ضمن استراتيجيات وخطط طويلة الأمد، والتي تساهم في تعزيز الولاء والانتماء لأبناء الأمة الواحدة، ضمن حدودها الجغرافية، وتدافع عنها، كمشاريع تشكل الهوية الفردية أولاً، لأنها تمثّل تحقيقاً لذاته وذات الوطن معاً. بيد أن أي خلل ضمن هذه الأساسيات، يعني: إحداث خلل عميق على المستوى المعيشي، على اعتباره المحصلة النهائية، أو انعكاساً لنجاح صورة النماء الاقتصادي لأي دولة.
ولعلنا نعزي أهمية الاستقرار السياسي، أو الاجتماعي، بتوازنه، القائم على الاستقرار الاقتصادي، ومدى التقدم فيه، بتباين أوجه نشاطه المختلفة، والتي قد ترتفع بالمستوى التعليمي، أو قد تنتقص منه. لذا كان من الممكن إدخال المستوى المعيشي الأفضل على التعريف الحديث للوطن، بل قد يتعدى ذلك ليقدم احترام الفرد، وكفالته من البطالة، وتوزيع عادل للدخل، والذي يعتبر أساساً في الحكم، والتنمية، وتحقيق العدالة، ومساواة الفرص، الذي يشكل القاعدة الأساسية في استمرارية أي نظام سياسي، وتثبيت وجوده، مع تحقيق كافة شروط الدفاع عنه، من معززات الولاء والانتماء، دون تنمية طبقة بذاتها، دون الطبقات الأخرى.
ما عدا ذلك، يؤدي إلى إيجاد هوة اجتماعية كبيرة بين الغنى الفاحش والفقر المدقع، مع انعدام التكافل الاجتماعي، أو ضمور دوره إلى أدنى المستويات. ولن تكتمل الصورة إلا باندماج فعلي، فطري، بين هذه المفاهيم جميعها، لنخلص للوطن النموذج، والمواطن النموذج.
وتبرز هنا مبررات دخيلة لتغير مفهوم الوطن، وأهميته، كالقول المشهور: وطن بلا مال غربة، وغربة بمال وطن..
ويمكن أن نعزي ذلك للعامل النفسي، إذ إن الكدح، في إطار البقعة الجغرافية، التي مسماها وطن، دون أن يقدم الوطن أي من مفردات الحياة الكريمة، كلقمة الخبز، وأي من حقوق المواطنة.. والتي ربطت دوما بالكرامة، لأنها وإن طُعِمَت بها الأفواه، فهي مغمسة بالذل والمهانة، ولن تفرز غير أفراد ناقمين، مخربين، وهم عبارة: عن خلايا نائمة، تسهم بفاعلية في خلق الاضطراب، وركوب أي موجة من الفوضى، في حال عدم خروجهم طلباً للرزق في بلاد أخرى، أو توفير أدنى مستويات المعيشة لهم. وهم - إن زادت أعدادهم- سيشكلون، بمساهمتهم السلبية، زيادة في نسبة الجريمة، وهي أول خطوات ضياع الوطن، وتسليمه لعصابات، أو قوى، هي - بنظرهم- المخلّص من الحالة المزرية، التي يعيشونها، من تجويع وإذلال..
وعلى الحكومات أن تتعامل مع هذه الفئات إيجابياً، وأن تتلمس أوجاعهم وآلامهم، وأن تحاول – جادة- إعادتهم إلى مدارها، كلبنات صالحة، قادرة على البناء، بل ومشاركتهم مشاركة حيوية في العملية التنموية الإنتاجية.
ولا يمكننا أن نستثني الفئة المتبقية، وهي الطبقة الوسطى، التي تشكلت ضمن تسلل منطقي، على مدى عصور قد مضت، بعد الإقطاعية والبرجوازية والارستقراطية، وقد قدر لها أن تبصر النور، بعد تقلص تلك، نتيجة لثورات الحقوق المتلاحقة، والتي أضعفت تلك القوى، وقوضت مدى سيطرتها، وهو ما أدى إلى ولادة هذه الطبقة الوسطى. ولكنها، ونتيجة للضغوط المتعاقبة عليها، قد تآكلت في كثير من الدول. وهي، بكافة مستوياتها، تحافظ على أولوياتها باللحاق برغيف الخبز، والتي وافقت كثيراً من السياسات الاستعمارية.
 مع تلازم نشر سياسة التثبيط، عن طريق نشر الأمثال في اللغة الدارجة لكثير من المجتمعات، والتي درج على تسميتها لغة الشارع، أو العوام. وهي تمثّل إقراراً صريحاً بعدم جدوى المطالبة بالحقوق، أو التغيير الفعلي، الذي يمكن أن يشكل سياسة الخنوع والإذلال وضمان التبعية، لأن حصيلة التوزيع العادل للوفرة المالية والازدهار الاقتصادي، هي رفع المستوى المعيشي والتعليمي وزيادة مدى وعي المواطن بحقوقه وتوسيع أفقه، ليتعلم المزيد ويطالب بالمزيد من الفرص المتوهجة في عصر الازدهار الفكري والعلمي والأدبي.
ومن جهة أخرى، نتساءل: هل يؤمّن العمل، أو الارتزاق، في بلد غير الوطن، لقمة العيش الكريمة، على اعتبارها مفتاح الكنز؟
وهل يمكن التجاوز عن أي خلل في ميزان الحقوق والواجبات، لضمان أمن الوطن؟؟؟
وقد بقيت معاناة الشاعر تحكي قصته في أبيات ما زادته إلا إيلاماً، من قلب موجوع، ووطن ملتهب بين ثناياه..
بلادي، وإن جارت عليَّ، عزيزةٌ
وأهلي، وإن ضنوا عليَّ، كرامُ
بلادي، وأن هانتْ علـيَّ، عزيزة
ولو إنني أعــــرى بهـــا، وأجـوع
ولي كفُّ ضرغامٍ، أصول ببطشها
وأشري بها، بين الـورى، وأبيـــع
تظلّ ملوكُ الأرضِ تلثـُـمُ ظهرهـا
وفـــي بطنها، للمجدبين، ربيــــــع
أأجعلها تحــت الثَّرى، ثـــم أبتغي
خلاصاً لهــا؟ أنـــي إذنْ لوضيع
وما أنا إلا المسكُ، فــي كل بلدة
أضــــوعُ، وأما عندكم فأضيــع.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق